الفيلم المغاربي القصير.. أسئلة الذات والآخر
عبد الكريم قادري
الفيلم الروائي القصير سيد في جنسه، لا يختبئ في جبة الروائي الطويل كما يعتقد البعض، ولا يمكن أن يكون تمرينا أوليا لفيلم روائي طويل مثلما يقول آخرون، فهو مستقل في الشكل والمضمون، يملك عناصره ومقوماته التي تسمح له بأن يُبرز فنيته ويُقدمها للعالم بكل ثقة، له جمهوره، مهرجاناته، جوائزه، وتكريمه في أكبر وأعرق مهرجانات السينما في العالم، وهو اعتراف منهم بأهمية واستقلال هذا النوع السينمائي، وفك ارتباط صريح بكل من يريد ممارسة الأبوة عليه من طرف الطويل.
جزء كبير من صنّاع السينما في العالم العربي يعون هذه الأهمية، وعليه قدموا العديد من الأفلام الروائية القصيرة التي حازت تقدير العديد من الجهات، أهمها مثلا الفيلم الروائي اللبناني القصير “موج 98” لإيلي داغر، الذي حصل على السعفة الذهبية من مهرجان “كان” السينمائي في دورته الـ68 سنة 2015، وهي أعرق جائزة يمكن أن يصلها فيلم قصير في العالم، وطبعا هناك العديد من الأفلام الأخرى التي ربما تفوق في جودتها الفيلم المذكور، لكن الحظ لم يحالفها.
وعليه وجب القول بأن الفيلم الروائي القصير موجود، ويشق طريقه ليجد مكانا بين سينمات العالم، ومن الأشياء التي جعلتنا نطلق هذه الأحكام متابعتنا المستمرة للإنتاج العربي، وهذا ما وقفنا عليه مثلا من خلال متابعتنا للدورة الثامنة للمهرجان المغاربي للفيلم بوجدة الذي أقيمت فعالياته من 11 إلى 15 يوليو/تموز 2019، وقدم من ضمن البرنامج العام مسابقة أساسية في الفيلم الروائي القصير، وهذا ما جعلنا نسلط الضوء على مواضيع هذه الأفلام وطرق صناعتها.
“إخوان”.. إفرازات العنف والتطرف
لم تخرج العديد من الأفلام المنتجة في السنوات الأخيرة من مواضيع التطرف والإرهاب، هناك من قدم معالجات سطحية لهذه الظاهرة، وقلة قليلة فقط قدمت معالجات عميقة تعكس حجم هذا الموضوع وأهميته في البلدان العربية والإسلامية على السواء.
ولأن كل البلدان العربية عايشت ظواهر التطرف وإفرازاته بشكل أو بآخر، فإن كل فرد بات يعي جيدا أهمية ومدى ملامسة هذا الموضوع لوجدان المشاهد. وبما أن المخرج جزء من نسيج هذا المجتمع فإنه من الواضح أنه يتأثر ليعكس هذه العاطفة على منتجه السينمائي، وذلك من خلال عمل يرى بأنه يقدم إضافة تعرّف بجزء من هذه الظاهرة.
من هنا وجدنا بأن نسبة كبيرة من الأفلام المشاركة في مسابقة الفيلم القصير بالمهرجان المغاربي تتطرق إلى موضوع التطرف والإرهاب، سواء بالتصريح أو التلميح، أهمها حسب اعتقادي الفيلم التونسي “إخوان” وهو روائي قصير من إنتاج تونسي كندي سويدي قطري مشترك، ومن إخراج مريم جوبار. وقد سبق للعمل أن شارك في العديد من المهرجانات الكبرى وحصد الكثير من الجوائز.
وتكمن أهمية الفيلم في طريقة معالجته لموضوع الحالة التونسية، ويتعلق الأمر بالعائدين من بلدان التوتر والأعمال المسلحة، حيث اختارت المخرجة عائلة بسيطة تمتهن رعي الأغنام، ذات ملامح مميزة، تعيش بمنطقة ريفية بالشمال الغربي لتونس، وبينما كانت تعيش روتينها اليومي تفاجأت الأسرة بعودة الابن الذي كان منخرطا في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مع زوجة سورية، ومن هنا تنقلب الأمور، حيث يقوم الأب بالتبليغ عنهم، ليكتشف في الأخير بأن ابنه عاد هاربا منهم بعد أن وقف على حقيقتهم، ومن هنا يبدأ الألم.
استطاعت المخرجة أن تزرع كمية كبيرة من الأحاسيس، وتجعل المشاهد يقف متأملا الوضع الضبابي للعائدين من الجماعات المتطرفة والمسلحة، حيث شخّصت حالتهم دون أن تنتصر لجهة على أخرى، وحثت المتلقي على الوقوف مطولا على حيثيات هذه القضية والإلمام بتفاصيلها قبل إطلاق أي حكم نهائي عليهم.
