“ما وراء الخط”.. سؤال القتل في بيئة معادية

يُعيدنا الفيلم الحربي المثير “ما وراء الخط” للمخرج الكندي جيسون ميلز إلى ويلات الحرب العالمية الثانية وكوارثها المتعددة في مختلف الجبهات التي استسلم فيها قرابة ثلاثة ملايين جندي ألماني نازي منذ بداية الحرب وحتى الأيام الأخيرة من شهر أبريل/نيسان 1945. غير أن قصة هذا الفيلم تتمحور على الجنود الألمان الذين لم يستسلموا، وظلوا يتعقّبون جنود التحالف في الغابات المحاذية للحدود الهولندية وغيرها من جبهات القتال.
لا شكّ في أنّ قصة الفيلم بسيطة وخالية من الحذلقات الفكرية، لكنها إنسانية وعميقة تضع المُشاهد أمام سؤال القتل بهدف الدفاع عن النفس، أو لإشباع شهيّة الانتقام بإراقة المزيد من الدماء، علما بأنّ الشخصيتين المحوريتين مصابتان بـ”متلازمة اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD).
فالجندي البريطاني سيدني بيكر هو الناجي الوحيد من سرب الطائرات التي سقطت خلف خطوط العدو الألماني، وظل أسيراً لهذه المتلازمة، لكنه لم يُقْدم على القتل إلاّ في دفاعا عن النفس.
أما الثاني فهو الجندي الأمريكي وليام سامرز الذي بقي في الغابة من أجل الانتقام من الألمان الذين دمّروا وحدته كاملة، وسوف يموت فيها بعد أن يقتل عشرات الجنود الألمان بحجة تأدية الواجب الوطني المُناط به بعد أن ذبح النازيون جنود وحدته كما تُذبح الماشية.
عدسة المُخرج وقلم المؤلف
ينتمي هذا الفيلم إلى “سينما المؤلف”، فالمخرج جيسون ميلز يستعمل عدسة الكاميرا والعناصر السمعية في الفيلم كما يستعمل الكاتب قلمه في التأليف، والفيلم بالنتيجة يجب أن يُذيّل باسم المخرج كما يذهب الناقد السينمائي الأميركي أندرو ساريس الذي طوّر هذا المفهوم بالاعتماد على آراء الناقدَين الفرنسيين المعروفين أندريه بازان وألكساندر أستروك.
ولو دققنا في هذا الفيلم لوجدنا أن جيسون ميلز لم يكتفِ بالإخراج، فقد ساهم في التصوير والموسيقى والمؤثرات الخاصة، إضافة إلى التمثيل وتصميم الأزياء والمونتاج والإنتاج، كما ساهم في كتابة السيناريو بهدف تحقيق رؤيته الإخراجية. فعدسة الكاميرا تساوي القلم وتوازيه وتحلّ محله، ومُخرج الفيلم هو مؤلف بالضرورة.
يعتمد المخرج في هذا الفيلم على تقنية الاستعادة الذهنية (فلاش باك) كبنية إطارية تنحصر فيها الأحداث، إذ نرى العجوز المتقاعد سيدني بيكر وهو يزور قبر صديقه الأمريكي وليام سامرز الذي أنقذ حياته، وأمدّه بعنصر الشجاعة في لحظات الوهن والتردد، وهو يعتذر له عن عدم إيصال رسالته وقُرص الهوية لزوجته سارة وابنه جيك، وذلك لإصابته باضطراب ما بعد الصدمة وخشيته المفرطة من استعمال الطيران المدني وسيلة للتنقّل.
حروب لا تندلع في الجبهات فقط
تبدأ أحداث الفيلم بالمهمة الأخيرة التي أُسندت إلى سرب الطائرات البريطانية المقاتلة بعد انتهاء الحرب مباشرة، لكن السماء اشتعلت برصاص مقاومة الطائرات فأُسقط السرب بكامله خلف خطوط القتال وتعلّق بعض الطيارين على أغصان الأشجار الشاهقة، بينما سقط البعض الآخر على أرضية الغابة التي تعِجُّ بالمقاتلين الألمان الذين لم يستسلموا رغم الأوامر الصادرة لهم من الجهات العُليا.

