“خانِق”.. الطبيعة في مواجهة شراهة الحضارة

خالد عبد العزيز
في لوحة “الصرخة” للفنان النرويجي “إدفارت مونك”، نرى تشكيلات لونية مُتجانسة للغروب بألون تميل نحو الكآبة والحزن، بالإضافة إلى الوجه الصارخ الذي يحتل المساحة الأكبر من اللوحة، لتصبح اللوحة تعبيرا عن القلق والرعب الذي يُعايشه الإنسان مع بدايات الثورة الصناعية ونهايات القرن التاسع عشر وبداية قرن جديد لا يُبشر بأيّ راحة، خاصة مع ازدياد رقعة الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة التي تتحكم في حياة الفرد.
في الفيلم البرازيلي “خانق” Sultry) 2018) (فكرة وسيناريو وإخراج ماريانا ميلندا، وبمشاركة في كتابة السيناريو من فيليب براجنسي)، نرى وجهة نظر مشابهة، فالأحداث تدور حول المحامية والناشطة الحقوقية “آنا” (ماريانا بروفينزانو) التي تناضل من أجل حقوق الفقراء والمتضررين من أعمال تجديد مدينة “ريو دي جانيرو” البرازيلية، وذلك قبل استضافة البلاد لدورة الألعاب الأولمبية عام 2016، لتبدو المدينة وكأنها تتغير وتكاد تفقد هويتها.
تُعاني “آنا” في الوقت نفسه من أعراض مرض جلدي نادر ينتشر على سهوب جسدها، وهو ما يجعلها تدور في دائرة مفرغة محورها القلق الدائم الذي لا ينتهي.
يبدو الفيلم مهموماً ليس بفكرة الصراع بين الفرد والسلطة في إطاره الأعمّ والأشمل، لكنه يتطرق لما هو أعمق؛ الصراع بين الأصالة والطبيعة والهوية الأساسية للفرد، في مقابل تعنّت وتوحّش الأنظمة والكيانات الرأسمالية التي لا يعنيها سوى مصلحتها هي في المقام الأول والأخير، ولتذهب حياة وأحلام الإنسان والمهمشين تحديدا إلى الجحيم.
بين عالمين مُتناقضين
يبدأ الفيلم بعدة لقطات نرى فيها صورا للطبيعة، فما بين حشرة تسير برفق على أحد الصخور وشلال يتدفق ماؤه، نصل للقطة الرئيسية التي تظهر فيها “آنا” مُسترخية على أحد الصخور بسبب ارتفاع درجة الحرارة الشديد التي لم يسبق له مثيل من قبل، ثم نصل للمشهد التالي الذي يصور تفجير أحد الجسور، ليتناثر الغبار ملوثا السماء بلون أصفر باهت يُلازمنا طوال الفيلم.
نجد أن السيناريو من البداية قسّم الفيلم إلى عالمين كل منهما في مُقابل الآخر، ولكل منهما كيانه وهويته، مما يجعل الصراع يشتدّ بينهما، ويجعل الأحداث تندفع إلى الأمام في تطور دائم.
العالم الأول هو الطبيعة وما تُمثله وتستدعيه من حالة الأصالة، فقد خلق السيناريو هذا الجانب الذي تُمثله “آنا” والفقراء الذين تدافع عن حقوقهم المُهدرة وكأنهم حُرّاس الأرض والطبيعة، “آنا” التي تُناضل ضد الدولة لمنع جرف وإزالة معالم المدينة، وتُنادي بالحفاظ عليها كما هي، وحفظ حقوق الأفراد التي تتآكل بفعل شراهة الحضارة وقوة رأس المال.
أما العالم الثاني فهو الدولة والحضارة الحديثة، ففي هذا الجزء من السيناريو نرى المسؤولين داخل مكاتبهم الفارهة في ناطحات السحاب وهم يتبارون في إهدار حقوق أصحاب الأراضي المُقتطعة لتجديد المدينة، أو وهم يطردون أصحاب الأراضي بالقوة، أو -وهذا هو الأهم- مشاهد تجديد المدينة بماكينات الحفر والهدم التي تُصورها الكاميرا وكأنها وحوش تلتهم كل ما يقف أمامها.

