مُخبر الائتمان الاجتماعي الصيني.. ليَمِيز الشيوعيون الخبيث من الطيب

تُخطط السلطات الصينية لتطبيق مشروع “بطاقة الائتمان الاجتماعي” في عموم البلد خلال عام 2020. وتريد الصين من المشروع الذي جُرّب في بعض المناطق مراقبة مواطنيها، لتتمكن أجهزتها الأمنية عبره من رصد تحركاتهم ومعرفة أدق تفاصيل حياتهم، وحتى مواقفهم السياسية.

ذلك ما يكشف عنه الوثائقي السنغافوري “مُخبر الائتمان الاجتماعي الصيني”، الذي شرع في رصد التجارب الأولى لتطبيق المشروع الجديد في بعض المناطق، وقاده بحثه إلى كشف أساليب مراقبة أخرى يجري العمل بها، ووفقها يمكن للقيادة الصينية تقييم وفرز المواطن الجيد من السيئ.

بطاقة الائتمان الاجتماعي في ظاهرها تبدو وكأنها وسيلة لتحسين سلوك المواطن الصيني، وجعله أكثر إسهاما في تطوير مناطق سكنه وعمله، أما في العمق (وهذا ما يحاول التركيز عليه مُعد الوثائقي الصحفي “ديلي بارلو”) فإنها في النهاية تقود إلى خلق أنواع من الرقابة المشددة على تصرفات الأفراد واستغلالهم أيضا.

“رونغتشانغ”.. جولة في ميدان التجربة الأولى

“رونغتشانغ” هي من أولى المناطق السكنية التي يُجرَّب فيها مشروع النقاط الائتمانية، لذا ذهب إليها الوثائقي لمعرفة المزيد عن المشروع، وذلك من خلال إحدى العاملات فيه، وفي مقابل راتب شهري.

تأخذ جامعة المعلومات -كما تُسمى رسميا- فريق العمل إلى جولة في المدينة، حيث تنتشر على جدرانها وفي أهم مراكزها لوائح تشمل أسماء وصور المكرمين من الصينيين الجيدين، فهؤلاء حصلوا على أكثر عدد من النقاط نتيجة لحسن سلوكهم، وتقديمهم أعمالا خيرية للسكان والمدينة.

المخبرة تجول على البيوت لمعرفة ما يجري فيها

المشروع يمنح رصيدا لكل شخص قيمته ألف نقطة، وفي حالة إضافة صاحبه نقاطا إليه يحصل على امتيازات كثيرة، أما إذا خسر فسيُحرم من بعض نقاطه، وسيعامل كمواطن سيئ.

“جامع المعلومات”.. خدمة استخباراتية عامة

تصفُ “جامعة المعلومات” عملها بأنه خدمة عامة، إذ أنها تقوم هي وخمسة آخرون معها بتقديم تقارير مفصلة عن حياة وتصرفات أبناء منطقتها. فكل واحد من المخبرين مسؤول عن مراقبة سلوك جيرانه إضافة إلى عدد آخر من العوائل.

أحد شوارع شنغهاي

التقارير المُقدمة إلى المسؤول الحزبي في المنطقة تتضمن كل ما يجري داخل البيوت وخارجها. أحدهم سلّم محفظة عثر عليها في الطريق إلى الشرطة، فأضيفت إلى رصيده عدة نقاط، فيما سُحبت من آخر نقاط لأنه لم يقُم بتنظيف الشارع الذي يسكن فيه. هذه بعض الأمثلة التي تقدمها “المخبرة” للوثائقي عن طبيعة النقاط وطرق تسجيلها.

