الباباوان.. ديمقراطية في قلب الفاتيكان

من الملاحظ احتلال الأفلام السينمائية التي تتناول السير الذاتية لشخصيات عامة سياسية أو فنية أو تاريخية صدارة المشهد السينمائي العالمي، وذلك منذ عدد لا بأس به من السنوات، بالإضافة إلى سيطرة هذا النوع من الأفلام على أغلب الجوائز السينمائية المهمة، وأشهرها جوائز الأوسكار والغولدن غلوب والبافتا.

ومن أبرز الأسماء التي ارتبطت بتقديم هذه النوعية من الأفلام على مدار السنوات الماضية هو الكاتب المسرحي والصحفي والسيناريست والمنتج النيوزيلندي “أنتوني مكارتن”، الذي فازت ثلاثة من نصوصه السينمائية بجائزة أوسكار لأفضل ممثل، حيث فاز بالجائزة الممثل “إيدي ريدمان” عن أدائه لشخصية الفيزيائي “ستيفين هوكينج” عام 2014، ثم فاز بها الممثل “غاري أولدمان” عن أدائه لشخصية رئيس الوزراء البريطاني “وينستون تشرشل” عام 2017، وأخيرا فاز بها الممثل الأمريكي من أصل مصري “رامي مالك” عن أدائه لشخصية المغني الشهير “فريدي ميركيروري” في فيلم “الملحمة البوهيمية” عام 2018، ليُعرَض لمكارتن في نهاية عام 2019 فيلم “الباباوان”.

التسلل إلى ما خلف الأسوار

“الباباوان” هو الفيلم الذي يتسلل بالمشاهدين إلى ما يدور خلف أسوار الفاتيكان، خاصة فيما يتعلق بواقعة استقالة البابا “بينيديكت” السادس عشر، وتولّي البابا “فرانسيس” منصب البابا من بعده، الفيلم من إنتاج شبكة نتفليكس، ورُشح لأربع جوائز غولدن غلوب من بينها جائزة أفضل فيلم درامي وأفضل سيناريو، بالإضافة إلى ترشحه لخمس جوائز بافتا.

الباباوان يمشيان في الحديقة ويتحدثان عن وضع الكنيسة

قام بإخراج الفيلم البرازيلي المتميز “فرناندو ميريليس”، وهو مخرج أفلام “مدينة الرب” (2002) الذي رُشح لأربع جوائز أوسكار، من بينها جائزة أفضل مخرج، كما رشح لجائزة غولدن غلوب كأفضل فيلم أجنبي، وفيلم “البستاني المخلص” (2005) الذي فازت عنه الممثلة “رايتشل وايز” بجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة مساعدة، و”العمى” (2008) الذي شارك بالمسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي.

بين قداسة البابا وردّة فعل الجماهير.. تساؤلات وتحدي

على الرغم من تمرّس كاتب السيناريو “أنتوني مكارتن” على كتابة نصوص سينمائية تتعلق بشخصيات عامة ومعروفة على مستوى العالم، فإن تجربته الأحدث في فيلم “الباباوان” كانت بمثابة التحدي الأعظم بالنسبة له، حيث أنه يكتب عن شخصية “البابا” السابق (المستقيل) والبابا الحالي، وما تتمتع به شخصية البابا بوجه عام من قداسة، نظرا لمنصبه وموقعه على رأس الكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها أكثر من مليار ونصف شخص حول العالم. فكيف يتناوله وكيف يقدمه، وهل من الممكن أن يحمل النص السينمائي مساحة انتقاد للبابا، هل يمكن تقبّل ذلك، وكيف سيكون رد فعل الفاتيكان، بل كيف ستكون ردّة فعل الجماهير؟

الباباوان في حوار شيّق عن العالم وما يسوده من حروب ومشاحنات

ربما بعض أو كل التساؤلات السابقة قد دارت بخلد “مكارتن” قبل وأثناء كتابته للفيلم، لكن النتيجة النهائية أنه توصّل لمعادلة فنية متقنة مكّنته من تخطي الكثير من العقبات والإجابة على معظم تلك التساؤلات بشكل مُرضٍ لجميع الأطراف.

تتلخص تلك المعادلة الفنية التي استند عليها “مكارتن” في كتابة الفيلم؛ في انطلاق الفيلم بالفعل من أحداث حقيقية شهدها العالم أجمع عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومنها بداية أحداث الفيلم بوفاة البابا “يوحنا بولس” الثاني عام 2005، ثم مراحل انتخاب البابا “بينيديكت” السادس عشر ثم استقالته، وتولي أول بابا من أمريكا اللاتينية “خورخي بورجوليو” الذي اتخذ فيما بعد اسم البابا فرانسيس.

