“العميلة السريّة”.. جاسوسة إسرائيلية في طهران
لم يشأ المُخرج الإسرائيلي “يوفال أدلر” أن يغادر دائرة الرعب والحرب والجريمة في أفلامه السابقة “إغواء” و”بيت لحم” و”القنّاص”، فقد عاد في فيلمه الرابع “العميلة السريّة” (The Operative) إلى الإثارة والجاسوسيّة وإرهاب الدولة، وذلك بحجج واهية استمدها من رواية “أستاذ اللغة الإنجليزية” للروائي والعميد المتقاعد “يفتاخ ريتشر عتير”، والذي استلهم ثيمة روايته من تجربته الاستخباراتية الطويلة في الموساد الإسرائيلي، لكن من حق صانع الفيلم أن يلتقط الثيمة التي تخدم رؤيته الإخراجية وتجسّدها بصريا، علما بأنّ هذه الرواية هي واحدة من أفضل عشرة كُتب بحسب استفتاء واشنطن بوست لعام 2016.
يضعنا المخرج أمام قصة راشيل (ديان كروغر)، وهي جاسوسة مارقة على الموساد تتوارى عن الأنظار فجأة بعد حضور جنازة والدها في لندن، والدليل الوحيد الذي تخلّفه وراءها هو مكالمة هاتفية خفيّة تُوجهها إلى توماس (مارتن فريمان) الذي جنّدها وأشرف على تدريبها، وذلك قبل أن يكلّفها بمهمة التجسس على البرنامج النووي الإيراني.
تُرى هل ستنجح راشيل في هذه المهمة الحسّاسة والمحفوفة بالمخاطر وتلتزم بتوجيهات وأوامر مسؤولها المباشر الذي يوفر لها كل المعلومات اللوجستية المطلوبة داخل إيران وخارجها؟ وهل هدف هذه العميلة السريّة يقتصر على اختراق البرنامج النووي الإيراني، أم تحديد موقعه لاستهدافه لاحقا بالطائرات والصواريخ الذكيّة، أم أنهم يريدون تزويد الإيرانيين بمعدات تكنولوجية لا قيمة لها عن طريق شركات أوروبية لا تفكر إلاّ بجني الأموال الطائلة؟ وهل تستطيع هذه العميلة السرية أن تسيطر على مشاعرها وأحساسيها الداخلية حينما تكتشف أن فرهاد (كاس أنور) -مدير شركة “رضوي للإلكترونيات”- شاب وسيم وأنيق ومتفتح جدا، وأنها رغم الجمال الذي تتوفر عليه أشبه بالصحراء القاحلة التي تتوق للغيث الغزير؟
شخصية إشكالية
لا تتحرك أحداث الفيلم بنسق تصاعدي، فثمّة ارتجاعات عديدة إلى الماضي تُحيطنا علما بهذه الشخصية الإشكالية التي تنتمي إلى أكثر من وطن ودين وثقافة، لكنها تشعر في أعماقها أنها “إسرائيلية”، ربما لأنّ والدتها كانت تتحدث كثيرا عن إسرائيل، وقد عملت متطوعة في مستوطَنة في السبعينيات، يوم كان هذا العمل أمرا كبيرا بالنسبة للألمان في ذلك الوقت.
تنطوي غالبية أفلام الجاسوسية على الترقّب والإثارة ومراقبة الدوافع النفسية، فأعضاء المحطة الاستخبارية الإسرائيلية في “لايبزيغ” الألمانية يريدون الولوج إلى عقل راشيل ومعرفة طويّتها الداخلية والطريقة التي تفكّر بها، لكنهم لم يعرفوا أنها كانت تكذب عليهم في بعض الأحيان، وذلك من قبيل أنها فتاة “مُتبناة” ولا تعرف والديها الحقيقيين، وما إلى ذلك من أمور مُختلَقة تجترحها مُخيّلتها المتوقدة دائما.
ضبابية وغموض
ولكي تتضح الصورة للقارئ لا بدّ من تسليط الضوء على راشيل، وهي الشخصية المركزية التي تتمحور حولها الأحداث في هذا الفيلم، وتُساهم في صناعة البعض الآخر منها.
