البحر الأبيض المتوسط.. كوارث سبع تهدد مهد البشرية

ندى الأزهري

مع أنه يحتوي على 10% من نسبة التنوع في الكائنات الحيّة عالميا، ويتمتع بثروات استثنائية، فإن البحر الأبيض المتوسط -إذا استمر الحال على ما هو عليه- قد يصبح أكبر “بحر ميّت” في العالم، فهذا البحر نصف المغلق الذي لا يُجدّد مياهه إلا كلّ مئة عام؛ يقف اليوم على حافة الهلاك.

ثمّة علامات تشهد على ذلك يُبديها بوضوح وثائقي فرنسي قام به “أليكس ماران” في فيلم بعنوان “البحر المتوسط.. هل سيُمضي الصيف؟”، والذي عمل عليه على مدى سنتين، حيث ينبّه المخرج ويحذر من السباق الجهنمي على البحر المتوسط، وهو سباقٌ يسعى للاستغلال وجني الأرباح على حساب احترام النظام البيئي لهذه الجوهرة الثمينة.

نقطة الانطلاق التي حرّضت أليكس على التحقيق في الأمر كان تقريراً نُشر عام 2016 لمنظمة الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) البيئية عن “مرض” البحر المتوسط نتيجة عوامل كثيرة.

صحيح أن بلدان المتوسط الـ29 ليست لديها الانشغالات المتعلقة بالبيئة نفسها، ولا تتمتع بالتطور الصناعي نفسه، ولا تؤثر كلها بالقدر نفسه كمّا ونوعا، إنما هي كلها تساهم على نحو أو آخر في التسبب بخطر ما يهدد البحر المتوسط.

من لبنان مرورا باليونان وتونس والجبل الأسود وإيطاليا وفرنسا، يورد أليكس ماران الرهانات البيئية والمعارك الاقتصادية، ويستجوب المسؤولين والمقاولين وأصحاب الشركات والسكان المحليين والجمعيات الأهلية ليُبدوا وجهات النظر، فيكشف بتحقيقه العميق والغني عن تواطؤ السياسيين ورجال الأعمال الباحثين عن المزيد من الأرباح، عن الخطر المحتمل من التجارة البحرية المعولمة وسياحة البواخر والشواطئ المُباعة لمن يدفع أكثر، كما يبين كارثة النفايات المدفونة تحت العقارات الجديدة للأغنياء، والتلوث الصناعي والحياة البحرية التي تختفي شيئا فشيئا من الشواطئ.

لا يكتفي أليكس بهذه المصائب، بل أيضا بما يرافقها من مآسٍ اجتماعية تتمثل بأمراض جديدة، وصعود مقاولين ووكلاء سياحة ومسؤولين يغتنون باستغلال موارد البحر ومياهه أو سواحله على حساب صيادين فقراء أو حرفيين صغار يواجهون انخفاضا متزايدا لنشاطاتهم. وما أكثر الفضائح التي تُبشّر بمستقبل مظلم لهذا البحر الأبيض.

 

كوارث المتوسط السبع

قُسّم الفيلم إلى سبعة أقسام كل منها يتيح إحاطة جيدة بمشكلة محددة يسببها بلد معين يقع على المتوسط، وتتلخص في مشكلة النفايات والكثافة السكانية على الشواطئ في لبنان، والتلوث الصناعي في تونس، والسياحة الجماعية في إسبانيا، والنقل البحري المبالغ به في اليونان، والبناء المتزايد على السواحل في الجبل الأسود، وتدمير الحياة البحرية في فرنسا، والاستثمار النفطي في إيطاليا.

ركّز الفيلم وأعطى مساحة أوسع من مدته البالغة ساعة ونصف للمشاكل الناشئة أو المتزايدة بوتيرة خطيرة خلال العشرين عاما الأخيرة، فاهتم بها أكثر من المشاكل القديمة المعروفة مثل التلوث الصناعي والبواخر المحمّلة بالنفط والمواد الكيميائية في البلدان الصناعية المُطلة على المتوسط، حيث المحاولات على الأقل ظاهرية للاهتمام بالبيئة من قبل المسؤولين.

