“أرواح صغيرة”.. عائلة سورية تلوذ بمخيم الزعتري

قيس قاسم

أربع سنوات قضتها المخرجة “دينا ناصر” في تصوير أطفال عائلة سورية نزحت إلى الأردن هربا من بطش النظام، وقد تابعت من خلالها حياة اللاجئين السوريين في المخيمات، ناقلة عبر مصاحبة ثلاثة من أطفالها مشاعرهم وأحاسيسهم، وأيضا تَغيُّر نظرتهم للمكان “المؤقت” بعد أن طال مُكْثهم فيه، حيث كبروا في خيمه المهترئة، ورغم ذلك لم يبقوا فيه بل أُجبروا على تركه.

يصاحب فيلم “أرواح صغيرة” بصبر مراحل من حياة الأطفال السوريين في مخيم الزعتري، مُركّزا على الطفلة “مروى” التي لم يتجاوز سنها العاشرة يوم بدأت المخرجة تصويرها.

تتمتع “مروى” بلباقة وقدرة على بلورة أفكارها بلغة بسيطة لا تخلو من تأثيرات العالم الجديد عليها، أما أختها التي تصغرها “آية” فهي لا تقلّ عفوية واستشعارا بما يحيط بها، بينما يمثل الأخ الأصغر “محمود” عينة على ما تركته الحرب الأهلية من آثار نفسية قاسية على أجيال سورية وُلدت في زمن الخراب وعاشت في المنافي والمخيمات البعيدة.

الطفلة “مروى” ذات العشرة أعوام تحمل أختها الصغيرة “آية” في وسط مخيم الزعتري

 

مروى.. أمل العودة يتلاشى

لا تلتزم دينا ناصر بسياق زمني تقليدي في فيلمها، فهي تنتقل من زمن إلى آخر وفق ما تفرضه حياة الأطفال أنفسهم، وقد كلفتهم أحيانا بتصوير أنفسهم بكاميرات فيديو خلال الفترات التي غابت فيها عن المخيم.

وهذا يفسر اللقطات الأولى الملتقطة من قِبَلهم عام 2014، حيث يظهرون فيها وهم يمرحون ويتضاحكون ببراءة، تخبرنا آية خلالها أشياء قليلة تؤسس لفهم أسباب رحلتهم إلى الأردن، فبعدها تدخل صانعته إلى المعسكر وتلازم الأطفال ملازمة لصيقة، تحادثهم وتسألهم مباشرة، وأحيانا تتدخل هي بنفسها في مساره عبر تعليقاتها الشخصية، حيث يغدو النص السينمائي خليطا بينها وبينهم.

كلما طال مُكْثهم “المؤقت” في المخيم ضَعُف الأمل بعودتهم إلى وطنهم، فأولى علامات اليأس من العودة السريعة تظهر عبر خذلان توقعات مروى برجوعها إلى مكانها القديم، إذ إنها خمّنت بأنها ربما تعود بعد أسابيع أو أشهر قليلة، أو خلال سنة واحدة على أكثر تقدير، لكن مروى لم ترجع كما توقعت، ولهذا كان لا بدّ للكاميرا من البقاء معها وتسجيل تفاصيل حياتها داخل المخيم.

داخل المخيم تشغل العائلة يومها بتنظيف الخيمة وإعداد الطعام، أما أطفالها فيواظبون على الذهاب إلى “المدارس”، بينما تُسهم مروى في عمل البيت، ومن حركتها الدؤوبة يتبين مدى صبرها وقدرتها على تحمل المسؤولية.

تمضي الأيام برتابة، أما فكرة الرجوع فلم تعدت مغرية لـ”مروى” بعد أن بدأت تتأقلم مع المكان الذي وصفته حين وصلت إليه هاربة من سوريا بأنه “جنّة”. مع الوقت تتغير الجنة وتغدو في فصول منها جحيما.

الكاميرات تشرح سوء الأحوال المعيشية في مخيم الزعتري، فلا ماء نظيفا ولا ضمانات حياتية

 

مخيمات اللجوء.. حكايات مُتشابهة

من أحاديثهم المتقطعة وفي ثنايا استذكارهم، ترِد قصة هروبهم الشديدة الصلة بالسياسة والحراك السلمي الذي انطلق في درعا، حيث كان أخوها الأكبر سليمان من المساهمين فيه، وحسب تعبيرهم “انشقّ” عن النظام، أي أصبح معارضا.

