مفكك الألغام.. حكاية مرعبة من زمن الحرب العراقية

يسير “فاخر” الضابط الكردي العراقي بخطوات متأنية محسوبة. لا يكفّ أثناء مشيه عن النظر في الأرض تحته وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه. يتوقف أمام كومة صغيرة من التراب، يُخرج آلة صغيرة من جيبه ويبدأ في النبش في الأرض. إذ إن فاخر -وبالإضافة إلى عمله قائدا عسكريا على مجموعته- يتخصص في تفكيك العبوات الناسفة التي تُركت في كل مكان في العراق بعد عام 2003.
لم يتدرب فاخر على تفكيك المتفجرات، لكنها واحدة من المهام الكثيرة التي أخذها على عاتقه وتمرّس فيها، لتتحول فيما بعد إلى علامة على بطولته، وفي الحين نفسه تراجيديته القاسية.
فاخر الذي سيكون بطل الفيلم التسجيلي “مفكك الألغام” (The Deminer) للمخرج الكردي هوجير هيروري؛ هو ضابط كردي نشأ في كردستان، حيث كان بعيدا إلى حد ما عن متاعب العراق، فمدينة دهوك التي وُلد وعاش فيها كانت بعيدة عن سيطرة الحكومة العراقية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. بيد أن فاخر سيعود مثله مثل الكثير من أبناء تلك المناطق الكردية إلى مشاكل البلد الأُمّ بعد الحرب الأمريكية في العراق، وتفجّر العنف في العديد من المناطق العراقية، ومنها في مدينة الموصل المحاذية لدهوك التي خدم فيها فاخر وكان شاهدا في قلب أحداث مُروّعة للغاية وقعت في المدينة.
بداية مُربكة
لا يبدأ الفيلم التسجيلي الذي أُنتج بالتعاون مع جهات إنتاجية دانماركية وسويدية بمشاهد مألوفة عن الشخصية الرئيسية فيه، إذ اختار المخرجان مشاهد غير متسلسلة أو واضحة تُشير من جهة إلى أن أمرا مأساويا ربما قد حدث في وقت سابق من زمن إنتاج الفيلم، في حين يُربِك حضور فاخر المتواصل والمهيمن في المقدمة ذاتها المُشاهد ويزيد من حيرته، إذ يُمكن أن يفهم المشاهد أن هذا الضابط العراقي قد نجا من العنف الذي تبرزه المشاهد الافتتاحية والتي كانت تُنبئ أيضا بأمر جلل.
يقود التعليقَ في المشاهد الافتتاحية أحدُ أبناء فاخر، حيث يذكر أن والده اشترى كاميرا فيديو صغيرة لتصوير مناسبات عائلية، وذلك قبل أن تأخذ حياتهم منحى آخر مع بداية انطلاق العنف في العراق في أواخر عام 2004، لتسجل الكاميرا نفسها وعن طريق شخص مُقرب من الوالد ما يُمكن أن يكون يوميات عنف مفصلة، والتي صوّرت غالبا الأحداث المتفجرة من مسافات قريبة للغاية، حتى بدا في مواضع أن الحطام كان يضرب عدسات الكاميرا نفسها.
الأكراد في قلب الأزمة
بعد المشاهد الافتتاحية الغامضة والمُربكة يختار الفيلم سردا تصاعديا واضحا يتولى التعليق عليه ابن فاخر وأحيانا فاخر نفسه. تعود هذه المشاهد إلى الوضع قبل عام 2003 في كردستان العراق وفي العراق بشكل عام، حيث يكون سقوط نظام صدام حسين نقطة مفصلية للكرد في شمال العراق، فقد بدا وقتها أن النظام الذين كانوا على خلاف معه قد ولّى دون رجعة، لكن مع بداية عمليات المقاومة المسلحة ضد القوات الأمريكية تيقّن الجميع أن الاستقرار ما زال بعيدا جدا عن العراق.

