“كوكبنا خلف الكواليس”.. أسرار تصوير الحياة البريّة

قيس قاسم
لطالما تساءل متابعو وثائقيات وبرامج الحياة البرية وتصوير عجائب الطبيعة عن الطريقة التي يتم تصويرها بها بدقة وقُرب شديدين، إلى حدٍّ يشعرون معه أحيانا وكأنهم يعيشون وسطها.
الوثائقي الرائع “كوكبنا خلف الكواليس” يقدم بعض الأجوبة عن أسرار عمليات التصوير والأجهزة التقنية الحديثة المستخدمة فيها، ويوثّق حالات نادرة تكشف عن الجهد الكبير المبذول في التقاط أبسط مَشهَد من مَشاهِدها.
هذا الوثائقي من عمل البريطاني “السير ديفد أتينبورو” مُعدّ ومُقدّم أشهر الإنتاجات التلفزيونية الخاصة بتصوير الحياة البرية، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن رافق تطورات إنتاجها، خاصة التقنية التي حدثت في مجال التصوير السينمائي والتلفزيوني، وهو من يقف وراء تقديم سلسلة “كوكبنا” المُبهرة لقناة “بي بي سي” التي استمر العمل عليها أربع سنوات.
من خفايا السلسلة جمع مادة فيلمية تكفي لتقديم مُنجز بصري ممتع، ويُعد بحق درسا في مادة إعداد برامج الطبيعة، وهذا ربما السبب وراء حماسة شركة “نتفليكس” لإنتاجه وعرضه على منصاتها الخاصة.
جهد كبير وجَلَد
بتعليقه وبصوته المميز يُقدّم ديفد أتينبورو في مفتتح وثائقيه نموذجا على صبر وجَلادَة فريق عمل مسلسل “كوكبنا”، وذلك عبر نقله مشاهد من عمليات تركيب “كوخ خشبي” وسط غابات سيبيريا لغرض التقاط صور للنمر السيبيري الذي غاب عن الأنظار، ويُعتقد أنه انقرض من الوجود.
عملية التصوير استمرت سنتين كاملتين، ونتيجتها كانت عدة لقطات سريعة وقصيرة لا تتعدى بضع دقائق، إلا أن المهم فيها أنها أثبتت وجوده، وبالتالي يمكن لعلماء الطبيعة العمل للحفاظ على سلالته من الانقراض.
ولمزيد من تقريب حجم الجهد المبذول خلال السنوات الأربع التي استغرقها إنتاج المسلسل؛ يقدم أرقاما كبيرة شديدة الدلالة، فقد احتاج منتجوه وفريقه التقني إلى مئات من أيام التصوير في 60 بلدا، أما ساعات تصوير فيديو المراقبة الثابتة (عبر كاميرات رقمية) فقاربت 400 ألف ساعة، وزادت عدد طلعات التصوير عبر الطائرات المسيّرة (من دون طيار) على 6000 طلعة، كما قضى فريق العمل مئات الأيام في البحار، وغاصوا لمدة 2000 ساعة تحت مياهها، وتطلب تصوير المسلسل التلفزيوني السفر الدائم إلى مناطق شديدة الخطورة، وفي بيئات مناخية قاسية.