في الصيف يتزاحم 300 مليون على ذرات الرمال، وتُستهلك المياه بكميات هائلة

 

إسبانيا.. كارثة السياحة الجماعية

“حين نتحدث عن بلد يعيش على اقتصاد السياحة، فإنه من الأفضل القول إنه يموت بسبب السياحة”. صحيح أن المال يدخل، لكن لمن؟ لا أحد يحسب كيف تُدمَّر بنية البلد وتراثه بسبب ذلك. هذا ما يخلص إليه الفيلم ويسعى للبرهان عليه، لذلك يكرّس مساحة واسعة تقترب من نصف مدته لمشكلة صحيح أنها ليست جديدة تماما لكن آثارها تضاعفت في السنوات الأخيرة، ويكشف الفيلم بسرد متكامل ومنظّم ما تسببه السياحة بأوجهها العديدة من أثر مدمر على البحر الذي هو الوجهة السياحية الأولى في العالم.

في الصيف يتزاحم 300 مليون على ذرات الرمال، وتُستهلك المياه بكميات هائلة، ويزداد استهلاك المصادر البحرية وتلوث الجو والماء، وهو ما يسيء إلى جغرافية السواحل ويغير شكلها لا سيما في إسبانيا، هناك حيث تختفي أسماك السردين شعار المتوسط، وتنتشر السياحة الجماعية عبر البواخر الضخمة المخصصة لها، ليقضي فيها السائحون إجازاتهم التي تتنقل بين عدة موانئ.

هذه البواخر التي تغدو أضخم فأضخم تعتمد الوقود الثقيل والتي ازداد عددها مرتين خلال السنوات العشر الأخيرة، وتستخدم اليوم مئة ميناء في أنحاء العالم، وتُعدّ كارثة بيئية حقيقية.

لا يكتفي الفيلم بالأرقام وبآراء الخبراء والمدافعين عن البيئة، بل يعتمد إعطاء أمثلة واقعية أيضا، فيلاحق السائحين ويرصد تحركاتهم والمشاكل التي يسببونها للبيئة، فكيف لجزيرة مثل الباليار في إسبانيا البالغ عدد سكانها 400 ألف أن تستقبل في اليوم ثماني بواخر ضخمة يهبط منها 7000 شخص مع كل ما يتركونه من نفايات واستهلاك للمياه، إضافة إلى ما تستهلكه هي من وقود وطاقة كهربائية؟!

وفي لقاء بالمسؤولين يبدي الفيلم عدم اكتراث هؤلاء شبه الكامل بالبيئة، بل إن بعضهم -مثل مدير الموانئ في الباليار- “فخور بإستراتيجية تطوير مثل هذه السفن”، عدا أنهم يدعمونها ماليا، فيما يعاني السكان بسببها تلوثا أخطر مما تسببه السيارات من تأثير مَرَضي على التنفس والدماغ.

حركة المرور في البحر لا تقتصر على البواخر السياحية واليخوت، فها هو النقل الذي لا يتوقف لحاملات النفط والمواد الخطرة، لا سيما في بحر “إيجة” المعرّض للرياح والعواصف التي قد تضطر الناقلات لتفريغ حمولتها من المواد الخطرة، حيث نصف الحوادث البحرية خلال 15 عاما كانت هناك.

البواخر السياحية الضخمة تشكل مصدرا كبيرا للتلوث

 

الجبل الأسود.. الفقراء يعطون الأغنياء

بسبب السياحة أيضا ورغبة الكثيرين بالاستقرار على السواحل، يُشير الفيلم إلى تزايد العَمار الإسمنتي على الشواطئ، فلا حدود لشهية المتعاملين بالعقارات. وهنا ينتقل الفيلم من إسبانيا ومبانيها الكثيرة المخصصة للطبقة الوسطى إلى بلد يعتمد السياحة “الفخمة”، وذلك ببنائه شققا مجهزة بمسبح لكل منها، حيث يصل سعر الشقة الواحدة إلى ثمانية ملايين يورو.

لقد كان “بورتو مونتنيغرو” أحد الموانئ المصنفة ضمن التراث العالمي لليونسكو، وبقي محميا من السياحة بفضل الشيوعية والحرب في يوغسلافيا، لكن ها هو الجبل الأسود يبني ويبني ليصبح مرفأ لليخوت الفخمة، ويُضحّي بآخر جوهرة من شواطئه للأغنياء والمستثمرين، كما هو مستعد حتى للتضحية بتصنيف اليونسكو له.