وُلدت راشيل في لندن من أب بريطاني نصف يهودي، وأم ألمانية مسيحية معمدانية فارقت الحياة عندما كانت راشيل في سن الثانية عشرة، فتجردت من حنان الأم مبكرا، ثم انتقلت مع أسرتها إلى “بوسطن” عندما كانت في السادسة، وإلى كندا عندما بلغت الثانية عشرة، حيث شرعت أمها بأخذ العلاج الكيميائي قبل أن تواجه مصيرها المحتوم.
أما على الصعيد العاطفي فقد ارتبطت راشيل بعلاقة حُب مع طالب إسرائيلي قابلتْهُ في لندن، لكن هذه العلاقة سرعان ما انتهت من دون أن نعرف الأسباب، وكأنّ كاتب السيناريو يتعمّد وضع المتلقي في جوّ من الضبابية والغموض، فـ”راشيل” تبدو كرحّالة تهيم على وجهها ولا تستقر في بلد محدّد، فهي امرأة تائهة بلا جذور، لكنها تتوق إلى أن تنتمي إلى مكان ما، ولهذا فهي تغبط أصدقاءها ومعارفها لأنهم يمتلكون أوطانا ومنازل يترددون عليها بشكل منتظم.
هوية مُغايرة
تحتاج الشخصيات في أفلام الجريمة والجاسوسيّة إلى دراسات نفسية معمّقة لفهم الدوافع والمحفِّزات التي تحرّضها للقيام بأعمال إجرامية، فـ”راشيل” قتلت الموظف “نيما” بإبرة سامّة، ولولاها لما حدثت التفجيرات في طهران، وراح ضحية العمليات الإرهابية بعض العلماء النوويين وأطفالهم البريئين.
تُرى هل الدوافع الرئيسية مادية أم نفسية وتحتاج إلى علاج، أم أنها أكثر تعقيدا من الاثنين معا؟ وممّا زاد الطين بلّة أن توماس بنى لها شخصية جديدة بهُوية مغايرة تتضمن ولادتها ونشأتها ودراستها والعمل الذي تزاوله، وبقيت في لايبزيغ لمدة سنة كاملة تؤسس لهذه الهُوية وتتدرب عليها كي لا تتلكأ في الردّ على الأسئلة التي تُوجّهه إليها.
أما طريقة دخولها إلى إيران فقد كان تحت ذريعة حصولها على عمل في طهران كمدرِّسة للغة الإنجليزية، وقد زوّدها توماس بكل المعلومات المطلوبة، بدءا من حصولها على تأشيرة الدخول في المطار وطريقة تفتيش الحقائب، وانتهاء بغرفتها في فندق “الاستقلال” وعدد المصاعد الموجودة فيه، والشخص المجنّد الذي سيساعدها في قتل ثلاث ضحايا في أحد المصاعد، قبل أن تتنقل للعيش في شقة سكنية مناسبة لامرأة غريبة ووحيدة.
حب غير مرتقب
كانت راشيل تعود بعد كل عملية إما إلى “تل أبيب” أو إلى لايبزيغ، وذلك كي تشرح لهم أدقّ التفاصيل في إنجاز مهمتها، ثم تتهيأ من جديد لعملية قادمة، وكانت أعذارها مختلفة تتعلّق غالبا بصحة الوالد الذي عرفنا في مستهلّ الفيلم بأنه فارق الحياة، وحضرت مراسم تشييعه ودفنه في لندن.
حينما تعود في المرة الثانية تلتقي مصادفة بفرهاد مدير شركة “رضوي للإلكترونيات” الذي جاء إلى المدرسة لإيصال علي ابن شقيقته إلى المنزل، فيعتذر لها عن التأخير ويدعوها في اليوم التالي إلى أحد المقاهي بذريعة تحسين لغته الإنجليزية التي يجيدها أصلا، لكن الأمور تأخذ منحى آخر بخلاف الخطة الأمنية المرسومة سلفا، فهي تريد اختراق برامج هذه الشركة والدخول إلى ملفاتها الخاصة لتحديد المواقع النووية في إيران، وقد حدث ذلك بنجاح مذهل رغم الصعوبات الجمّة التي واجهتها في بلد لا تعرف لغة أهله، لكن مشاعرها الداخلية تستيقظ فجأة وتقع في حُب فرهاد الذي لا تعرف شيئا عن حياته الشخصية والاجتماعية.