يكشف الربع الأول من الفيلم كيف أن الأمريكيين الذين كانوا في ورطة مع تزايد عنف العمليات العسكرية ضدهم في منطقة الموصل استعانوا بحلفائهم الأكراد. وكان فاخر ضمن قوة عسكرية كردية انضمت إلى القوات الحكومية العراقية للوقوف بوجه العمليات العسكرية التي أخذت سريعا طابعا إرهابيا دمويا طالت المدنيين في الموصل وغيرها من مدن غرب العراق.
هناك في المواد الأرشيفية التي صُورت مشاهد عديدة لفاخر وهو يُدرّب ويقود قوات عسكرية عراقية ويتعامل مع العسكريين الأمريكيين.
يبرز فاخر من بين أقرانه بشخصيته القيادية الهادئة من جهة، والحازمة في مواقف من جهة أخرى. ففي واحد من المشاهد المهمة على صعيد فهم هذه الشخصية نراه يصرخ بقوة كبيرة في جمع يضم ضباطا أمريكيين وجنودا من وحدته، وذلك بعد أن علا ضجيج الموجودين ولم يعد مُمكنا سماع الضابط الأمريكي الذي كان يتحدث للجمع.
شجاعة فاخر كانت لافتة أيضا، فهو الضابط المهم في وحدته الذي تخصص في تفكيك العبوات والألغام التي كانت تتركها المجموعات المسلحة في الموصل وأطرافها، وتحول تفكيك العبوات الناسفة إلى اختصاص له، علاوة على قيادته وحدة عسكرية كانت توجد في منطقة خطيرة جدا.
مع حلول عام 2006 وتحوّل العراق الى جحيم فعليّ بفعل العنف الذي تفجر بين قوميات وأديان وطوائف مختلفة؛ تتفاقم المصاعب كثيرا على فاخر ووحدته العسكرية، حيث تكون كل طلعة لهم في الموصل مُجازفة كبيرة للغاية. لكن لا تحبط الظروف الخارجية من عزيمة الضابط الكردي، بل على العكس تزيد من إصراره على نشر الأمن وتجنيب المدنيين عنف الفصائل المسلحة.
تُصوّر مشاهد أرشيفية فاخر وهو يتنقل بسيارته العسكرية في أحياء الموصل في شوارع مُخيفة وخالية من الناس تقريبا، حيث يُمكن أن يُطلّ الموت برأسه من كل زاوية طريق، وذلك عن طريق عبوات ناسفة أو سيارات مفخخة تُركت على جوانب الشوارع.
يستعيد الفيلم أوقاتا أكثر سعادة وهدوء من حياة شخصيته الرئيسية، وذلك عبر مشاهد أرشيفية عائلية صورتها الكاميرا نفسها التي كانت تُصوّر يوميات العنف. في تلك المشاهد يظهر فاخر مع عائلته الكبيرة (ثمانية أطفال) وزوجته الشابة حينها وهم يقضون ساعات عائلية سعيدة أحيانا في سفرات إلى مناطق جبلية قريبة من دهوك. يُلاعب فاخر في الفيديوهات العائلية أطفاله خصوصا الصغار منهم، ويبدو كأبِ حنون لكن صارم لا يختلف عن الكثير من الآباء من أبناء جيله.
سوداوية المشهد
يأخذ النصف الثاني من الفيلم منحى أكثر سوداوية، حيث بدا وكأنه يستجيب للظروف الواقعية على الأرض التي كانت تسير نحو الهاوية. تتصاعد الأعمال الإرهابية في الموصل، ويتعرض فاخر لإصابته الأولى التي تسجلها الكاميرا، فبينما كان في سيارته العسكرية في الموصل تنفجر عبوة ناسفة على جانب الطريق وتُصيب السيارة وراكبيها.

ينتقل الفيلم في مشهد لاحق لانفجار السيارة إلى مستشفى في دهوك، حيث كان الأطباء يُخرجون شظايا القنابل من ظهر الضابط الكردي. لم يطل مكث فاخر في المشفى، إذ سرعان ما عاد إلى وحدته وإلى الموصل نفسها التي فقدت الحكومة السيطرة عليها، وتحولت بعض أحيائها إلى ساحات قتال فعليّة.
المشاهد اللاحقة من الفيلم صعبة كثيرا على المشاهدة، بعد أن تبيَّن أن فاخر لا يريد أن يترك موقعه في مقدمة صفوف وحدته في معارك لا تنتهي. وفي مشهد طويل ومُرعب للغاية يخرج فاخر من سيارته ليتحدث إلى رجال وشباب كانوا يقفون على ناصية أحد الشوارع في مدينة الموصل. لا يكتفي فاخر بمخاطرة ترك سيارته العسكرية، بل يبدأ عمله في البحث عن عبوات ناسفة في المنطقة، وبينما يبحث في كومة من النفايات، ينطلق صوت من خارج الكادر صارخا “الله أكبر”، ليعقبه انفجار كبير كان السبب الذي يجعل فاخر يفقد إحدى قدميه.
قائد برجل واحدة
قضى فاخر أسابيع طويلة في مشفى بمدينة دهوك للعلاج من إصاباته العديدة. بدا أن حياة الكردي العراقي العسكرية انتهت بعد فقده إحدى قدميه وإصابته إصابات أخرى. تتابع الكاميرا المنزلية فاخر في حياته بعد الإصابة، ومحاولاته التطبّع مع الوضع الجديد والسير بقدم اصطناعية.
تُصيب الكآبة الضابط العراقي، وبدا أنه فقد الرغبة في الحياة. وفي مشهد مؤثر كثيرا نرى الضابط العسكري وهو يقف حزينا وبقدم واحدة على جانب ملعب كرة قدم صغير حيث كان يلعب أحد أبنائه، وفي مشهد آخر كان يُعنّف بقوة ابنا آخر.