لم يحتمل النظام حراكهم فبدأ بتصفيتهم وحرق بيوتهم، لقد أحرقوا وحطّموا بيت سليمان، وما كان على عائلته إلا التفكير بالخروج من البلاد بعد أن غدا الخطر شديدا على حياتهم. لم يخرج سليمان معهم بل بقي في الداخل، بينما وصل عدد من أفراد العائلة عن طريق غير قانوني إلى الأردن، وفي ثنايا حديث آية نعرف أن السائق قد قُتل أثناء عملية نقلهم، بينما تخلصوا هم من الرقابة عبر ولوجهم إلى عمق الأحراش والأشجار الكثيفة الفاصلة بين البلدين.

تركهم للديار وإقامتهم في المخميات ذكّرت المخرجة الأردنية دينا ناصر (الفلسطينية الأصل) بتاريخ هجرة والدها عام 1948، حيث تقول إنها كلما دخلت مخيم الزعتري تذكرت والدها الذي هاجر من فلسطين مع عائلته طفلا يوم النكبة، تتذكره من خلال قصصه وحكاياته التي صارت في ذهنها صورا تراها كشريط يمرّ أمام عينيها، حيث تظل بين فترة وأخرى تربط تجربتها كطفلة من أصول فلسطينية بتجربة بقية الأطفال السوريين في المخيمات الأردنية، وكيف غدت المخيمات مستقرا رغم تعاستها وفقر الخدمات فيها.

تلتقط عدسات دينا ناصر وزميلها المصور حسن أبو حمادة لحظات الفرح التي يعيشها أطفال المخيم في الأعياد والمناسبات، فتراهم منشغلين للمشاركة فيها، فهم في النهاية بشر يريدون عيش اللحظة الحُلوة ولا يرغبون في تفويتها، وحتى في الشارع تجد أنهم أوجدوا لهم ظروفا مناسبة للعب واللهو البريء، لكن قساوة الواقع كثيرا ما كانت تُفسد عليهم أفراحهم.

تشرح الكاميرات سوء الأحوال المعيشية في المخيم، فلا ماء نظيفا يكفيهم، ولا ضمانات حياتية تتوفر لهم، أما بعض الرجال فيضطرون للعمل خارج المخيم لتأمين بعض ما تحتاجه عوائلهم، لكنها تبقى دوما عرضة لظروف خارج إرادتهم كمثل الجو، فالبرد والعواصف الترابية تخترق مسامات جلدهم، كما تتسرب مياه الأمطار إلى أغطيتهم وأَسِرّتهم الإسفنجية البسيطة فتبرد أجسادهم وتتذمر أرواحهم.

يكشف الوثائقي عبر نقله عمليات التواصل بين العائلة وبقية أفرادها الذين ظلوا في سوريا عن عمق الأواصر الإنسانية بينهم، فمشهد المكالمة المُصوّرة عبر الإنترنت بينهم وبين سليمان الذي رُزق بطفل يقول الكثير. صدق مشاعرهم وحزنهم على الفراق تُعبّر عنه دموعهم وتعابير وجوههم المتألمة لفراق إجباري، أما الحميمية الرابطة بينهم فهي ما يعينهم على الاستمرار، سواء بالنسبة للذين بقوا هناك أو لهؤلاء الذين جاؤوا إلى المخيمات الأردنية وصاروا تدريجيا يألفون وجودهم فيها.

ملازمة المخرجة الطويلة لهم تجلي جانبا من علاقات جديدة تكونت في المكان؛ المدرسة، والزقاق (عبارة عن شارع فرعي مفتوح بين الخيام)، والجيران واللعب مع أولادهم. ومع الوقت ازدادت وشائجهم مع الخارج قوة، وأخذت حياتهم طعما آخر. ببطء تحدث عملية فكاك جزئي من العائلة نحو الآخرين ترافقها بعض المُنغّصات والمشاكل، لكن الكاميرا لم تفوت فرصة عرضها لتؤكد أن الحياة التي يعيشها سكان المخيم عادية.

 

من المخيم إلى المدينة

يُسرّب الوثائقي ممارسات الجهات الأمنية الأردنية ومراقبتها الصارمة لسكان المخيم والداخلين إليه، وعلى المخرجة في كل مرة تريد التصوير داخله أخذ موافقات من وزارة الداخلية، حيث تنقل آليات تلك العملية عبر تسجيل مكالماتها مع الموظفين الذين يتبعون نظاما إداريا بيروقراطيا عليها التقيُّد به، وذلك حتى تحصل على موافقات تمكّنها من استكمال مشروعها السينمائي ومتابعة حياة الأطفال السوريين الذين تركتهم فترة، لكنها تركت معهم كاميرا يصورون بها ما يريدون تصويره بحُريّة كاملة.