تنازل عن الباباوية.. كيف فعلها البابا التقليدي؟

كلها أحداث حقيقية وقعت بالفعل، لكن ما بين هذه الأحداث أو الوقائع هو ما تخيله “مكارتن” بشكل كامل، أي ما دار في كواليس الفاتيكان خلف هذه الأحداث، خاصة ما يتعلق بواقعة تنازل البابا “بينيديكت” عن الباباوية ثم تولي البابا “فرانسيس”، والحوارات التي دارت بينهما ومهّدت لذلك القرار غير المسبوق، حيث أن الباباوات لا يستقيلون، وهذا جزء من قُدسية منصبهم، فلا بد أن يموتوا وهم يتقلدون ذلك المنصب، فالمرة الوحيدة التي حدث فيها أن استقال البابا كانت عام 1400، ولم يتكرر ذلك لمدة تزيد عن 600 عام حتى استقال البابا “بينيديكت”، وهو التصرف الذى لفت انتباه “مكارتن” إلى فكرة الفيلم في بداية الأمر، التساؤل “لماذا يُقدِم أكثر بابا تقليدي في العصر الحديث على أكثر فعل غير تقليدي في العصر الحديث؟”

البابا فرانسيس يمشي في إحدى شوارع المدينة كأي شخص عادي

شهر واحد هو المدة التي فصلت استقالة البابا “بينيديكت” عن انتخاب وتولي البابا “فرانسيس”، وظلّ الحديث طوال تلك الفترة يجمع ما بين الباباوين، وهو أيضا أمر غير مسبوق، وربما هو ما جعل “مكارتن” يتخيل طبيعة العلاقة بين الباباوين وطبيعة الحوار الذي من الممكن أن يدور بينهما، خاصة وأنه من المؤكد أنهما تقابلا ما لا يقل عن ثلاث مرات حتى وإن كانت حوارات تلك المقابلات غير معلَنة، لكن مما لا شك فيه أنه شيء محفز للغاية لمُخيّلة أيّ سينمائي، وقد كانت تلك الفترة هي طرف الخيط الذي تمسّك بها “مكارتن” لصياغة دراما حوارية مُتقَنة جسّدها في مبارزة تمثيلية بين كل من العبقري “أنتوني هوبكينز” في دور البابا “بينيديكت”، والمخضرم “جوناثان برايس” في دور البابا “فرانسيس”.

بابا يحجز تذكرة طائرته بنفسه

منذ المشهد الافتتاحي بالفيلم يقرر “مكارتن” أن يؤكد على طرحه غير التقليدي لشخصية البابا، حيث نستمع إلى البابا “فرانسيس” وهو يقوم بنفسه بحجز تذكرة سفر من روما إلى جزيرة لامبيدوسا، وحين تسأله الموظفة عن بياناته ويخبرها عن اسمه ومكان تواجده؛ تعتقد أنه شخص ينتحل شخصية البابا، أو يسخر منها فتنهي المكالمة.

حوار بين البابا “بينيدكت” شديد المحافظة والبابا “فرانسيس” الشخصية المنفتحة عن أوضاع الكنيسة

وذلك للدلالة على أن البابا الجديد شخص عادي يحجز تذكرة الطائرة لنفسه، لا ينتفع أو على الأقل لا يتمتع بالمزايا المتاحة له كبابا، حيث من السهل عليه أن يطلب من أحد معاونيه أن يقوم بحجز تذكرة الطيران له، لكنه يقرر فعل هذا بنفسه.

خارج حدود الفاتيكان.. إلى العالم

أكثر ما يميز السيناريو الجيد للفيلم السينمائي هو تعدّد مستويات تلقيه، وخروج فكرته من موضوع شديد الخصوصية إلى معاني وأفكار عامة، وهذا ما يميز سيناريو فيلم “الباباوان”، حيث انطلقت فكرته من الحوار بين البابا “بينيدكت” شديد التقليدية والمحافظة، وبين البابا “فرانسيس” الشخصية المنفتحة والمختلفة، وذلك عن أمور تخص وضع الكنيسة الكاثوليكية في العصر الحديث، ومعاناتها في التكيّف مع الحياة العصرية، ومواقفها من الطلاق والشذوذ الجنسي، ثم تتطرق المحادثة لتشمل معاني أعم وأشمل في الحياة، مثل الإيمان والفرق بين التغيّر والتطور والمساومة، لتُلقي تلك الحوارات بظلالها على وضع عالمي معقد لا يخص فقط الباباوان ولا يخص وضع الكنيسة، لكن يخص العالم وما يسوده من حروب ومشاحنات، يعمقها انقطاع الحوار بين المعسكرات الرجعية المتزمتة والمتطرفة أحيانا، وبين المعسكرات التي يمكن وصفها بالتقدمية في العالم أجمع، سواء في أوروبا أو أمريكا أو بريطانيا.

