“احتراق”.. شظايا النفوس الجائعة إلى معرفة كنه الوجود

خالد عبد العزيز
“في صحراء كالاهاري (في جنوب أفريقيا) شعب اسمه البوشمن، يُقال إن البوشمن لديهم نوعان من الجياع، جائع صغير وجائع عظيم. الجائع الصغير هو من يُعاني من الجوع جسدياً، والجائع العظيم هو من يعاني من الجوع إلى السبب الذي نَعيش من أجله، وإلى معرفة معنى الحياة، الشخص الذي يبحث عن هذا النوع من الإجابات هو الجائع حقاً، لذا يسمونه الجائع العظيم”.
بتلك الكلمات التي تِرد على لسان “هيمي” بطلة فيلم “احتراق” (Burning) (2018) نَجدها تُعبر بسلاسة عن مضمون الفيلم الذي أخرجه المخرج الكوري الجنوبي الشهير “شانغ دونغ لي” والمأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب والروائي الياباني “هاروكي موراكامي”، وقدم لها المُعالجة السينمائية والسيناريو “شانغ دونغ لي” بمشاركة “جانغ مي أوا”.
عن الإنسان وغربته في هذا العالم وانسحابه للداخل نحو ذاته، تنطلق الفكرة الرئيسية للفيلم لآفاق فلسفية أرحب باعثة العديد من الأسئلة من عينة: ما هي الحياة؟ وما الذي أتى بنا إلى هذا العالم؟ وهل نتنمي له حقا؟ لتصبح هذه الأسئلة بؤرة ومركز تنطلق منه الأحداث التي لا تخلو هي الأخرى من نقد لاذع للنظام العالمي الحديث الذي يجنح نحو ثقافة الاستهلاك مما يوسع المسافة بين الأثرياء والفقراء.
وفي إطار يُغلفه الغموض وتحفه الإثارة تدور أحداث الفيلم عن “لي جونغ سو” الذي يعمل في نقل البضائع بدوام جزئي بإحدى الشركات، يلتقي مصادفة بابنة قريته وزميلته القديمة “هيمي” لتنشأ بينهما علاقة حب، تتبدل على أثرها حياة “لي جونغ سو” ولا تَعود لهدوئها السابق أبداً.
غربة في عالم لا يرحم
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه “لي جونغ سو” وهو يسير بصعوبة من فرط الزحام في إحدى الأسواق التجارية في العاصمة الكورية الجنوبية سول والخلفية الصوتية تُشير إلى دعاية ضخمة لأحد المنتجات المعروضة، ليُدخلنا الفيلم مباشرة في معترك أحد أفكاره وهو نقد النظام الاقتصادي العالمي الذي يقوم على الثقافة الاستهلاكية بصفة عامة، يُخاطب غرائز المستهلكين ويعمل على إثارتها بصفة دائمة.
ويستمر السيناريو في استكمال نقده للسياسات العالمية، ففي أحد المشاهد نرى “لي جونغ سو” وهو يقضي حاجته وخلفه شاشة التلفاز تعرض خطاباً للرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث عن إجراءات الإصلاح الاقتصادي والبطالة وتحسين حالة المواطن الأمريكي بصفة عامة، لتصبح فِعلة “لي جونغ سو” بمثابة سخرية واستهزاء ليس بشخص الرئيس الأمريكي بقدر ما هي سخرية موجهة نحو نظام لا يعبأ بالفقراء ولا يخدم سوى الأثرياء.
على صعيد الأفكار التي يطرحها الفيلم، تبدو أفكاره متسقة مع بعضها البعض ومغزولة بعناية، فهذا العالم غامض بقدرٍ يستحيل معه التكيف، فنجد أن اختيار الشخصيات للعزلة والانسحاب للداخل هو المسيطر عليها، وهذه أحد أهم الأفكار التي يُعبر عنها الفيلم.
ففي أحد المشاهد نرى هيمي وهي تصف مشاعرها بعد رؤية غروب الشمس أثناء رحلتها في أفريقيا قائلة “يبدو وكأنني وصلت إلى نهاية العالم.. تمنيتُ أن أختفي كما لو أنني لم أكن موجودة أبداً”. الشعور بالغربة في عالم لا يرحم، يلهث وراء المادة ولا يعنيه سوى من يدفع أكثر، كل هذه الأفكار تتحد جميعها وتتضمن سرد الفيلم الذي يتصاعد تدريجياً، وكلما تصاعدت الأحداث كلما تبلورت الأفكار أكثر فأكثر.