لا قروض ولا علاوات.. مواطن من درجة سيئة

المسؤول واللجنة الحزبية لهم وحدهم حق وضع النقاط بعد الاطلاع على التقارير وتسجيلها في قاعدة بيانات محفوظة في حواسيب الحكومة. تقدم إحدى المسؤولات الحزبيات لمعدّ الوثائقي أمثلة على فَعاليَّته، وكيف استطاع مختبر الائتمان منذ البدء في تطبيقه عام 2015 تحسين سلوك سكان الوحدات السكنية الجديدة الواقعة في أطراف منطقة “رونغتشانغ” التي يبلغ عدد سكانها نحو 700 ألف نسمة، وهي من بين 40 منطقة تُطبّق فيها تجربة “بطاقة الائتمان الاجتماعي”.

المواطن الصيني مراقب في الشوارع

بفخر تستعرض المسؤولة الحزبية أمام المُعدّ أيضا بعضا من عقوباته، حيث يُحرَم المخصوم من رصيده الائتماني بعض النقاط من الحصول على قروض بنكية وعلاوات وظيفية، كما تقل فرص حصوله على السكن، ولا يُقبل في صفوف الحزب الشيوعي، حتى أن فرص زواجه تتقلص، لأن العوائل تخاف الاقتران بمواطن سيئ.

حمراء أو سوداء.. قوائم الشركات والأفراد

لا ينحصر المشروع الذي أطلقه زعيم الحزب الشيوعي الصيني بالأفراد، بل يشمل الشركات والمشاريع التجارية أيضا، فالقائمون على المشروع يوزعون الناس والشركات على قائمتين “حمراء” و”سوداء”، والمُدرجون في هذه الأخيرة يتعرضون لمقاطعة وحصار مشدديين من قبل المؤسسات الحكومية.

يستمع الوثائقي إلى وجهات نظر مسؤولين حكوميين قبل انتقاله إلى الناس العاديين، وهؤلاء يؤكدون تحسّن أحوال المناطق المطبَّق فيها، وأنها غدت نظيفة وعصرية، أما على مستوى الشركات فيقدمون فضيحة غِش “اللقاحات المضادة” التي ظهرت قبل سنوات مثالا. لقد مات بسبب غشّ الشركة المنتجة آلاف الأطفال الصينيين، وأساءت إلى سمعة المنتج الصيني في الخارج، فكان لا بدّ من إدراج أصحابها في “القائمة السوداء”.

لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.. كوابيس وخوف

جولة خارجية في المناطق المطبق فيها نظام الائتمان توحي بأن نتائجه جيدة والناس يريدون الاستمرار به، أما حصيلة ما التقطته كاميرا الوثائقي من دون وجود المُخبر في قرية “تشاوتان”، فأظهرت صورة مختلفة تماما، فالناس لا يُقدِمون على تنظيف الشوارع والأعمال التطوعية من أجل كسب النقاط بإرادتهم، بل خوفا من العقوبات التي تنتظرهم حال استقطاع نقاط من حسابهم.

أعمال “سخرة” يقوم بها المواطنون لصالح الدولة والحزب

يعيش سكان القرية كابوسا حقيقا بسببها، فالأعمال الإضافية تؤثر سلبا على بقية التزاماتهم الضرورية، إذ أن عليهم العمل لساعات طويلة، مما يضعف تركيزهم على رعاية مواشيهم وزرعهم، حتى أن المرضى والمتقاعدين يخافون استقطاع نقاط من حساباتهم، لأن ذلك يؤثر سلبا على مستوى حياتهم.

كل عائلة في القرية تعمل لضمان كسب نقاط إضافية لبقية أفرادها، وخاصة المرضى منهم والعاجزين عن المشاركة في العمل التطوعي الذي يمنح نقطة واحدة لكل فلاح يعمل ثماني ساعات أسبوعيا، ولمدة عام كامل دون مقابل.

تشابك المصالح.. ولي فيها مآرب أخرى

مقابلة مسؤول القرية الحزبي تكشف عن تشابك “نظام النقاط” مع المصالح الشخصية والحزبية، فتشدده في مراقبة سكان القرية وتهديده باستقطاع نقاط من حساب غير المتحمسين للعمل التطوعي جزء منه شخصي، فاللّجنة الحزبية كانت قد هددته بتقليل راتبه الشهري إذا لم يقم بواجبه في الرقابة والتحريض على تنفيذ المشروع بكل حذافيره.