صراع مُتأجج
تكتشف “آنا” وجود بعض التقرحات الجلدية على جسدها، لكنها لا تعبأ بها في أول الأمر حتى تتفاقم، وفي أحد المشاهد نراها تكتشف فجأة انتشار هذه التقرحات في يدها، لتُصاب بنوبة هلع على أثرها، فمع تصاعد عمليات التجديد التي تؤدي إلى تغير عام في شكل وهوية المدينة؛ تُصاب “آنا” بالمزيد من التقرحات، كما تُصاب بنوباب قلق وأرق تُشعرها بمزيد من الغربة والإحساس بالضياع، لتصبح “آنا” مُحاصرة هي الأخرى مثل الفقراء الذين تُدافع عنهم، خاصة مع محاولات مالك البناية التي تسكن فيها بيعها وهدمها لتجديد المدينة، رغم انتماء البناية لعصر سابق يجعلها نادرة الجمال.
خلق السيناريو الصراع الدرامي الذي تقوم عليه أحداث هذين العالمين؛ الطبيعة مقابل الحضارة وآثارها، والرابط بين هذين العالمين هو تلك التقرحات الجلدية، فكلما ازداد الحصار على “آنا” والفقراء من جانب الدولة ومؤسساتها التي لا يعنيها سوى مظهرها الخارجي؛ ازدادت نسبة المرض الذي تُعاني منه “آنا”، وازدادت مُعاناتها النفسية حتى تصل الذروة مع تفاقم الوضع وانتشار تلك التقرحات في كل جسدها، لتصبح هذه التقرحات ليست إلا مُعادلا بصريا للأزمة التي تجري أحداثها في الخارج، فكلما أشتد الوضع قتامة تدهور الوضع الصحي لآنا.
تدور الأحداث في فصل الصيف، وفي فترة تُوصف بأنها الأشد حرارة على مرّ التاريخ، وهكذا تتضح معالم الصراع، فاختيار الزمن ليس مصادفة على الإطلاق، فدرجة الحرارة المرتفعة هنا ليست سوى رمز لارتفاع وزيادة وطأة الضغوط النفسية، كما تُشير إلى المناخ العام الذي يُعاني منه الفقراء، فالجو خانق ولا يُبشر بأيّ خير، وكلما ازدادت الضغوط عليهم ارتفعت درجات الحرارة لأعلى مُعدلاتها، وازدادت نسبة الغبار الذي يُغطي سماء المدينة وكأنها تُغيّر ثوبها إلى الأسوأ.

“آنا”.. التوحد مع الطبيعة
رسم السيناريو “آنا” كشخصية محورية منها تنطلق القصة وتتشعب الأحداث، فالفيلم يبدأ بمشهد نرى فيه “آنا” وهي تُمدد جسدها على أحد الصخور وبجوارها شلال ماء يتدفق بانسيابية، روحها تتماسّ مع الطبيعة وتكاد تتوحد معها، كما أن منزلها يمتلئ بالنباتات والأشجار، حتى طعامها هو الآخر في أغلبه فاكهة، لتبدو الشخصية متحدة مع الطبيعة.
“آنا” مُدافعة بشراسة عن حقوق الفقراء المُتضررين من تحضيرات الأولمبياد، فهؤلاء الأفراد ذوو البشرة السمراء الخلاسيو الجسد (الخلاسي هو المولود لأبوين أحدهما أبيض والآخر أسود) يحتمون بها كالأم.
ففي المشاهد الأخيرة للفيلم نرى هؤلاء المشردين بعد طردهم من أماكن سكناهم وهم يحتمون بالبناية التي تقطنها “آنا”، وكأنهم يستمدون منها الأمان، يُحيطون بها ويرعونها وكأنها أمهم التي تمدّهم بالأمان.