عالمان متضادان
خلق السيناريو عالمين متوازيين تدور في رحاهما الأحداث وتتشكل وتتصاعد؛ عالم داخلي وآخر خارجي، لكل منهما سماته وشخصيته، صحيح أنهما يلتقيان لكنهما يظلان على الحافة، فاللقاء بينهما مشوب بالحذر.
فالعالم الداخلي يُمثل النفس الإنسانية وما بها من تناقضات وأسئلة شتى تبحث عن إجابة قد يعثر عليها الإنسان أو تدور دائرة حياته وتكتمل دون أن يُمسك بيقين ثابت يشفي غليل تلك الأسئلة، ذلك العالم الذي ينتمي إليه “لي جونغ سو” و”هيمي” التي ترغب في السفر إلى أفريقيا لتبحث عن معنى الحياة، تسعى لاستكشاف ذاتها المتوارية خلف حواجز ومتاهات النفس اللامرئية، تتوق للوصول للكمال، للثراء الحقيقي الذي يكمن بالداخل. في مقابل عالم آخر لا يحكمه سوى المادة خارجه، براق وجذاب دون شك لكنه خاوٍ.
تلتقي “هيمي” أثناء رحلتها في صحراء أفريقيا “بِين” ذلك الشاب الثري الغامض، لتشتد وتيرة الصراع. “بِين” الذي لا تبدو له مهنة مُحددة لكنه مع ذلك ثري، يرى أن الأمر لا يعدو أن يكون أكثر من لعبة، لا يكاد يُثار بأي مشاعر إيجابية أو سلبية، ففي أحد المشاهد نراه وهو يصف حياته قائلاً “الحياة لعبة”، ونجده يضحك حينما تنتاب “هيمي” نوبة بكاء بعد وصفها لمشهد غروب الشمس في أفريقيا، لتبدو حياته أشبه ببالونة ضخمة شكلها خاطف للعين لكنها لا تحوي سوى هواء يسهُل تسريبه لتصبح نسياً منسياً.
ليس مصادفة أبداً أن يختار السيناريو أن ينسج صراعه بين هذين العالمين المتضادين، بل ويجعلهما مُنجذبين إلى بعضهما البعض بشكل أو بآخر. فعالم “هيمي” و”لي جونغ سو” يبدو أكثر ثراء “على المستوى الداخلي النفسي” مُقارنة بعالم “بِين” الذي يبدو وكأنه فارغ لكنه ثري بالفعل “على المستوى المادي”، كل منهما يهوى الآخر وإن كان على استحياء.
“هيمي” التي تقع في شِراك علاقتها الجديدة مع “بِين” تنجذب لعالمه الغريب المُختلف كلياً عن عالمها، وهو أيضاً يجد نفسه مُنساقا وراءها، لسبب هو نفسه لا يدركه، فكل منهما يتجه نحو الآخر بخُطاً ثابتة، كل منهما يرى شيئاً مُغايراً في الآخر مُكملاً له، فقد رسم السيناريو عالم الأثرياء وكأنه لا يحوي سوى الخواء النفسي والروحي، لا يعنيهم سوى ملء بطونهم، أما ذواتهم الخاوية فهي عالم آخر منسي بالنسبة لهم.
ففي أحد المشاهد نرى الثلاثي “هيمي” و”لي جونغ سو” و”بين” في سهرة تجمعهم بأصدقاء “بين” الأثرياء مثله، لنجد أن “هيمي” ترقص إحدى الرقصات الصوفية التي ترمز لمعاناة الإنسان روحياً، تندمج في الرقص في حين البسمة المشوبة بسخرية تعلو وجوه أصدقاء “بين”.

