“بحر من ظلال”.. حماية السمكة الأخيرة من لصوص البحر
تتّحد الأفعال الجرمية لمافيات صيد مكسيكية مع جشع مهربين صينيين؛ على تدمير أجزاء كبيرة من الحياة البحرية في خليج كاليفورنيا، وعلى إنهاء وجود أصغر الحيتان في العالم.
ذلك ما يبحث عنه ويستقصي حقيقته الوثائقي الأسترالي “بحر من ظلال” (الحائز على جائزة الجمهور في الدورة الأخيرة لمهرجان سندانس السينمائي الدولي)، عبر مغامرة وثائقية يواجه خلالها المخرج “ريتشارد لادكاني” وفريقه أعتى عصابات الجريمة المُنظمة في المكسيك، التي وجدت في التجارة غير الشرعية لبيع أحشاء أسماك “توتوابا” إلى الصين مصدرا خياليا للربح يفوق أحيانا ما يحصلون عليه من تجارة المخدرات، لهذا يُطلقون هم عليها اسم “كوكايين البحر”.
هذا النوع من الأسماك الكبيرة الحجم يعيش في المياه المُقابلة للسواحل المكسيكية (خليج كاليفورنيا، المكسيك)، ويندر وجوده في مناطق أخرى من العالم، ويُقدِّر الصينيون القيمة الغذائية لمثانته، ويعتبرونها من أطيب وأرقى الأطعمة لديهم، فسعر الكيلو الواحد من أحشائها (المثانات الكبيرة) يصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات، لهذا زادت عمليات صيدها بطرق غير مشروعة، مما صنع سوقا سوداء نشطة يقوم تجارها بتهريب كميات كبيرة منها إلى خارج البلاد عبر وسطاء في هونغ كونغ.
حيتان “فاغويتا”.. ثروة بحرية توشك أن تنضب
وجود أسماك “توتوابا” حصرا في المياه المقابلة للسواحل المكسيكية حفّز عصاباتها المحلية على صيدها، بواسطة شبكة صيد عملاقة يرمونها وسط مياه البحر، مما يعرض بقية أسماك وثدييات بحريّة للوقوع فيها، وبالتالي إلى موتها.
من بين تلك الثدييات حيتان “فاغويتا” وهي أصغر الحيتان حجما وأندرها وجودا في المياه، ولحمايتها من الانقراض تحركت مجموعة من الناشطين، وقامت بمهمة انتشال الشبكة من البحر لتجنب الوقوع فيها. تلك المهمة قادتهم لمواجهات مع مافيات الصيد المكسيكية، وأخبارها وصلت إلى وسائل الإعلام.
لصوص البحر.. مهمة استقصائية
الصحفي الاستقصائي المكسيكي “كارلوس لوريت دي مولا” كان من بين المهتمين بالموضوع، فخبرته في تغطية الحروب ومطاردات زعماء تجارة المخدرات حفّزته للعمل على كشف جوانب من خفايا عمليات تهريب أحشاء سمك “توتوابا” وموت الحيتان الصغيرة بسببها، كما أن حرصه أيضا على حماية الحياة البرية والطبيعية في بلاده دفعه لقبول العمل مع صُنّاع الوثائقي لكشف حقيقة ما يقوم به لصوص البحر.
ولتقصي عمليات الصيد غير الشرعي، رافق الوثائقي فريقا من العلماء والنشطاء البيئيين لحماية البيئة البحرية والحيتان الصغيرة، وسجّل مطارداتهم للقوارب التي ترمي شباكها في البحر.
ولتوثيق عمليات التهريب رافق مصوروه الصحفي الاستقصائي وفريق المحققين الخاص المتعاون معه في كل خطوة من خطواتهم، وبهذا وزّع مساره بين جانبين، ليعرض من خلالهما المشهد الدراماتيكي بكل أبعاده.
ميناء “فيليبه”.. أسعار خيالية في وكر الجريمة
يُقدّم الفيلم في مفتتحه مشهدا مُصوّرا بكاميرات ليلية، حيث يُظهر ملاحقة سفينة النشطاء البيئيين لقارب قام برمي الشِباك للتوّ في البحر، وقد انتهت المطاردة بهروب القارب وبقطع ربابنته الشِباك، لتغوص في مياه البحر مُعرّضة آلاف الأسماك للتعلق بخيوطها، لكن الفريق قام بسحب الشَبكة وإعادة كل الأسماك العالقة بها إلى البحر.
