“امرأة أخي”.. هواجس امرأة في عالم رمادي
ندى الأزهري
ليس لأنه فكاهي طريف، أو نسوي شديد، أو لفوزه “بلقب” لجنة تحكيم “نظرة ما” في مهرجان كان الأخير، بل ربما لما يوحيه عنوانه واسم صانعته؛ “امرأة أخي” لمونيا شكري يثير فضولا ما لمشاهدته، فهو يحيل على الفور إلى تعبير يحمل معان عدة لدى العائلات الشرقية، لعله إذاً قصة من قصص المهاجرين إلى بلاد الله الواسعة والبعيدة، الحاملين معهم تقاليدهم العائلية، بمزاياها وعبئها.
لكن الفيلم ومع إثارته لشيء من خيبة أمل، وبعضٍ من تململ أثناء المشاهدة، وإحساس بفراغ ٍ لأثر لم يبق طويلا بعدها؛ يحتوي جِدّةً في الطرح لهذا النوع من المواضيع، ويدفع باتجاه التفكير نحو هذه المسافة التي تضعها مخرجته مع أصلها العربي -أو نصفها العربي، فهي من أبّ تونسي وأمّ كندية- ونحو اكتشاف البعد الجديد في تناول علاقة عائلية منتمية في نحو ما إلى الجنوب، وفي نواح كثيرة إلى الشمال.
خيبات عاطفية وغيرة
تقطن العائلة مونتريال في مقاطعة كيبيك الكندية، وصوفي (آن إليزابيث بوسيه) شابة ثلاثينية دكتورة في الفلسفة، ذكية لكنها دون عمل وتعاني مثل جيلها بداية حياة مهنية صعبة، لهذا تقيم مؤقتا عند شقيقها كريم (باتريك هيفون). تبدو أواصر علاقتهما متينة وتتراوح بين حبّ متملّك من جهة صوفي لأخيها وغيرة عليه، وبين صداقة قوية يميزها نوع من توافق وانسجام يبدو من الصعب على أي كان التأثير فيهما.
لذلك حين يقع كريم في حبّ الطبيبة النسائية التي أجهضت أخته، تشعر صوفي وكأن العالم على وشك الانهيار من حولها. وهي -وعلى الرغم من شعورها بالتخلي حين يتركها الأخ لينصرف كليا لحبيبته الجديدة، ورغم ما يعترضها من خيبات عاطفية على الأخص- استطاعت الخلاص، وهذا بعد مرروها بمرحلة مضطربة وحافلة بالمواقف المرتبكة والعدوانية تجاه المحيط القريب -أي الأخ وصديقته وأمها- والبعيد -أي الأصدقاء- والانعزال، وبدأت تولد من جديد وتتابع طريقها.
لم يكن هذا سهلا عليها، فليس هناك شيء تتعلق به، لا علاقة حبّ ولا عمل، إنها أيضا مثال لهذا الجيل من الجامعيين وحاملي الشهادات العليا الذين لا يفلحون بالحصول على وظائف رغم كفاءتهم العلمية، وفي بعض الأحيان الثقافية.
العائلة المكونة من أبّ من أصول عربية وأم كندية -في إيحاء إلى أصول مخرجة الفيلم- لا تبدو عائلة نمطيّة من تلك التي تبديها أفلام عن المهاجرين، ولا تدخل مسألة الأصول في سير الأحداث، فهذا ليس الموضوع الذي يهمّ المخرجة، إنها من خلال قصة بطلتها تسرد شيئا من ذاتها وأناها الشديدة الخصوصية وأجوائها، ومن ضمنها العائلية لا سيما علاقتها القوية مع أبيها والأقوى مع أخيها.
الأبوان مطلقان محافظان على صداقتهما، والبطلة تعاني أزمة وجودية، فهي في منتصف الثلاثينات من العمر ولا صديق أو زوج ولا وظيفة أو سكن، وما يخففُّ من وضعها هذا الارتباط القوي بالعائلة، فهي تزورها بانتظام، ولكن مع تحوّل في علاقتها الأخوية الأشد تأثيرا عليها تقعُ في حالة من الارتباك الكلي.