“أغنية البجعة”.. انتصار الجمال على القبح
الفيلم المغربي “أغنية البجعة” ليزيد القادري يقدم هو الآخر نظرته إلى التطرف، حيث يقدم لنا فيلما دون حوار، لكنه يحمل لغة سينمائية قوية، من خلال تنوع المشاهد التي تجمع الموسيقى والتشكيل والعمران والعزف والرقص، يجمعه أحد الشباب الذي كان يحمل حقيبة ظهر، ومن الملاحظ بأنه كان مكلفا من أجل تنفيذ عملية انتحارية في مركز ثقافي، لكنه عندما وقف على هذه الفنون، تحركت أصابع يده وانتصر الفن الذي كان يسكن فيه على التطرف الذي زرع فيه، وبدأ يعزف على آلة القيثارة، ليخرج مسرعا في الأخير، ويرمي بحقيبته المزودة بقنبلة مؤقتة.
ولم يصور لنا المخرج هذه النهاية حتى يترك الجمهور يتخيل النهاية التي يريدها، لكن رسالة الفيلم كانت قوية جدا، وهي أن القبح مهما كان فإن الجمال ينتصر عليه، والكره مهما كبر فإنه يصغر أمام الفن والحب.
“هذي هي”.. صدمة ما بعد الواقعة
فيلم “هذي هي” للمخرج الجزائري يوسف محساس، هو فيلم يعكس بشكل أو بآخر قضايا التطرف والإرهاب، وفي هذا الفيلم بالذات يعود المخرج إلى سنوات الدم “العشرية السوداء” التي وقعت في الجزائر، ويروي قصة الزوجين إلياس وسارة اللذين لم يكملا بعد العقد الأول من زواجهما؛ لديهما ابنة اسمها نازك، ويستأجرون بيتا تملكه امرأة تقطن المهجر.
كل فرد يحب العائلة على طريقته، الأب يبحث عن الفرصة الكبرى ليحيا مع عائلته حياة رغيدة، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وتدخل العائلة في حالة من الغموض والمشاكل، بعد أن زاد حجم دين الزوج، بالإضافة إلى أن الزوجة تعيش على الذكرى السيئة التي عاشتها في طفولتها مع “الجهاديين” الذين اعتدوا على أسرتها أمام عينيها، وقد أثرت هذه الذكرى على حاضرها، أي أن الماضي أثر على حياة الفرد، واستمرت صدمة ما بعد الواقعة.
“قلق”.. الخيانة الزوجية
كان لموضوع الخيانة والانتصار للذكرى نصيب مهم من جملة الأفلام المشاركة في المسابقة، ومن بين أهم هذه الأعمال باكورة علي بن جلون “قلق”، حيث بسط بعض مفاهيم الخيانة لدى الأسر ذات الدخل المتوسط، والتي يعكسها محام يخون زوجته باستمرار، رغم أنه يعيش حياة أسرية جميلة معها ومع الأولاد.
لكنه سقط في إحدى المرات في براثن الابتزاز، حيث حاكت له زوجته مؤامرة، استطاعت أن تعاقبه من خلالها أشد العقاب، حيث تنازل لها عن ممتلكاته، بالإضافة إلى الانتقام منه شر انتقام، وهذا ما سيترك المتفرج يرى انعكاس مرارة الانتقام على الأسرة والمجتمع.
“سودة”.. التمييز في موريتانيا
السينما الموريتانية كانت حاضرة هي الأخرى بفيلم واحد، وهو “سودة” للمخرجة أمال سعد بوح، ويعكس الفيلم التمييز العنصري لدى بعض الأسر الصحراوية الذين ينظرون إلى صاحبة البشرة السوداء على أنها أقل قيمة منهن، بالإضافة إلى استغلال الزوج لها جنسيا، وهو ما جعل هذه الخادمة تُعجّل الرحيل، بعد أن عاشت جحيم العبودية والتمييز العنصري والاستغلال الجنسي من قبل الأب؛ ترحل لتبحث لها عن مكان ما تتنفس فيه الحرية.
“حورية”.. الانتصار للذكريات
الفيلم التونسي “حورية” للمخرج المغربي أسامة عزي، ينتصر للذكريات الجميلة، وإلى الحب الذي كان واقعا وأضحى ذكرى، تعكسه حورية التي تقع معها المشاكل بشكل يومي في القرية، ولا يريد أي شخص أن يتعامل معها، لا لشيء إلا لأنهم لم يفهموها.
تعيش حياتها بشكل عادي، حيث تبيع الخضر في السوق، وتعود إلى بيتها، إلى أن قررت ذات يوم أن ترحل إلى المدينة لزيارة إحدى المطابع، حيث سحبت كمية من الصور لزوجها الذي فقدته، ونشرت ووزعت تلك الصور، وهنا عرف الكل سبب تلك الآلام المكبوتة التي كانت تعيشها هذه المرأة الوحيدة.
قدم الفيلم العديد من الجماليات، من بينها التمثيل الذي عكسته الممثلة المخضرمة فاطمة بن سعيدان، التي استطاعت أن تعكس الوحدة على تصرفاتها، وأدت الدور باحترافية، وهذا ما جعل الفيلم يخطف الكثير من الجوائز في المهرجان، حيث جعل للذكريات التي يعيشها الفرد أهمية كبيرة، وكل شخص يخبئ في جعبته كمية كبيرة من الأسرار بعضها يسبب الألم والبعض الآخر يسبب الفرح.