على الجانب الثاني من القصة رافق صُنّاع الوثائقي الصحفي المكسيكي في طريق ذهابه إلى ميناء “فيليبه”، حيث تنشط عمليات المتاجرة غير المشروعة فيه، وقد توصلوا إلى حقائق مذهلة فيما يتعلق بتجارتها، فسعر كيلو واحد من مثانة السمك يُباع في المكسيك بحوالي 4500 دولار أمريكي للمهربين، لكن سعره يصل إلى أكثر من 70 ألفا في الصين.
مياه كورتيز.. مسرح الجريمة
بعد تنكّر الصحفي بهيئة تاجر أسماك ومقابلته لمجموعة من المهربين في مدينة “تخوانا” الواقعة ضمن حدود منطقة بايا كاليفورنيا المكسيكية؛ توصّل إلى حقائق مهمة، من بينها أن عصابة تجارة المخدرات المعروفة باسم “سينالوا” هي من يُشرف على أغلب عمليات التهريب، وأن “أوسكار بارا” هو من يتولى ترتيب صيدها ونقلها إلى المهربين.
ومن بين ما توصّل إليه فريق التحقيق الخاص أن الصيادين هم من أهل المنطقة، ولا يوجد بينهم أجانب. كل ذلك نقله الوثائقي بالتوازي مع نقله لتحركات النشطاء، والمعلومات القَيّمة التي يقدمونها عن واقع ما يجري في مياه “كورتيز”.
الحياة البحرية.. مهمة حماية من الصيد العشوائي
وجود الحيتان النادرة يُثير استغراب العلماء والصيادين، فهي لا تظهر على سطح مياه البحر إلا قليلا، وفي الأعماق تصعب رؤيتها، لهذا يُشكك البعض بوجودها أصلا. ومن بين مهمات حماة البيئة العثور عليها أولا، ونقلها فيما بعدُ إلى “حاضنات” آمنة بعد ملاحظة تناقص أعدادها بشكل خطير، وحسب تقديراتهم لم يبقَ منها إلا 30 حوتا.
المهمة الرئيسية لهم ليست حماية الحيتان الصغيرة فقط، بل حماية الحياة البحرية بأكملها، فهي تتعرض لتدمير هائل بسبب الصيد العشوائي، وما حيتان “فاغويتا” إلا مثال حيّ يقدمونه للعالم كدليل دامغ على حقيقة المخاطر التي تُهدد البحار في كل مكان، وبالتالي تُهدد وجود كوكب الأرض وتفقده توازنه الطبيعي.
الشرطة في خدمة المافيا.. المطاردات الكاذبة
يلاحظ صُنّاع الوثائقي خلال مرافقتهم لفريق التحقيقات وجود مسلحين في المناطق التي تنشط فيها عمليات التهريب، فبعد البحث تبيّن أن عصابات تهريب “كوكايين البحر” تملك مخازن للأسلحة كبيرة جدا، وأن لديها طائرات مُسيّرة من دون طيار (درون) يراقبون بها تحركات الناشطين، أ
ما الشرطة فلا يخشونها، ويتحركون أمام أعين رجالها بحُريّة، حيث دعت الصحفي لمقابلة قادة منهم وسؤالهم عن سبب تجاهلهم للوجود المسلح.
كبار قادة الشرطة ووحدات المارينز العسكرية يؤكدون جديّة ملاحقتهم لـ”لصوص البحر” والمُتاجرين بأحشاء الأسماك بطرق غير شرعية، أما الكاميرا وسكان الموانئ والصيادون العاديون فيقولون كلاما آخر، فأغلب قادة المفارز ووحدات الجيش الخاصة يتلقون رشاوى من زعماء المافيات، حيث يدّعون ملاحقتهم، لكنهم في واقع الأمر هم يتركونهم يعبثون على هواهم.
ينقل الوثائقي مطاردة جرت بين صيادين تابعين للعصابات وبين رجال شرطة انتهت دون إلقاء القبض عليهم. هكذا يتكرر الأمر، مما دفع بعض الصيادين للاشتراك في مشروع انتشال الشِباك والمجازفة بحياتهم، بعد أن انقطعت أرزاقهم وباتوا بدون عمل.
مضايقة الصيادين.. شهادة عائد من مستنقع المافيا
كل عمليات الصيد غير الشرعي يُسيطر عليها “أوسكار بارا”، لهذا يضطر الصيادون العاديون خوفا منه إلى تجنب الاحتكاك به عبر اختيارهم مناطق صيد بعيدة، مما يُصعّب عملهم ويقلل مردودهم، حتى أن الناشطين البيئيين لم ينجوا من شروره.
ففي مشهد مُسجّل ينقل الفيلم عملية إطلاق نار على سفنهم، ومحاولة تخريب قاعدتهم البحرية التي أسسوها للانطلاق منها في بحثهم عن الشِباك المرمية وسط مياه البحر، أما المدن والموانىء فباتت بعد انتشار عمليات تهريب المثانات إلى الصين بؤرا للعنف والفساد.