طهران.. الوجه الآخر
يحاول المُخرج من خلال هذا الفيلم أن يُقدّم لنا الوجه الآخر لمدينة طهران، وقد سبق لنا أن شاهدناها في بعض الأفلام الإيرانية المناهضة للحكم، والتي تصوِّر الحفلات السرية الراقصة في الصالات الواقعة تحت الأرض، حيث تتوفر المخدرات والخمور والعلاقات الحميمة بين الرجال والنساء.
وحينما يصطحبها فرهاد إلى إحدى هذه الصالات التي لا تختلف عن المراقص الأوروبية مطلقا؛ تقرر راشيل العودة معه إلى شقته، ليبدأ الفصل الأول من قصة الحُب الذي أفضى بها إلى مراجعة عيادة نسائية بُغية التأكد من حملها، والذي ستدّعي أنه حمل كاذب، رغم أنّ فرهاد سينزعج منها لأنها خبأت عنه هذا الخبر المُفرح بالنسبة إليه.
مَنْ يتمعن في تفاصيل هذا الفيلم يكتشف أن السينارست والمُخرج يوفال أدلر يتغزّل بمدينة طهران وأناسها والعلاقات الاجتماعية بين مواطنيها، فهو يُثني على أسواقها وشوارعها ومقاهيها، ويقول عنها إنها مدينة جميلة لا تشبه أي مدينة أخرى، وإنّ منْ عاش فيها لا بدّ أن يحنّ إلى أزقتها ومقاهيها وأناسها الذين يبذلون قُصارى جهدهم لإرضاء الأجانب الذين يتواجدون في طهران رغم قِلّتهم.
كما يُطلعنا على جانب من تقاليد الزواج في المجتمع الإيراني، وطريقة الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة التي لا تخلو من مبالغة في تقديم الهدايا، حيث يقدّم العريس الثري إلى عروسه ألف قطعة ذهبية وشاحنة من الزهور.
يسلّط المخرج الضوء على حياة الإيرانيين السرية عبر شخصية فرهاد الذي ينصح راشيل بألّا تفصح عن أي شيء تريد القيام به، مثل معاقرة الخمر أو الذهاب إلى نشاط ثقافي أو فني وما إلى ذلك، وكأنهم يعيشون حياتين؛ واحدة علنية كاذبة، والثانية سريّة صادقة يقولون فيها كل شيء وكأنهم يفكِّرون بصوتٍ عالٍ.
تفجيرات وضحايا
حينما تعود راشيل إلى لايبزيغ بذريعة مرض والدها يوبِّخها توماس لأنها أخفت عنه أشياء عديدة، من بينها قصة التبنّي وعلاقتها الجنسية بفرهاد، لكنه يكلّفها بمهمة صعبة وهي إدخال متفجرات إلى طهران عبر الحدود التركية، دون أن يترك لها مجالا للاعتراض.
وعلى الرغم من بطء إيقاع الفيلم فإن المخرج ينجح في تنويع فضاءاته والخروج من غرف الاجتماعات والفنادق والشقق السكنية إلى الأمكنة المفتوحة على مدّ البصر، وكأنه يُقدّم لنا فيلما من “أفلام الطريق”، حيث تتضاعف الإثارة أثناء تسليم المواد المتفجرة إلى المهربين الأكراد، وخشية من تفتيش إحدى دوريات الجيش الإيراني تضطر راشيل للاختباء تحت صناديق الخضراوات في الحوض الخلفي، فيندس معها أحدهم ويبدأ بالتحرش بها في لحظة التفتيش، ثم يغادر السيارة وكأنه ذاهب إلى المجهول بعد فعلته الشنعاء.