“يسار يمين”.. جناية التطرف
وغير بعيد عن السينما التونسية يقدم فيلم “يسار يمين” للمخرج درديري درسا في كيفية قهر الأسرة وتحطيمها، وهذا عن طريق الوالد الذي يعمل مدرسا، وفي الوقت نفسه يدرس في صفه ابنه الصغير الذي قهره وحطم أجمل ما فيه بسبب الأفكار المتطرفة التي تسكن فيه، وفهمه القاصر لتعاليم الدين الإسلامي.
فالأب يفرض على ابنه أن يأكل ويكتب ويتعامل باليد اليمنى، لكن الولد لا يستطيع، وهذا جعل الأب يعاقبه بوحشية عدة مرات، حتى إنه حرمه من أن يلعب في أحد فرق كرة القدم بالرجل اليسرى، حيث أغلق عليه الغرفة، وهذا ما جعل الطفل يخرج من النافذة، حيث ربط الحبل في باب الغرفة، وعندما فتحها الأب سقط الطفل، ومن هنا ولدت المأساة، وتبين بأن الأب خان ثقة أسرته وولده بالتحديد، إذ لم يوفر له الحنان والأمن المطلوبين، ولم يكن له السند.
“نقطة صفر”.. المدينة وحقيقتها
الفيلم الجزائري “نقطة صفر” للمخرج نسيم بومعيزة يقدم نظرته للمدينة عن طريق شاب يعيش في إحدى المدن الداخلية، وتضطره الظروف للسفر إلى العاصمة، وهناك يرى حقيقة هذه المدن القاسية، بداية من بيروقراطية الإدارة، ومرورا بظلم الشوارع وقسوتها، وانتهاء بمشاهد الدم والدمار النفسي الذي يعيشه بين هذه المحطات.
من هنا يظهر الوجه الحقيقي للمدينة التي لا ترحم الغرباء، ولا تقدم للمعظم سوى الإسفلت البارد الذي يقصم الظهر ولا يداويه.
“الفيلسوف”.. الريف وفضاؤه
أما المخرج المغربي عبد اللطيف فضيل فيقدم في فيلمه “الفيلسوف” نظرته إلى المجتمع من خلال الفضاء المكاني “الريف”، ففي الفيلم يلتقي نبيل لدى وصوله إلى قرية أزاغار في مهمة إحصائية، موظفا جمركيا، يرافقه في غالب الأحيان خمسة أطفال لا يبدو أنه والدهم، لتراوده أسئلة مجنونة.
من هناك تكون نظرة نبيل بعين محللة للأشياء، خاصة إلى الموظف الجمركي الذي يعيش حياة لا مبالاة، ورغم أن خيانة زوجته مستمرة فإنه يطلق على كل فرد من أبنائه صفة يعرف من خلالها اسم الذي ارتكب تلك الخيانة، لكنه في الوقت نفسه لا يغضب ولا يقوم بأي رد فعل تجاه هذا الموضوع، وكأنه عرف عن العالم حقائق لا يعرفها البشر من خلال عيشه المستمر في الغابة، وعمليات الصيد التي تنفذها في البحرية.
“مرشحون للانتحار”.. مستقبل الإنسان
وفي فيلم “مرشحون للانتحار” للمخرج المغربي حمزة عاطفي، يقدم قراءة حداثية لما بعد الريف والمدينة والحاضر، عن طريق هذا الفيلم الذي يحكي حسب ملخصه “كالمعتاد وفي كل سنة، توفر الدولة إمكانية لـ5% من سكانها للتضحية من أجل المصلحة العامة، كل مدينة تتوفر على مبنى يدعى دار التضحية، لهذا يقرر لعرب خوزوزو بعد أن يئس من الحياة بعد التهميش الذي عاشه أن يقدم نفسه للتضحية”.
يقدم هذا الفيلم قراءة عبثية لما سيحدث مستقبلا للإنسان بحكم التصاعد المستمر لمؤشر الاستغلال، كما أنه خرج من القوالب الجاهزة للأفلام القصيرة من ناحية المواضيع، وقد كان المخرج شجاعا في هذا.
“سينابس”.. تصرف على سجيتك
والشيء نفسه قام به المخرج الجزائري نور الدين زروقي في فيلمه “سينابس”، حيث قدم مجموعة من الأشخاص في حافلة، كل شخص يخاف أن يتصرف على سجيته خوفا من رأي الآخر فيه، إلى أن انقلبت المعادلة، وتصرف كل فرد على سجيته.
وهي دعوة صريحة من المخرج إن يتصرف كل شخص على طبيعته، دون أن ينتظر من الآخر أن يحكم عليه.
وقد قدم المخرج بكل شجاعة هذا الفيلم في نطاق ضيق ومنغلق، لكنه استطاع أن يتحكم في تصرفات الممثلين وأدوارهم، وأظهر مقدرة واضحة في تسييرهم في هذا المحيط الضيق، وإن كانت هناك بعض المشاهد المغرقة في الرمزية، لكنه استطاع أن يخلق لغة سينمائية جميلة.