لا يتحرّج المخرج أليكس من مقابلة المسؤولين ومجابهتهم بالمعلومات، وذلك في دور استقصائي هدفه ليس فقط الكشف وإنما التنديد والإنذار بهدف عمل شيء قبل فوات الأوان، لكنهم كانوا يتهربون أو يفتخرون بإنجازاتهم أو يرفضون اللقاء معه، ويكشف الفيلم تواطؤ السلطة مع المستثمرين الأجانب، وكذلك الوعود الكاذبة لهؤلاء بتنظيف الميناء من المواد الملوثة وخلق الوظائف، لكنهم من 500 ألف وظيفة موعودة لم يوفروا سوى ألف فقط، هذا على الرغم من تمتعهم بمزايا ضريبية هائلة كما يقول أحد المدافعين عن البيئة في الفيلم، إنهم في هذا البلد “يأخذون من الفقراء لإعطاء الأغنياء”.

يثير الفيلم بالطبع مشكلة النفايات، حيث يُعد البحر مكبّا لها
في لبنان تُشكل النفايات مُشكلة كبيرة، حيث يُعد البحر مكبّا لها

 

لبنان.. كابوس بيئي

في سرد مشوّق يتنقل فيه المخرج بين البلدان والمشاكل الجديدة والقديمة ويحاور كل الأطراف ليلقي الضوء بكل موضوعية على كل الجوانب، يمرّ أحيانا مرورا سريعا على بعض البلدان، ويتوقف أكثر عند بعضها كما أسلفنا.

ينتقل الفيلم للحديث عن الكثافة البشرية العالية جدا على شواطئ المتوسط، إذ إن 150 مليونا يسكنون المدن المطلة عليه، مما يُشكّلُ نصف عدد سكان حوض البحر المتوسط. هنا يكرس الفيلم حيزا واسعا للحديث عن لبنان، حيث الكثافة السكانية واحدة من بين الأعلى في العالم، ويتكدس 90% من سكانه على السواحل.

ويثير الفيلم بالطبع مشكلة النفايات، حيث يُعد البحر مكبّا لها، ويطرح حيثيات تلك الكارثة التي عصفت بالبلد وما زالت، ويتحدث للصيادين ومنظمات حماية البيئة، ويحاول الحديث مع المسؤولين، لكن لم يقبل أيّ وزير الحديث معه، فالتقى لدقائق قليلة محافظ بيروت “الفخور” بتطور بيروت.

وفي مدينة ترمي 750 طنا من النفايات يوميا في مكبّ مؤقت على البحر، ومع أنابيب المياه المستعملة التي تصبّ فيه، والبحر المدفون تحت النفايات والبنايات المعمرة عليها، والصيادين الذين تمتلئ شباكهم بهذه النفايات، فإن ما يحصل هو “كابوس بيئي” حقيقي يدينه مسؤولون في جمعيات أهلية، ويدينون معه الفساد والرشاوى.

يهتم الفيلم في تونس بالتأثير المباشر على أهل المدينة
في تونس يُرمى يوميا 600 طن من المواد الملوثة التي لا تخلو من عناصر مُشعة في البحر

 

تونس.. كل شيء أسود

يعرّج الفيلم على تونس وعلى مدينة قابس الواقعة في الجنوب، حيث معمل الفوسفات الذي يعتبر مصدرا هاما للاقتصاد من خلال تصديره إلى أوروبا والعالم أجمع، وحيث يُرمى يوميا 600 طن من مواد ملوثة لا تخلو من عناصر مُشعة في البحر.

يهتم الفيلم هنا بالتأثير المباشر على أهل المدينة، “فكل شيء بات أسود”، يقولها رجال بعيون دامعة تبكي ما آلت إليه أحوال الصيد والواحات، فبعد أن كان الشاطئ جنة للصيادين بسبب تنوعه الهائل، فإنهم الآن مضطرون للإبحار بعيدا للحصول على القليل الذي لا يكفي حاجاتهم الشخصية.

لقد تخلّى السكان عن زراعة أراضيهم بسبب الكارثة، فلا شيء يقاوم ظروف التلوث التي يسببها المعمل. “لقد قتل المعمل أحلامنا.. إنه غول” كما يقول صياد بتأثر شديد، هذا غير الأمراض الجديدة.

تعِدُ السلطات بعد الثورة بحلّ لذلك، لكن إلى الآن لا شيء، إلا أن الناس يتّحِدون معا لإغلاق الوحدات الملوثة، فهل البحر الأبيض المتوسط مهد البشرية سيصبح قبرها؟

تخلص وزيرة فرنسية سابقة للبيئة في نهاية الفيلم إلى أنه إن لم يكن هناك إرادة سياسية لفتح نقاش سيُغضب الكثيرين، فلن يتخذ أحد مسؤولية حمايته.


إعلان