“آنا”.. صلبة هشّة
تتسم شخصية “آنا” بالهشاشة والرِّقة في الوقت نفسه، وعلى الرغم من أن مجال عملها يتطلب قوة وصلابة، فإنه يتطلب في الوقت نفسه رهافة، فتعاطفها مع الفقراء المُهدرة حقوقهم يعكس مشاعرها النبيلة، تلك المشاعر التي تتأثر وتُصاب بالغربة مع تحوّل المدينة واتخاذها منحى آخر مجهول لا تعرفه ولا يُلائمها.
تفقد “آنا” القدرة على النوم، وتكاد تفقد شيئاً ما بداخلها، قدرتها على المقاومة تكاد تنسحب إلى الدرجة صفر، ففي أحد المشاهد نراها وهي تسير كالمنوَّمة داخل البناية تنتقل من شقة إلى أخرى، وفي الخلفية الصوتية أصوات الهدم والبناء تتصاعد. تبدو هيئة “آنا” رثّة على عكس ما كانت عليه في بداية الفيلم، ليزداد الحصار عليها وتفقد قدرتها على المقاومة.

التعبير بالصورة
جاء الفيلم من الناحية البصرية مُفعماً بالثراء، فقد وُفّقت المخرجة في اختيار الدرجات اللونية الممزوجة ما بين الأصفر والبني للتعبير عن الموجة الحارّة، فالبداية مع مشهد تفجير إحدى البنايات التي يتناثر منها الغبار الذي يُغطي المدينة ويستمر أثره طوال مدة الفيلم.
أغلب المشاهد تدور في الصباح، سواء المشاهد الخارجية أو الداخلية، وداخل منزل “آنا” نجد أن الإضاءة قاتمة نوعا ما، وهو ما يجعلها مُلائمة دراميا، والأجواء مشحونة يشوبها التوتر، مما يجعل اللون الأصفر والغبار الناشئ عن الموجة الحارّة وعمليات الهدم والإحلال داخل العاصمة شديد التناسب والتوافق مع حالة “آنا” التي تُعاني من القلق والأرق خوفا من انحسار عالمها وحياتها، ففي أحد المشاهد نراها وهي تُعاين إحدى الشقق كسكن جديد، وتقف بين إطاري الباب بالكاد تتحرك بينهما، وذلك في إشارة لحياتها المُحاصرة.
كما تُقدّم الصورة مُقارنة بين حال هؤلاء السكان المُتضررين وبين الدولة التي لا يعنيها سوى ذاتها بعيداً عن حقوق الفرد، ففي مشهد من أجمل مشاهد الفيلم نرى السكان المشردين بعد طردهم من مساكنهم وهدمها وهم يسيرون بجوار ملعب شُيد حديثاً ووسم بشعار الأولمبياد، لتبدو أجساد هؤلاء السكان ضئيلة رغم عددهم الكبير مُقارنة بحجم الملعب، خاصة مع ابتعاد الكاميرا على الخلف ببطء، ليبدو ذلك الملعب وكأنه وحش يلتهم هؤلاء الضعفاء.

نهاية فنتازية
أصوات ماكينات الهدم هي المسيطرة على شريط الصوت، فالموسيقى شحيحة لا نسمعها إلا كنغمات موحية بالخطر تتصاعد مع اشتعال الأحداث ووصولها الذروة.
“آنا” التي تتنشر التقرحات الجلدية على جسدها بالكامل ترقد في حالة يُرثى لها مع وصول قوات الشرطة لإجبار سكان البناية على الرحيل، ليصبح وجودها مُهدد، فتنطلق من الفراش في هزال واضح، وتتجه نحو الحائط ثم تختفي داخله، لتصبح هذه النهاية الفنتازية مُعبرة بدلالة واضحة عن اتحاد واندماج “آنا” مع الطبيعة وتوحدها معها، وتعبيرا عن رمزية الشخصية كرمز للأصالة في هذا الزمن الذي يلوثه غبار أصفر اللون يكاد يخنقنا جميعا.