ثلاثة نماذج
عبّر سيناريو الفيلم عن أفكاره المتعددة من خلال شخصياته الثلاث التي تدور حولها الأحداث، من خلالهم تنطلق الأحداث وكأنهم هم المركز والبؤرة، ليصبح هؤلاء الأبطال الثلاثة رموزاً لنماذج إنسانية، لكل منهما شخصيته المتفردة التي تُميزه عن الآخر، لكنهم في النهاية يلتقوا، حتى وإن كان هذا اللقاء قصير المدى لكنه حتمي.

“لي جونغ سو”.. ثابت لا يتغير
فالبداية مع “لي جونغ سو”، حياته تسير بمنوال ثابت لا يتغير، يعمل في نقل البضائع ويسعى لأن يُصبح كاتباً روائياً، لكنه فعلياً لا يُمارس الكتابة أو حتى القراءة المنتظمة، لديه الحلم لكن ينقصه الشغف والقدرة على التنفيذ، تبدو الحياة بالنسبة له وكأنها مبهمة وغير مفهمومة بما يكفي، لذا نجد ملامحه يُسيطر عليها الذهول أغلب الوقت بل والبلاهة أحياناً أخرى، حتى نطقه للكلمات يبدو هو الآخر مُتأثراً برؤيته للعالم المحيط به، وكأنه يسأل نفسه سؤالا دائما لا يتغير: ما الذي أتي بي إلى هذا العالم؟
فشعور الغربة هو المُسيطر عليه وكأنه يتقوقع بداخل كرة زجاجية يستكشف ما حوله من خلالها. وبالنظر إلى حياته سنجد أنه يُعاني من حياة تعيسة إلى حد ما مع والده الغريب الأطوار الذي ينتهج من الغضب السريع والزعيق أسلوباً له يُغلف كل حياته، مما يجعله يقع في العديد من المشاكل، وبالتالي تتأثر حياة “لي جونغ سو” الذي يكن كراهية مُبطنة لوالده. ومع ذلك لا يشعر بالأمان إلا داخل مزرعة والده، ولا تنكشف شخصيته الحقيقية إلا هناك، لذا نجد ملامحه تتبدل وتنزاح عنها غربتها ولو جزئياً حينما يطرق قلبه حب هيمي، وكأنها بدخولها حياته تتسع آفاقه وتسكن روحه القلقة الغريبة عن هذا العالم، تنتشله من عالمه المنزوي وكأنها يد إلهية ترفعه مرتبة أعلى.

“هيمي”.. تتوق للارتواء
أما “هيمي” الشخصية الرئيسية التي يدور حولها الصراع؛ فتبحث عن معنى أعمق للحياة، روحها تتوق للاكتمال، تسعى للارتواء، دوماً تسأل نفسها سؤالا يبعث الهدوء من مرقده: ما هي الحياة؟
تحوي شخصيتها من الغموض أكثر من الوضوح، فمنذ لقائها الأول مع “لي جونغ سو” تبدو وكأنها تُخفي الكثير، تُحدثه عن نشأتهما سوية في قريته لكنه فعلياً لا يتذكرها، وهكذا تسرد عليه العديد من المواقف بينهما وهو ثابت على موقفه لا يتذكر، بشكل يجعلنا نرتاب فيما تقوله، مثل القط الذي تَدعي أنها تعتني به في منزلها، وحينما يذهب “لي جونغ سو” لا يظهر هذا القط مطلقاً لكن فضلاته المتناثرة تدُل على وجوده، مما يجعل الأحداث تبدو وكأنها تقع في الشق الفاصل بين الواقع والخيال.
وحينما تلتقي “هيمي” “لي جونغ سو” تلقي إليه بعضا من حيرتها وتساؤلاتها عن ماهية العالم، ليصبح “لي جونغ سو” مُتشبثاً بها، لكنها كالطير لا عُش ثابتا لديها. ففي أحد المشاهد تصف ما بداخلها قائلة “أريد أن أختفي مثل غروب الشمس.. الموت مرعب جداً”. فهذا العالم الذي لم يكشف أسراره بعد لا يُلائمها، لذا تختفي فجأة مثلما ظهرت فجأة، وكل محاولات بحث “لي جونغ سو” مصيرها الفشل، فقد اندثرت كأن لم تكن.