تساؤلات وجودية
الفيلم مع هذا ليس تماما سيرة ذاتية لمونيا شكري، وليس كذلك فيلما فكاهيا خفيفا بحتا مع محاولات المخرجة عبر الموقف والحوار جعل فيلمها طريفا، وهو كان كذلك في بعض الأحيان، لكن الإلحاح والتشنج والهستيريا في حوار لا ينقطع وثرثرة مستمرة ومواقف مكررة انتهوا بإثارة تعبنا وفرض الحياد على مشاعرنا، وبهذا لم تثر الشخصيات ما يجب أن يحصل وهو الإحساس بها والشعور بنوع من التضامن معها كما حصل في فيلم “يوميات بريدجت جونز” (2001) لمخرجته شارون ماغواير والذي يحيل “امرأة أخي” إليه بأسلوب السرد وطرافة الشخصيات.
وعلى الرغم من أن المخرجة أرادت لبطلتها أن تكون “شخصية إنسانية يجد الكلّ نفسه فيها” كما صرحت في حوار ترويجي للفيلم في مهرجان كان، فإنها لم تنجح تماما، إذ بدت صوفي شخصية نسائية تماما برغباتها وعلاقتها بجسدها وعائلتها ومتطرفة في علاقاتها.
وعلى الرغم من أن البطلة تطرح الكثير من التساؤلات عن قضايا مصيرية ووجودية، كهذا العالم الذي يحيط بها أسود أم أبيض أم رمادي؟ عن الحياة والإنسان.. فإنها في تعاملها مع قضية هامة في حياة المرأة بدت لا مبالية بل هازئة.
ففي أمر الإجهاض مثلا وحرية المرأة بالتصرف بجسدها، لم نلمس أيّ شعور بالذنب لدى البطلة أو نقاش عما يمثله لها هذا في استجواب ذاتي مثلا. لقد بدت القضية وكأنها أمر طبيعي تماما بل ومادة للسخرية يجب عملها وهذا كل شيء.
أيضا لا أسئلة واضحة عن الهوية والانتماء بشكل خاص سوى في مشهد وحيد في الفيلم يشير من قريب إلى أصل الأب وذلك حين يكون في حوار حميمي مع ابنته ويقول لها “حين أرى ما وصل إليه الراعي الآن فهذا ليس بقليل على أية حال..”.
مشهد آخر أثارت فيه المخرجة مسألة الهجرة حين أدخلت الواقع في الخيال ووضعت في النهاية مهاجرين حقيقيين وظهرت معهم في المشهد وهم يتعلمون الفرنسية وخرجت هكذا من الروائية إلى الواقع. مزج جزء من الوثائقي في الروائي يبدو أنه دائما هناك مع الموجة السينمائية الكندية الجديدة.
لكن المخرجة مونيا شكري تمكنت من المحافظة على هذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين علاقة “طبيعية” للأخوين وبين “المحرمات”، وكانت مقنعة في ترجمة الشعور بالضيق الوجودي أو الغليان الداخلي لبطلتها. كما نجحت في الحفاظ على خيط رفيع آخر يفصل بين الروائي والواقعي، عبر تحكم جيدا في موضوعها الذي تسرد فيه بعض الشيء حياتها وهذه العلاقة القوية مع أخيها.
من التمثيل إلى الإخراج
هذا أول فيلم للمخرجة الشابة (1983) التي بدأت حياتها الفنية ممثلة، فمثلت في فيلمين للمخرج الكندي كزافييه دولان “الحبّ المتخَيل” (2010) الذي عرض في كان و”لورنس على أية حال” (2012). وعن سبب تحولها من التمثيل إلى الإخراج تقول شكري في حوار ترويجي لفيلمها “امرأة أخي” إن الإخراج يغيّر كل شيء، وتذكر أنه حين قدمها تيري فريمو مدير مهرجان كان للمخرج الأمريكي جيم جارموش كسينمائية شابة، شعرتْ فجأة بأن تواصلا يحصل ونقاشا حقيقيا يُخلق “أنا هنا بسبب أفكاري وهذا يغيّر كل شيء، لديّ سلطة حقيقية بفضل كلمتي”.
كما أن كونها ليست ممثلة مطيعة ولديها آراء بشأن السيناريو وعمل المخرج؛ دفعها للعمل مخرجة “بدلا من أن أكون غير راضية قلت لنفسي يجب أن أنطلق لأرى إن كنت سأفعل أفضل”. كما تضيف لا يُطلب من الممثلات كثيرا الحديث ولا يتمّ التوجه إليهن بنفس الطريقة التي نتوجه بها نحو المخرجين “فهؤلاء هم من “يخلق الفنان”. ولذلك فهي أكثر ارتياحا كمخرجة لأنها تفضّل التحكم بأفكارها على التحكم بصورتها.