ومن هذا المشهد الدرامي الذي نرى فيه سيدني بيكر مُعلّقًا على غصن شجرة بحبال مِظلة الهبوط، تنطلق أحداث القصة المكتوبة بحرفية واضحة تُهيمن فيها الصورة على الحوار، لأن المُخرج يستعمل العدسة في تدوين الوقائع والأحداث، وما إن يقطع بيكر حبال المظلة حتى يسقط على الأرض، لكنه لسوء الحظ يسقط على السكّين فتخترق لحم فخذه الأيمن وتُعيق حركته قليلاً.
وفي خضم المواقف الصعبة يحلم بيكر بالعودة إلى الديار واحتضان عائلته الصغيرة، أو الخروج إلى الشوارع لمعانقة المحتفلين بانتهاء هذه الحرب الوحشية التي التهمت ملايين العسكريين والمدنيين من كلا الطرفين، لكنها وضعت أوزارها في خاتمة المطاف رغم أنّ هذا المقاتل البريطاني دفع ضريبة باهضة طوال حياته، فالحروب لا تندلع في جبهات القتال فقط وإنما تدور في أذهان وقلوب الناس الذين عاشوها أو تأثروا بها، فكيف بأولئك الذين كانوا حطباً أو ضحايا أبديين لها مثل بيكر وسامرز والملايين من الجنود الذين سِيقوا إلى محارقها من دون إرادتهم؟
وما إن يضمّد بيكر جرحه ويقف على قدميه حتى يجد نفسه في مواجهة جنديين ألمانيين يشهران عليه السلاح ويأمرانه بأن يرفع يديه أولاً ثم يجثو على رُكبتيه. وفي هذه اللحظة العصيبة التي أيقن فيها أنه سيواجه مصيره المحتوم رميا بالرصاص، يطلب منهما أن يأخذا رسالته التي كتبها سلفا لزوجته إيرين ويوصلانها إليها بطريقة ما. في هذه اللحظة المتوترة ينقذه الجندي الأميركي وليام سامرز بعد أن يفتح عليهما النار من بندقيته الآلية ويرديهما قتيلَين في الحال.
شهية الانتقام
لا يستغرق سامرز طويلاً في شرح موقفه، فهو مصرٌّ على الانتقام من الجنود الألمان الذين أبادوا وحدته العسكرية، وأنّ هذه الغابة تضم العديد من الجنود الذي لم يستسلموا، وسيبذل قصارى جهده لتصفيتهم لأن قتل أي جندي ألماني -من وجهة نظره- يعني في المقابل إمكانية عودة جندي من بلدان التحالف إلى دياره.

ثم إن الجنود الألمان يبحثون عن بيكر بحد ذاته، وعليه أن يقرّر في هذه اللحظة إمّا الذهاب لوحده أو الالتحاق بسامرز الذي يتوق لتصفية الجنود الألمان برمتهم في هذه الغابة؟
لم يتراجع سامرز عن فكرة القتل، وإنما أوغل فيها كلما تقدّم به الزمن في الغابة المليئة بالمفاجآت، فلقد حسم أمره سلفًا، أما بيكر فلا يزال يفكر بإمكانية العودة إلى الديار. وبدلاً من قتل الجندي الألماني غوستاف كان يمكن استعماله دليلا للخروج من الغابة، لكن سامرز يُخيّره دائمًا بين البقاء والقتال حتى الرصاصة الأخيرة أو الرحيل بمفرده فيميل إلى الخيار الأول ومؤازرة رفيقه في مهمته العسيرة.