في إحدى المرات تفاجأت دينا بغيابهم الكلي من المخيم، وحين سألت عنهم أخبرها الجيران أنهم غادروا إلى المدينة في عمّان، وبعد بحث وجدتهم وقد انتقلوا إلى شقة بسيطة، حيث بدت مروى سعيدة بها، فهي تُذكرها بالمكان الذي عاشت فيه في سوريا.

لكن بعد حين يُفاجأ المُشاهد بانتقالة جديدة، حيث عادت العائلة ثانية إلى المخيم، والسبب غلاء المدينة وصعوبة العيش فيها بالنسبة لعائلة مهاجرة لا دخل لها سوى ما يحصل عليه ابنها الأكبر محمد من أعمال حُرّة بسيطة.

مخيم الزعتري في فصل الشتاء، حيث لا يقي من يسكنه برد الشتاء

 

المخيم.. ترقّب وخوف

العودة يصاحبها اكتشاف جديد للمكان، فما عاد المخيم كما كان مجرد خيام، لقد أُضيفت إليه “كرفانات” أُثثت بشكل بسيط، لقد بدأ المكان تدريجيا يأخذ ملامح مدينة عشوائية.

تتذكر المخرجة دينا وصف والدها للمخيم الذي عاش فيه مع بقية الفلسطينين المُبعدين عن أرضهم ووطنهم، بعد أن سألته ما إذا كانت تجري في مخيماتهم حروب؟ قال لها لا، لم تجر في المخيم حرب ولا سلام في الوقت نفسه، فالناس فيه عادة يعيشون حالة ترقب دائمة وخوف من المستقبل، لا يعرف المرء متى يبقى فيه، فربما يكون المرء هنا اليوم وخارجه غدا.

تلخيص دقيق ينطبق إلى حد كبير على حالة سكان مخيم الزعتري، فهم ربما يكونون هنا اليوم وغدا يتركونه.

محمود الأخ الأصغر لمروى يمثل عينة على ما تركته الحرب الأهلية من آثار نفسية قاسية عليه وعلى جيله

 

قرار ترحيل صادم

تشتغل دينا ناصر بتأنٍ على مادتها تاركة لأبطالها أخذ فرصتهم في النضج والتكوين، حيث تمنح نفسها فرصة رصد تحولات حياتهم الجسدية والعاطفية، وتثبيت ما يتسرب من سياسة إلى عقولهم، فيشرعون في استخدام مفردات دقيقة لوصفها. اهتمامهم بما يجري في بلدهم في ازدياد، كما قلقهم على الأهل هناك، لكن المؤكد أن فكرة العودة بالنسبة لمروى مُستبعدة، وهي نفسها تعبر عنها بتشديدها؛ أن لا شيء بقي لها هناك، فهنا حياتها وعليها أن تكملها.

هذه الأمنية الإنسانية تبدو بالنسبة للسورية مروى غير قابلة للتحقيق، فبعد عدة زيارات لرجال الشرطة وتحقيقهم مع أخيها محمد عما إذا كانت له صلات بنشاط أخيه، أو أنه من المتعاطفين مع حركات “إرهابية” ومتشددة؛ يُنقل ملفه إلى جهات أمنية وقضائية للبتّ في أمر بقائه.

كان قرار الترحيل صادما للجميع، للمخرجة دينا والمُشاهد وطبعا للأطفال، خاصة مروى التي بدأت للتو نضجها العاطفي. بقرار رحليهم يختم “أرواح صغيرة” رحلته مع العائلة السورية، وربما سيكون عليه انتظار مقابلتهم وإكمال بقية سيرتهم الشخصية مستقبلا.

اشتغال دينا السينمائي صبور، فقد تخلصت من فخ الوقوع في الريبورتاج، لاسيما وأن المخيم وتفاصيله تغوي بالملاحقة السريعة، فبدلا من ذلك ركزت على البشر الذين يعيشون فيه، وعملت على رصد تحولات أبطالها البطيئة، مما وضع مُنجزها بين الأفلام الوثائقية العربية القليلة المُنفذة والمكتوبة بروية وتأنٍ لافتين.


إعلان