يخالف فاخر كل التوقعات ونصائح الأهل والمقربين عندما يعود بقدم اصطناعية إلى وحدته العسكرية. ونراه بعد عودته في مشاهد عديدة وهو يمارس حياته العسكرية بقدم اصطناعية، ليضيف هذا إلى تراجيديا الرجل.
يجرّ فاخر قدمه الاصطناعية وهو يبحث عن ألغام أو عبوات ناسفة، وأحيانا يجلس على الأرض ويحرّر جسده من ثقل القدم البلاستيكية، ومن جلسته على الأرض يبحث كرجل حكيم مسن عن طرق لفكّ أسرار العبوات الناسفة التي يعثر عليها.
صادفت عودة فاخر إلى الخدمة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل، وعندما نجح الجيش العراقي في طرد التنظيم كان فاخر من العسكريين الذين أخذوا على عاتقهم تأمين عودة أبناء القرى القريبة من الموصل إلى قراهم وتنظفيها من العبوات الناسفة التي تركها التنظيم في كل بيت تقريبا.
تسجيلي بنكهة أفلام الرعب
ينسج المخرجان عملا محكما ومأساويا إلى حدود كبيرة، فقد فاق الرعب في هذا العمل التسجيلي أفلام رعب خيالية متخصصة، إذ كان الموت الفعليّ ينتظر الشخصية الرئيسية في كل زاوية، والمجازفات التي يأخذها تكون لها عواقب كارثية.
تزداد وتيرة الترقب والرعب في الفيلم، ويقود هذا إلى ذاك المشهد المخيف في نهاية الفيلم، وذلك عندما دخل فاخر أحد البيوت الريفية الفارغة، ليكتشف بعدها أن البيت مليء بالمتفجرات التي ربطت بأسلاك، وأن هناك من كان يراقبه وينتظر ليفجر البيت عن بُعد وعن طريق هاتف محمول، وعندما تدوّي الأرض بانفجار كبير تنتهي أخيرا وعلى نحو عنيف للغاية حياة البطل الكردي.

وعلى الرغم من أن الفيلم عنه فإننا لا نسمع فاخر كثيرا، فهو لا يحب الحديث عن نفسه. بيد أننا نتعرف لبعض آرائه في السياسة والحياة، فعندما كان يتحدث إلى مجموعة من أهل الموصل الذين صادفهم في الشارع يُذكرهم بأن “صدام حسين” كان سيدمرّ المدينة كلها لو أنه تعرض لمثل ما يتعرض له الجيش العراقي في المدينة بعد عام 2003 من عمليات مُسلحة.
هناك دلائل على تعفّف فاخر وبُعده عن الفساد الإداري، فهو رغم منصبه المهم كان يعيش مع عائلته في بيت متواضع كثيرا، وهو من البيوت التي بُنيت في سبعينيات القرن الماضي ولم يتم تجديدها. وعندما احتاج فاخر قدما اصطناعية كان ابنه يحاول الحصول على هذه القدم من ألمانيا، ليكتشف هذا الابن أن عائلته غير قادرة على دفع ثمن الطرف الاصطناعي.
ملحمة عراقية
تفرض كثير من الأعمال التسجيلية التي تستند إلى مادة أرشيفية؛ مُقاربات أسلوبية خاصة للالتفات إلى محدودية المادة الفيلمية. هذا أمر لم يشكُ منه فيلم “مفكك الألغام”، حيث إن وفرة المادة الأرشيفية للأخير جعلته لا ينحصر صوريا أو زمنيا ضمن مساحة ضيقة. حتى إن الفيلم بما عرضه من مشاهد والزمن الذي تناوله يقترب من الملاحم السينمائية.
ربما لم يدر في خلد الذي صوّر المادة الأرشيفية وقتها بأنها ستتحول إلى وثيقة شديدة القوة عن زمن عراقي مُرعب، وبأن هذه المادة ستشّكل أساسا لواحد من أفضل الأفلام التسجيلية عن العراق ما بعد 2003.

يترك المخرج بصمته الخاصة في مشاهد قصيرة هائلة التأثير يختتم بها فيلمه، حيث صوّر محلات عادية في مدينة دهوك كانت تضع صورا مختلفة لفاخر على جدرانها، فالبطل الكردي انضم دون أي شك إلى أبطال مأساويين آخرين في ذاكرة هذا الشعب المخضبة بالدماء.
في خلفية تلك المشاهد كانت موسيقى الفيلم المعبرة (من تأليف محمد زكي) تعزف لحنا كئيبا ويائسا يستعيد بدوره بهدوء حياة الكردي العراقي العاصفة.