“أسطورة” الجندي الأمريكي
ينبغي ألا ننسى بأن السينما الغربية عموماً، والأمريكية منها بشكل خاص، تقدّم الجندي الأميركي بطريقة أسطورية، فهو يشبه السوبرمان الذي لا يُقهر ولا ينهزم بخلاف الواقع الذي يقول العكس. قد يكون الجندي الأميركي متدرباً بشكلٍ جيد، أو حَسِن اللياقة، أو مُلمّاً بالتقنيات الحديثة، لكنه إنسان بالنتيجة، والضعف البشري هو من أهمّ الصفات التي يشترك بها الإنسان في كل مكان بغض النظر عن عِرقه ودينه ولون بشرته ولا مجال لأسطرته.

فسامرز هذا المقاتل الذكي والشجاع الذي وضع روحه على راحة يده قُتل بقذيفة هاون ولم تنفعه الجرأة والألمعية والإقدام. وبينما هو يلفظ أنفساه الأخيرة في مشهد مُروّع يعترف لرفيقه بيكر بأنّ لديه زوجة تُدعى سارة وابن يسمّى جيك، وقد طلب منه أن يوصل رسالته إليها، وأن يسلّم ابنه قُرص الهوية، وأن يخبرهما بأنه حاول قدر المستطاع أن يكون أمينًا في تأدية الواجب المناط به، الأمر الذي يضعنا أمام إشكال أخلاقي جديد وهو القتل المتعمّد الذي يقع خارج مبدأ الدفاع عن النفس، وينزلق إلى الاغتيال والوحشية التي تُغرق ساحات المعارك بحمّامات من الدماء.
يأخذ بيكر مسدس رفيقه سامرز ويستمر في اختراق الغابة إلى أن يفاجئه مقاتل ألماني مسلّح فيصوب كلاهما نحو الآخر، ويتوسل بيكر كثيرا الألماني أن يدعه يمرّ لأن لديه زوجة وطفلة صغيرة تنتظر أن يحملها بين يديه، لكن إصرار الآخر وعناده دفع بيكر لأن يُطلق النار ويرديه قتيلاً في الحال.
يأخذ بيكر زمزمية القتيل ويواصل رحلته العسيرة التي تُوصله إلى مرحلة الإعياء فيسقط منهارا، لكنه يعضّ على أسنانه وينهض من جديد ليصل إلى بيت مزارع هولندي يُدعى إنجلز يسحبه ويخبئه في الحظيرة. وعلى الرغم من أن جنديين ألمانيين أوسعاه ضربا فإنه لم يعترف بوجود بيكر وأخبرهما بأنه ذهب في الاتجاه المعاكس وجعلهما يُطاردان شبحا لا أثر لوجوده.
تعاطف مع الضحايا
لعل المخرج أراد هنا أن يُحيّي آلاف الأشخاص الذين خبؤوا الضحايا في أقبيتهم والزوايا السريّة لمنازلهم متحملين سوء العواقب والمفاجآت التي قد تودي بحياتهم في طرفة عين. فمثلما أنقذ سامرز حياته وأوقد فيه فتيل الشجاعة والعزم على مواصلة القتال، فإن إنجلز الهولندي قد خلّصه من موت مُحقق وصار مَدينًا بحياته لشخصين، الأول قادم من أميركا، والثاني هولندي انبثق له مثل الملاك ودفعه إلى الحظيرة لينقذ حياته في لحظة حاسمة يكتنفها الذعر والترقّب الشديدين. لم يكتف إنجلز بإنقاذ حياة بيكر وإنما أحسن وفادته، وأعاده إلى بلده حينما انتهت مظاهر الحرب كليا.