الانطلاق من الفشل
لا ينطلق “كوكبنا خلف الكواليس” من النجاحات بل من الإخفاقات، ليدرك مُتابعهُ أن الحظ ليس دائما حليف فرق التصوير، وأن الطبيعة تسير وفق قوانينها لا وفق رغبات البشر.
يذهب المخرج مع فريق العمل لتصوير المجاميع النادرة لأسماك القرش قرب جزر بولينيسيا الفرنسية، فهناك في المياه العميقة تتجمع سنويا وخلال اشتداد التيارات المائية مئات منها، ولا يَعرف العلماء السر وراء ذلك. وللكشف عن الظاهرة تطلّب توفير كاميرات مزودة بمصابيح قوية قادرة على مقاومة قوة التيارات، لكن أثناء الغوص ومع الاقتراب من المجاميع المخيفة تعطّلت المصابيح، فكان على المصوريين الهروب بسرعة إلى السطح خوفا من تعرضهم لهجمات القرش في الظلمة الحالكة.
في سيبريا ورغم طول الفترة التي قضاها فريق العمل لتصوير الحياة البرية فيها، ووسط درجات حرارة منخفضة جدا؛ لم تكن النتائج واعدة، ولا تتناسب مع حجم الجهد البشري المبذول، فطيلة الأشهر التي اضطر فيها المصورون إلى المكث في مساحة ضيقة وفي ظروف شديدة القسوة؛ لم يفلحوا في تصوير الكثير. المفارقة أن الكاميرات الرقمية الشديدة الحساسية المثبتة على الأشجار وفوق كثبان ثلجية التقطت صورا أكثر أهمية مما صوروه هم بأنفسهم.
ذلك الحال طرح موضوعا حيويا للنقاش عن دور التقنيات الحديثة مقارنة بعمل الإنسان نفسه، وتوصل المشاركون فيه (فريق العمل) إلى خلاصات تؤكد حتمية التوجه نحو التكنولوجيات الحديثة شرط إبقاء الفعل مُسيطَرا عليه بشريا.
من تجاربهم توصلوا إلى أن الكاميرات الرقمية الثابتة حساسيتها الشديدة تعمل أحيانا ضدها، لأنها آليا تُسجّل كل ما يتحرك أمامها، وغالبا ما يكون ذلك دون فائدة، بعكس الإنسان الذي يتحكم بكاميرته ويفتح عدساتها وفق ما يقرره هو وفي اللحظة المناسبة.
التغيُّرات المناخية.. مشكلة مضاعفة
يربط الوثائقي بين صعوبات عمل الفريق والتَغيُّرات المناخية، ومن بين أخطرها على كوكب الأرض ارتفاع درجات حرارته، وما يترتب عليها من كوارث طبيعية.
فخلال ذهابهم إلى كندا لتصوير موسم اصطياد الدببة لأسماك السلمون، واجه الفريق مشاكل جديدة تتمثل في عدم عثورهم على الدببة هناك، وذلك في المناطق التي اعتادت الذهاب إليها قبل حدوث التغيُّرات الحادة، فالدببة غريزيا ومع انخفاض منسوب مياه الأنهار تذهب للوقوف عند مساقطها لتلتقط الأسماك السابحة عكس التيار والمتوجهة نحو البحر لوضع بيوضها هناك.
ذوبان الثلوج في غير موسمه بسبب ارتفاع درجات الحرارة رفع منسوب المياه، وبالتالي تمكّنت الأسماك من الصعود إلى البحر. لقد ضاعت على الدببة القطبية وجبات غذائية ضرورية لها، ومن دونها لا تستطيع توفير الطاقة اللازمة لمقاومة برد الشتاء خلال سباتها الطويل.
هذا الأمر يحدث أيضا في الجبال الثلجية في القطب الشمالي، والتي صار من الصعب تصوير انهيار كتلها العملاقة عن قرب بسبب كثرة الأمطار في غير موسمها، مما يعوق حركة الطيران وبالتالي حرمان المصورين من فرص تصوير مشاهد نادرة ومذهلة للطبيعة. فصعوبة تصويرها في موسم ذوبانها طرح أسئلة عن التصوير من الجو، ومدى صلاحية الطائرات المسيّرة في الأحوال كافة.

“الدرون”.. هل تناسب كل الأحوال؟
يكشف معدّ الوثائقي أن الطائرات المُسيّرة لها ميزة رائعة تتمثل في التصوير الواضح من أعلى، لكنها تعجز عن الاقتراب من الحافات الحادة والسطوح المنحفضة، لهذا كان على فريق التصوير الاعتماد على المروحيات التي يستطيع طياروها المغامرة والاقتراب من الحافات الخطيرة الحادة.
المقارنة بين الطائرات دفعت الوثائقي لتقديم نماذج واضحة عن عمل كل واحدة منها، وكشف بعض التفاصيل التقنية، فتصوير حوت أزرق بصحبة مولوده الحديث ما كان ليتمّ دون طائرات مسيّرة، فهي تعمل بشكل مثالي في المساحات المفتوحة مثل البحار والمحيطات، ويمكنها أخذ لقطات واسعة ودقيقة لسطوحها.
مشاهد صعود الحوت مع صغيره إلى السطح للتنفس مدهشة، وتشير إلى التطور الحاصل في عمليات التصوير، وإلى الاستخدام الناجح لها في برامج تصوير الحياة البرية.

علماء في مواقع التصوير
يندهش المرء من سعة معرفة المصورين وفريق العمل التقني بتفاصيل الحياة البرية والجزئيات المتعلقة بحياة الحيوانات وظروف عيشها، كما يكشف الوثائقي العلاقة القوية بينهم وبين العلماء والخبراء الذين يرافقونهم أثناء رحلاتهم.
لقد أُضيف إلى كل فريق عمل مجموعة من الخبراء يقدمون النصيحة والمعلومات المهمة التي تُسهّل مهمتهم وتُغني معارفهم، والأهم نقل عدوى نظرتهم الإيجابية المتعاطفة مع الطبيعة إليهم، فبدلا من التعامل مع ما يصورونه بشكل مجرد ودون تعاطف، يجري التعامل مع الكائنات والطبيعة باعتبارها شريكة لنا في عيشنا على الكوكب ولا بدّ من الحفاظ على وجودها. هذا يضعهم أمام تحدي تجاوز الأضرار المتوقعة من عمليات التصوير، والتي ربما تأتي أحيانا على حساب الإنتاج وسرعته.
فرق تقنية
السرّ الآخر الذي يكشفه الوثائقي هو مشاركة فرق تقنية خاصة مهتها توفير الأجهزة الملائمة لتصوير كل مكان على حدة، فالغوص في أعماق البحار يشترط توفّر أجهزة وملابس خاصة.
يكشف معد الوثائقي عن طبيعة البدلات التي يرتديها الغواصون أثناء تصويرهم، وهي عبارة عن أقمشة من خيوط معدنية حيكت وخِيطت على مقاسهم، بما يضمن عدم تعرضهم لعضات الأسماك الكبيرة والخطيرة مثل القرش وغيره. والعنصر غير المعروف للجميع هو درجة تحمّل المصورين وصبرهم على الصعاب.