يقابل الوثائقي شخصا كان متعاونا مع المافيا سابقا لكنه الآن بعيدا عنهم، حيث يعترف بعد أن أخفى وجهه عن الكاميرا بالأرباح الكبيرة التي يحصل عليها رجال العصابات جراء صيدهم بشِباك عملاقة، إذ يبلغ سعر الواحدة منها 50 ألف دولار أمريكي تقريبا، لكنه يُقرّ أيضا بأنه كان أسيرا عند مُلّاكها، لأنه كان يستأجرها منهم ويتقاضى من أصحابها مبلغا بسيطا من المال مقابل ما كان يصطاده، وعندما فكّر بترك العمل معهم هدّدوه بالقتل وباسترجاع الديون التي بذمته. إنهم يتحكمون بالمدن والموانيء، أما الشرطة فتكتفي كعادتها بالتفرج عليهم.
موت الفاغويتا المؤلم.. أسئلة مصيرية
بانتقاله من مَشاهِد التحرّي السريّة إلى البحر وعوالمه المدهشة، يُشيع فيلم “بحر من ظلال” إحساسا بجسامة الخسارة التي يتعرض لها كوكب الأرض نتيجة التدمير الذي يتعرض له، إذ ينقل مَشاهد من الحياة البحرية في خليج كاليفورنيا بكل تنويعاتها البيئية المذهلة، مصحوبة بتعليقات العلماء والناشطين الذين يريدون لها البقاء والديمومة، فيما يريد الآخرون الجشعون قتلها.
موت حوت صغير يزيد من ذلك الشعور، فبعد عثورهم على حوت “فاغويتا” نادر، ونقلهم له إلى قاعدتهم على أمل الحفاظ عليه؛ مات لعدم تحمله “السجن”.
حينها أوقف العلماء عملياتهم وقرروا ترك الموجود منها في الطبيعية، ومع قرارهم ظهرت على السطح أسئلة عن مصير المتبقي منها في ظل استمرار عمليات الصيد العشوائي وتهريب أحشاء الأسماك؟
مطاردة زعيم المافيا.. نبش في الملفات السرّية
بموت الحوت انتقل النقاش حول مصيرها إلى وسائل الإعلام عبر الصحفي كارلوس دي مولا، ما زاد من الضغط على الحكومة المكسيكية التي سمحت له ولفريق التحقيق الخاص المتعاون معه -أغلبيته من الخبراء في مطاردة المجرمين والمطلوبين للعدالة- بالاطلاع على ملفات “سرّية”؛ ظهر منها أن شقيق “أوسكار بارا” قد أودع السجن واعترف على مجموعة متعاونة معه، من بينهم ضابط شرطة كبير.
وعلى ضوء المعلومات قرر الوثائقي “مطاردة” زعيم المافيا والمهربين الصينيين بنفسه، حيث انتحل الصحفي المكسيكي شخصية رجل أعمال، وقام فريق التحقيق بمتابعة تحركات زعيم المافيا، وذلك بعد اطلاعهم على تسجيل كاميرا ثابتة في الشارع يظهر فيه وهو يُشهر مسدسه ويُطلق النار على أحد الأشخاص، ويُرديه قتيلا في وضح النهار.
التوازن البيئي.. مسؤولية الجميع الضائعة
حصل فريق الفيلم على معلومات مهمة من مُهرّب صيني حول طرق توصيل مثانات الأسماك بطرق ملتوية وبوسائل نقل مختلفة، بحيث ينقلونها جوّا إلى هونغ كونغ، ثم عبر البحر إلى الصين. كل ذلك تم توثيقه، إلى جانب تسجيلهم وجود كميات كبيرة من “كوكايين البحر” في المخازن.
قرّر فريق العمل عدم إبلاغ الشرطة خوفا من إفشال عملياتهم بسبب الفساد المنتشر بين رجالها، وبدلا من ذلك توجهوا إلى وسائل الإعلام التي قامت بنشر المعلومات، مما أجبر الشرطة ووحدات خاصة من الجيش للقيام بمداهمة المكان والقبض على زعيم المافيا.
لم تنتهِ القصة بالنسبة للناشطين البيئيين عند هذا الحد، فما زال هناك عمل كثير ينتظرهم، وهم يُقرّون بعجزهم عن حماية كل بحار الأرض لوحدهم، حيث يقدمون تناقص أعداد حيتان “فاغويتا” التي لم يبق منها سوى 12 حوتا مثالا، لهذا فهم يناشدون العالم عبر الوثائقي الرائع والشجاع من أجل التعاون معهم، لأن الأمر في النهاية يعني الجميع، الجميع بكل معنى الكلمة.