لم يكتمل قوس البنية الدائرية، ففي مستهل الفيلم رأينا سيدني بيكر وهو يمشي وسط القبور، لكننا نراه في النصف الثاني من القوس وهو يتقدّم صوب قبر رفيقه سامرز ليعتذر له ويخبره بأنه أراد المجيء غير مرة لكنه كان خائفًا من الطيران بسبب الصدمة التي تعرّض لها. وهذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها إنجلترا وقد جلب معه عائلته الصغيرة وأحفاده. وشكره لأنه أنقذ حياته ومنحه الشجاعة التي كان يفتقر إليها. وفي نهاية هذا المشهد المؤثر يضع الرسالة التي لم يستطع إيصالها إلى سارة وقُرص الهوية الذي لم يصل إلى جيك على حافة الصليب، ويتمنّى له أن يرقد بسلام.
الإيغال في الترويع
تشتمل القصة السينمائية لهذا الفيلم على الكثير من الأحداث والمفاجآت، وقد توقفنا عند أبرزها، لكن حريّ بنا أن نشير إلى بضع حوادث أخرى لها علاقة وطيدة بثيمة الفيلم ورسالته الفكرية.
فالشائع عن الأوروبيين أنهم يحبّون الكلاب ولا يستغنون عنها في حياتهم الاجتماعية، وربما يكون الكلب رفيقهم داخل المنزل وخارجه، ومع ذلك فإنّ الجندي الأميركي وليام سامرز الذي جسّد شخصيته الممثل جاكسون برلين لم يجد حرجا في قتله بقنبلة يدوية موقوتة موّهها تحت أوراق الأشجار، كما قتل أو أصاب الجندي الذي يقوده إلى الأماكن المُشتبه بها التي تحتوي على ضمادات الميدان التي وزّعها على الأكَمَات المحاذية للطريق النيسمي.
وعلى مقربة من حافة الغابة ثمة بيوت اتخذها الألمان مقرات عسكرية لم يتورع سامرز من التسلل إليها وقتل العديد من جنودها ثم العودة إلى الغابة مجدّدا لممارسة عملية قتل الجنود الألمان، وثمة اشتباكات كثيرة تحدث بينه وبين الألمان الذين لم يستسلموا كُليًا لدول التحالف.

لم تأخذنا الصورة العائلية التي يحملها الجندي البريطاني سيدني بيكر -الذي أدى دوره ببراعة شديدة الممثل كريس وولترز- إلى شوارع بريطانيا أو الحي الذي يسكنه هذا المقاتل، وإنما اكتفى المخرج بالتركيز على الحالة النفسية المضطربة التي يعيشها هذا المقاتل في أرض عدوّة كانت توحي له بأن الخروج منها هو أشبه بالمستحيل لكنه نجا بجلده وعاد إلى الوطن حتى وإن ظل يحمل معه مخاوفه الشديدة، وانكساراته التي لا تتوقف عند حدّ.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مواقع التصوير بدت مختلفة تماما عن البيئة الأوروبية، فالمعروف أن تصوير هذا الفيلم قد تمّ في كولومبيا البريطانية التي تقع غرب كندا، وقد كشفت اللقطات الرئيسة عن مشاهد الأشجار الباسقة جدا بينما يتحرّك الجنود في الأسفل وكأنهم كائنات صغيرة تدبُّ على الأرض.
ينطوي الفيلم على مَشاهد مروّعة، فثمة مقاتل انغرس فيه غصن مكسور ومدبب وخرج من كتفه، وهناك العديد من الجنود الذين تفجّرت رؤوسهم بصليات نارية متعددة، وثمة طائرات تحترق في السماء وأخرى تشتعل بقاياها على الأرض، ولكن مهما طالت الحرب فلا بد أن تنتهي ذات يوم بعد أن تدفع الشعوب أثمانها الباهضة ثم نشرع بترميم ما دمّرته العقول المتوحشة في ساعات الغضب والجنون.
جدير بالذكر أنّ المخرج جيسون ميلز أنجز سبعة أفلام من بينها “جاؤوا من العلّية” و”ثلاث ساعات للموت” و”ذُهان الكائن الفضائي” وغيرها من الأفلام التي نالت استحسان النقّاد والمشاهدين على حدٍ سواء.