أدلّاء طوال الطريق
يذهب فريق العمل المكلف بتصوير القردة البرتقالية النادرة إلى جزيرة سومطرة في إندونيسيا، فالسَير داخل الغابات المطيرة ووسط الأوحال والتعرض للسعات البعوض يُعطّل أحيانا عمليات التصوير، لأن قدرة المتوغلين في أعماقها على الصمود والتحمل تَضعف مع الوقت.
ينقل الوثائقي مشاهد لما تعرّض له أحد المصورين، لقد “أَكَل” البعوض جسده خاصة ساقه التي تحول لونها إلى كتلة حمراء، وكان عليه تعريض جسمه للشمس كما نصحه أحد أهالي المنطقة الذين صاحبوا الفريق داخل الغابة.
المعلومة المفيدة هنا أن فرق العمل مهما بلغت من الاحتراف وتم تزويدها بمعلومات دقيقة مُسبقة عن الأمكنة التي يذهبون إليها، فإن الحاجة إلى مشورة الأدلّاء من سكانها تظل قائمة، وبدونها ربما يعرضون حياتهم إلى خطر حقيقي.

من الإخفاق إلى النجاح
من الإخفاق يفاجئ الوثائقي متابعيه بالانتقال إلى النجاحات، حيث يعود إلى تكملة ما توقّف عنده، فمصابيح كاميرات تصوير أسماك القرش أُصلحت، وعاد الغوّاص ليُصوّر المجاميع الكبيرة عن قرب شديد، أما القرد البرتقالي فقد صُوّر في غفلة منه بوضوح وبصحبة بعض من أفراد عائلته، وهو وجود نادر تم توثيقه بصبر ودأب احترافي.
وسجّلت المروحيات في اللحظة الأخيرة عمليات انهيار الجبال الجليدية في القطب بعد تأخير استمر أياما، ورصدت صوت ارتطامها المخيف في المياه. ويشير المُعلّق إلى أنها من المرات النادرة التي تلتقط الكاميرات ومكيرفوناتها ذلك المشهد الذي طال انتظاره.
الطائرات المسيّرة التي كانت مُنشغلة بتصوير الحوت الأزرق صادفت في طريقها أفواجا من الدلافين، فصورتها وهي تتقافز بصحبة مؤثرات موسيقية بدت كما لو أنها لوحة باليه راقصة.
الصدفة تلعب أحيانا دورا مهما في نجاح التصوير، هذا أيضا من الدروس المستفادة من طول العمل مع الطبيعة.

محصلة نهائية
المحصلة النهائية والممتعة للوثائقي تكمن في تقديمه مادة بصرية ظنّ المشاهد أول الأمر أنها لم تتم، لكن المُفاجأة الأخيرة تكمن في الكشف عن العلاقة العاطفية بين الإنسان والطبيعة نفسها، فمشهد سقوط فقمات القطب المتجمد من أعالي الجبال وموتها أَثَّر كثيرا على فريق العمل، حيث بكى بعضهم لشدّة قساوته، مما أثار سؤالا عن مدى تحكّم المحترف بمشاعره وهو يقوم بواجبه.
الجواب جاء عبر بحث عن أسباب موتها، فلو كان طبيعيا لتفهمها الجميع، لكن أن تكون بسبب التغيُّرات المناخية والدور السلبي الذي يلعبه الإنسان فيها فإن الأمر يدعو للحزن حقا. فالفقمات كانت مضطرة للصعود إلى قمم الجبال المحاذية للسواحل بحثا عن الثلوج التي تحتاج إليها. فقد أذاب ارتفاع درجات الحرارة الثلوج من فوق الساحل فاضطرت الفقمات لتسلق الجبال مما نجم عنه سقوط بعضها إلى الأسفل.
الربط بين الحياة البرية وبين تدخل الإنسان السلبي فيها كان من بين أهداف برنامج “كوكبنا”، أما الوثائقي الرائع “كوكبنا خلف الكواليس” فهو يعيد التذكير بها، والتحذير مرة أخرى من مغبّة المُضي في تخريب كوكبنا والحياة على سطحه.