الرقابة في أحد الشوارع الصينية

يصف عجوز من القرية حال سكانها بأنهم عمال مسخرون للحزب الحاكم الذي يريد زعيمه أن تكون قراراته وكلماته قانونا يُلزم الجميع بتنفيذها.

مَشاهد يثبتها الوثائقي تؤشر لوجود معارضة ورفض للمشروع، وتشخيص من قبل الواعين منهم بأنه عقوبة جماعية بالأشغال الشاقة، وتقليص للحريات الفردية وتعزيز لهيمنة الحزب الشيوعي وزعيمه.

“العصا والجزرة”.. مشاريع مراقبة اقتصادية

مقابلة فريق الفيلم لعدد من المسؤولين الاقتصاديين الصينيين وسؤاله عن مشروع الائتمان المجرب في 40 مدينة، وعن مدى جدواه في المستقبل؛ أوصل الوثائقي الاستقصائي السنغافوري إلى وجود مشاريع أخرى موازية تعمل اليوم على مراقبة ربع سكان الصين، والهدف منها ضبط سلوك الناس بأسلوب “العصا والجزرة”.

أكثر من مليار صيني ربطه أصحابه بنظام “سيسام كريدت”

واحدة من الحقائق التي يكشف عنها بعض مسؤولي المشروع البنكي الجديد “سيسام كريدت” أنه يركز على الجانب الاقتصادي أكثر من الاجتماعي المعمول به في مشروع بطاقة الائتمان الاجتماعي، وأنه يطمح إلى الحصول على أدق المعلومات الشخصية، وعبره يمكن خلق نظام مراقبة حديث قادر على تحقيق الأهداف السياسية للحزب الشيوعي.

تجسس “ذكي”.. كم صرفتَ خلال الشهر؟

يقابل الوثائقي سيدة شابة تملك شركة بيع مواد تجميل، وتستخدم في معاملاتها اليومية نظام “أليبي” على هاتفها النقال، فعبره تسدد فواتيرها وكل مدفوعاتها الشخصية، وعبره أيضا -كما يؤكد الخبراء التقنيون- يمكن معرفة سلوكها بسهولة، وتتبع كل خطوة من خطواتها، فقاعدة المعلومات الضخمة للنظام تحفظ كل التفاصيل الشخصية لمستخدميه، ويمكن من خلاله معرفة من أين اشترت تذكرة سفرها بسهولة، وأين شربت قهوتها، وكم صرفت خلال الشهر.

هذا النظام الذي يستخدمه اليوم أكثر من مليار صيني ربطه أصحابه بنظام “سيسام كريدت”، الذي يخصم أو يمنح نقاط ائتمان اقتصادي واجتماعي وفق سلوك كل مستخدم.

عن المرء لا تسأل وسل عن نقاطه.. فوارق طبقية

خلَق نظام “سيسام كريدت” فوارق طبقية واجتماعية كبيرة، عدا استخداماته لأغراض المراقبة، وذلك من خلال الامتيازات التي يمنحها للمستخدم “الجيد”، فالحاصل على نقاط تبلغ ما بين 350 إلى 950 نقطة يمكنه الحصول على قروض بنكية بسهولة، واستخراج موافقات السفر دون مشاكل، كما يضمن لأصحابها وضعا اجتماعيا جيدا، فمن كانت له نقاط أكثر فذلك يعني ضمنيا أن وضعه المالي جيد ومستقر، وأن مستوى تعليمه عالي، وهذا يسهل عليه التعرف على شخصيات من نفس مستواه.

لوائح وبيانات بأسماء الفائزين بنقاط الائتمان

لقد شجع نظام المراقبة الاقتصادي الجديد على الغش أيضا، لامتيازاته الكبيرة التي يريد الكثيرون الحصول عليها حتى ولو بطرق غير شرعية، فقد انتشرت في الصين عصابات تقوم مقابل الحصول على المال بتوفير نقاط وهمية لمن يريد الحصول على نقاط “سيسام كريدت”.