تستشيط راشيل غضبا وهي في طريق عودتها وتسقط في دائرة الانفعال، حتى إنها أوشكت أن تصطدم بشاحنة كبيرة، فتخرج عن الطريق وتُصاب بجروح في ساقها اليسرى لنجدها راقدة في المستشفى، بينما كان فرهاد يقوم بتهدئتها من الكوابيس المرعبة التي كانت تدهمها أثناء النوم المتقطّع، حيث رأت أحدهم يخنقه بحبلٍ من الخلف فتطلب منه مغادرة المستشفى بأسرع وقت ممكن، خاصة بعد أن يُذيع التلفزيون الإيراني خبر التفجيرين اللذين أوقعا ضحايا بين علماء نوويين وأطفالهم.
المهمة الأخيرة.. حُب مُزيف
تقرر راشيل العودة إلى ألمانيا بعد ذلك للتباحث مع المحطة الاستخباراتية عن مهمتها الأخيرة، والتي يطلبون فيها استدراج فرهاد إلى لايبزيغ والقبض عليه، وذلك بحجة خرق العقوبات الاقتصادية المفروضة على الحكومة الإيرانية، حيث يتم التحقيق معه ويدخل السجن بعد أن يعرف تورط راشيل وعملها كمجنّدة سريّة، فيوجّه لها سؤالاً ضمن آلية البوح السردي: هل كانت قصة حبنا كذبة، وهل كانت المشاعر التي ربطتنا مزيّفة إلى هذه الدرجة؟
يغادر فرهاد من دون أن يسمع تبريراتها، فلقد أحبّته هي الأخرى، وقدّمت له أعزّ ما تملك، وظلّت حريصة على تلك العلاقة الخاطفة التي تنطوي على صدق كبير رغم ما أحاطها من غموض ومواقف ملتبسة، لذلك تطلب راشيل من توماس أن يساعدها في تبرئة فرهاد، وأن يُهيئ له فرصة الخروج من السجن والعودة إلى دياره. ورغم أننا كمتلقين نشاهد فرهاد حرا طليقا في مدينة “كولون”، لكنه يغادرها إلى غير رجعة.
اغتيال وقنص.. نهاية مفتوحة
وبما أنّ المحطة الاستخبارية لا تخضع لتهديدات راشيل التي نشرت صورتها في صحيفة محلية وهددت بنشر ما لديها من معلومات إن لم تُسدد المحطة راتبها الأخير، فيقررون اغتيالها في المقهى الذي تتفاوض فيه مع توماس الذي ظلّ وفيا لها حتى اللحظات الأخيرة التي كان يترصدها أحد القناصة، ولولا الحماية التي وفرها توماس لكانت هدفا سهلا للقنّاص المتربص وراء نافذة في بناية مرتفعة بعض الشيء.
يفشل أحد المتعقّبين في الإمساك بها فتنجو من قبضهتم، بينما يظلّ توماس مشتبكا بالأيدي مع أحد المطاردين، لتصل القصة إلى نهاية مفتوحة تجعلنا نفكر بالشخصيات الثلاث الرئيسية؛ راشيل وفرهاد وتوماس، من دون أن ننسى الجنين الذي تحمله هذه العميلة السرية في أحشائها من رجل أحبّته بصدق، وتجسست عليه ومارست ضد شعبه وحكومته نوعا من إرهاب الدولة الإسرائيلية التي تبسط نفوذها وتمدّ أذرعها في عدد غير قليل من بلدان العالم.
ينطوي هذا الفيلم على رسالة صريحة مفادها أن أعضاء المحطة الإسرائيلية في ألمانيا أو في أي مكان من العالم لا يترددون لحظة واحدة في فتح النار على أيّة عميلة سريّة إذا أرادت خيانتهم أو فضحهم على الملأ، وهي بالنتيجة ليست إسرائيلية أو يهودية، وإنما هي مجرد مواطنة بريطانية يمكن أن تسقط ميتة على أرصفة مدينة “كولون” أو في أية ساحة من ساحاتها العامة المكتظة بالبشر.
وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أن المخرج يوفال أدلر أنجز ثلاثة أفلام إضافة إلى مسلسل تلفزيوني بجزأين، أما فيلمه الرابع فيحمل عنوان “الأسرار التي نحتفظ بها”، ويتمحور حول زوجين ناجيين من الهولوكوست يصنعان حياة جديدة لنفسيهما في نيويورك بعد الحرب.