البابا بيندكيت يعزف على البيانو، في دلالة واضحة على إصباغ الرموز المقدسّة صبغة إنسانية بشرية

من أفضل ما قام سيناريو الفيلم بإبرازه هو التركيز على فضيلة الإنصات والاستماع باهتمام، وأن ذلك الإنصات هو بدون شكّ الخطوة الأولى من خطوات التواصل والتقارب في وجهات النظر التي قد تبدو متناقضة ومختلفة تماما، فالحوار والإنصات هما ما كوّنا علاقة صداقة تُعدّ من أغرب علاقات الصداقة التي تكوّنت نتيجة لموقف من أعقد وأغرب المواقف الإنسانية على الإطلاق.

الرموز المقدسّة.. يأكلون البيتزا ويشاهدون كأس العالم

من أهم ما يميز سيناريو “مكارتن” أيضا هو خروجه بالفيلم من حيّز النص السينمائي الذي يتناول شخصيات مُقدّسة لا يمكن المساس بها، إلى فصل التعامل مع الشخصيات بغض النظر عن وظائفها، حيث أصبغ صبغة إنسانية بشرية على الباباوين من خلال عدة مواقف حياتية وإنسانية بسيطة تقربهما من الناس، وتجعلهما شخصيات درامية حيّة ونابضة، بدلا من الإبقاء عليها كرموز مقدسة لا يمكن المساس بها.

الباباوان يأكلان البيتزا، والبابا “بينيديكت” يشرب مشروبه المفضّل “الفاتنا”

فقد أظهرهما يتناولان البيتزا، ولديهما اهتمام واضح بالموسيقى والعزف على الآلات الموسيقية، حتى نشاهدهما في واحد من أجمل وأمتع مشاهد الفيلم وهما يشاهدان مباراة نهائي كأس العالم ما بين ألمانيا والأرجنتين، وكل منهما يشجع وطنه الأم.

من مسرحية إلى فيلم.. عاشق الفانتا

في البداية قدم “أنتوني مكارتن” فكرة في “الباباوان” كمسرحية، وذلك عام 2017 بعنوان “البابا”، ثم قرر أن يقوم بعمل معالجة سينمائية لها وعرضها على شبكة نتفليكس كي تنتجها على شكل فيلم سينمائي، لكن من الواضح أنه لم يتخلص من شكل البناء المسرحي للفكرة بشكل كلي، وذلك كما هو واضح من خلال الفيلم، فظل محتفظا بعدد الأماكن المحدود للأحداث ما بين مقر الفاتيكان وبين كنيسة سيستين، التي تم بناء ديكور كامل مماثل لها بكافة تفاصيلها في روما، وبين المقر الباباوي الريفي، كما احتفظ بطبيعة الفصول المسرحية ذات الحوارات المطوّلة التي تعتمد على عدد محدود جدا من الشخصيات.

لكن ما جعل الفيلم يتميز رغم شبه بنائه بالبناء المسرحي هو البحث المتقن الذي قام به “مكارتن”، وتوظيفه لكل المعلومات التي توصّل لها من خلال سيناريو متقن ومتماسك، فمن خلال البحث الخاص اهتم بتفاصيل كل شخصية، مثل استخدام وتوظيف أن البابا “بينيديكت” يُحب مشروب الفانتا كثيرا، فهي معلومة تاريخية معروفة، حيث مُنعت الكوكا كولا أثناء فترة الحرب العالمية الثانية، ولم يكن هناك سوى مشروب الفانتا الذي اعتاد أن يشربه وهو في طفولته، فتعلّق بها وظل يشربها منذ ذلك الوقت.

هي معلومة تبدو بسيطة لكنها مهمة، وأعطت ملمحا تاريخيا وإنسانيا عن شخصية البابا “بينيديكت”، كما أثرَت طبيعة الشخصية الدرامية السينمائية، كما هو الحال في شخصية البابا “فرانسيس” الذي رفض الزيّ التقليدي للفاتيكان، كما رفض معظم مظاهر الترف والتقليدية الشديدة التي يظهر عليها رجال الفاتيكان، لتكون أيضا إحدى المعلومات التي تثري شخصية البابا “فرانسيس”.


إعلان