يجري ذلك عبر تزوير معلومات وإضافتها إلى سجل الشخص، منها على سبيل المثال امتلاكه إجازة سياقة وشقة فارهة وغيرها من المظاهر الكاذبة التي تخدع النظام، وتوهمه بأن صاحبها مؤهل لنيل مزيد من النقاط الائتمانية.

معاقبة المعارضين.. عقوبات بالتوارث

على المستوى السياسي وما يتعلق بالمعارضين للنظام الصيني فإن “سيسام كريدت” يقوم بدوره في إضافتهم إلى قائمته السوداء.

يلتقي الوثائقي بصحفي معارض ما زالت المعلومات السيئة المثبتة ضده في نظام الائتمان موجودة على شبكة الإنترنت. معلومات تحرمه من أشياء ضرورية كثيرة، وتجعله هدفا سهلا للجهات الأمنية، فبالرغم من دفعه الغرامة التي أقرتها المحكمة كعقوبة على نشره “معلومات غير صحيحة”، فإن المعلومات الشخصية الخاصة به لم تُحذف وظلت موجودة.

منطقة “رونغتشانغ” السكنية التي يُجرَّب فيها مشروع النقاط الائتمانية

بعد تقديم شكوى أمام القضاء من وجودها طالبته الجهة الرسمية المُدّعية عليه بتقديم اعتذار شخصي لها علنا، لغرض التقليل من مصداقيته المهنية وإهانته شخصيا. ومع تقديمه بعض التنازلات لها مجبرا، فإنه ما زال مُسجلا في القائمة السوداء.

يقدم الوثائقي الرائع الذي بدأ كوميديا وساخرا وانتهى تراجيديا محزنا؛ حالات لرجال أعمال تأخروا في سداد ديونهم، أو تعرضت تجارتهم لخسارة، ولم تقتصر تبعاتها عليهم وحدهم، بل شملت أفرادا من عوائلهم، ووصلت حتى لأحفادهم.

كاميرات مراقبة في كل مكان.. لا خصوصية بعد اليوم

قادت قسوة نظام العقوبات الناتجة عن “سيسام كريدت” الوثائقي لمراجعة سجل مراقبة المواطن الصيني، وأوصلته إلى وجود نظام جديد يجري العمل به الآن، ويراد له مستقبلا أن يكون في كل شارع وزاوية. إنه “نظام كاميرات المراقبة المركزي”، فقد أصبحت الصين اليوم تمتلك أكبر شبكة مراقبة بالكاميرات في العالم، إذ تراقب أكثر من مليار شخص. وعبر ما تسجله عدساتها توفر للمسؤولين الأمنيين تصورا دقيقا عمّا يجري في شوارعها وأحيائها.

نظام المراقبة الجديد المسمى “شارب آي” في شوارع بكين

يأخذ “جوش تشين” الصحفي السياسي في صحيفة “وول ستريت جورنال” صُنّاع الوثائقي في جولة لأحد الشوارع الرئيسية في العاصمة بكين، حيث يقدم لهم خلالها تصورا لنظام المراقبة الجديد المسمى “شارب آي”، ويشمل نصب نحو 170 ألف كاميرا في شوارع المدينة.

يصف الصحفي مشروع القيادة الصينية القادم بنصب كاميرا في كل شارع وزاوية من زوايا الصين بأنه سيصبح أكبر نظام مراقبة فردية موجود على وجه الكرة الأرضية.

وبجمعهم مشاريع النقاط الائتمانية والمراقبة الاقتصادية والكاميرات المستخدمة اليوم؛ يمكن لقيادة الحزب الشيوعي الصيني معرفة كل ما يفعله المواطن الصيني، وتعد عليه أنفاسه، في بيته وفي الشارع وفي كل مكان يوجد فيه، وهي بهذا الشكل من الرقابة تتجاوز كليا مبدأ حق احترام خصوصية المواطن الصيني.


إعلان