“بِين”.. ثراءٌ خاوٍ
تُعد شخصية “بين” هي الأغرب في الشخصيات الثلاث، ظهوره المفاجئ الذي يدفع الأحداث للأمام، تلتقي به “هيمي” أثناء رحلتها في أفريقيا، وبالتالي يظل السؤال الأساسي عن الشخصية يطرق أذهاننا: من هو؟
فقد رسم السيناريو شخصية “بين” ونسج حولها سياجا من الغموض، تتفكك طلاسمه تدريجياً كلما تقدم السرد. نراه في أحد المشاهد وهو يصف ذاته بأنه مولود ليكون صحيح الجسد، وفي مشهد آخر يقول إن دموع الأشخاص تفتنه، لأنه -حسب قوله- لا يبكي ولا يشعر بالحزن، يرى نفسه وكأنه أعلى من البشر ومن كافة المشاعر الإنسانية التي تنتاب البشر العاديين، فروحه خاوية ونفسه كذلك، لا نفهم له مهنة مُحددة، ثري ومتحقق لكنه على المستوى الروحي لا يملك شيئاً.
يبوح لصديقه الجديد “لي جونغ سو” بهوايته الغريبة وهي حرق البيوت البلاستيكية في القرى الريفية كل شهرين، يشعر بنشوة وبصدى دقات قلبه تتصاعد بداخله، مما يوحي برمزية للفعل ذاته، البيوت البلاستيكية المتناثرة في القرى يملكها صغار المزارعين، وكأنه بفعلته يحتقر ويُنكل بهؤلاء الفقراء، تبدو سعادته والنيران تتأجج وكأنه نيرون.

سوداوية بلمسة شاعرية
يواصل المخرج شونغ دونغ لي في هذا الفيلم -وهو السادس له- بناء عوالمه التي يتميز بها؛ الغموض والسوداوية مع العناية الشديدة بالتفاصيل، فإيقاع الفيلم متمهل هادئ، تكتنف أجواءه الغموض ممزوجة بلمسة شاعرية، ففي مشهد من أرق مشاهد الفيلم نرى هيمي وهي ترقص أثناء غروب الشمس، وتؤدي بجسدها حركات طقسية تسعى للاندماج مع الطبيعة وفهم كنهها، فقد تميزت الصورة في هذا المشهد بالتحديد بالإضاءة الزرقاء الخافتة التي تُشير إلى الحزن الذي يقبع بداخل الشخصيات الثلاث.
يتلقى “بين” اتصالاً هاتفياً من “لي جونغ سو”، يتقابلان على أثره في إحدى الطرق الصحراوية المُغلفة بالثلج، وفور أن يلتقيا يُخرج “لي جونغ سو” سكينه الحادة ويغرسها في جسد “بين” ثم يضع جثته داخل سيارته الفارهة ويخلع ملابسه ويحرق كل ذلك معاً، ليبدو فعل الحرق وكأنه ثأر أو تحرر.
“لي جونغ سو” الذي ينتمي لطبقة أدنى من “بين” ويراه وكأنه “جانبي العظيم” حسب قوله، يتخلص منه وكأنه يتخلص من هذه الطبقة التي لا تَقدر القوانين ولا النظم الاجتماعية على الحد من توحشها وتطرفها الذي يؤثر بشكل أو بآخر على “لي جونغ سو”، وبالتالي تتضح دلالة اسم الفيلم “احتراق” برمزيته المُستترة الحاوية للعديد من الأسئلة التي تعصف بالذهن عن الحياة التي لا نفهمها.