الحرب والإرهاب والمرأة.. أفلام عربية على الشاشات الفرنسية
ندى الأزهري
تتميز فرنسا مقارنة بغيرها من الدول -لا سيّما الأوروبية- بحضور كبير نسبيا للفيلم “الآخر” في دور العرض، والمقصود به الفيلم غير الفرنسي أو الأمريكي، والآتي من أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وتتراوح حصة هذا الفيلم من الإيرادات ما بين 11 إلى 15 بالمئة.
ضمن هذه السينما “الأخرى” نجد الفيلم العربي، فخلال عام 2019 كان عدد الأفلام العربية التي عُرضت في الصالات الفرنسية ضئيلا مقارنة مع السنة التي سبقتها، فمن عشرين فيلما تقريبا هبط العدد إلى حوالي النصف، مع الإشارة إلى أن هذا الرقم لا يتضمن ما تعرضه المهرجانات والتظاهرات الخاصة، بل فقط ما يخرج في الصالات تجاريا.
هذا التذبذب في كمية الأفلام العربية المعروضة قد يكون تعبيرا عن عدم الانتظام في الإنتاج العربي بشكل رئيسي، كما يدل على أن نوعية بعض الأفلام المنتجة ربما لا تُلائم هوى المشاهد الفرنسي. ومن الجدير بالذكر أن عرض أيّ فيلم عربي في مهرجانات كبرى مثل مهرجان “كان”، أو مشاركة فرنسا في إنتاجه؛ يفتح أمامه أبوابا أوسع للعرض التجاري.
تناولت الأفلام العربية التي عُرضت في فرنسا عام 2019 مواضيع الحروب والإرهاب وأوضاع المرأة، وانعكس الوجود المتزايد للأفلام الوثائقية عامة في دور العرض الفرنسية على عدد الأفلام الوثائقية العربية، إذ شكّل عددها ثلث المعروض عربيا، وجاءت تلك الأفلام من سوريا ومصر.
“لسّه عم تسجل”.. رحلة عودة إلى دوما والثورة
عام 2011 قرّر الطالبان الجامعيان سعيد البطل وغياث أيوب الذهاب إلى الغوطة الشرقية لمتابعة الأحداث. كان الحماس الثوري على أشدّه حينذاك إلى أن انقلبت الأوضاع، حيث شهدا الحرب والقصف، وعاينا وعانيا الحصار والتجويع مع المقاتلين والأهالي، وقدّما في “لسّه عم تسجل” نظرة عميقة ومكثفة وشاملة عن وطن يُدمّر وشعب يقاوم.
ومن خلال كاميرا لم تكفّ عن التصوير جمّعا 450 ساعة اختُصرت في فيلم من ساعتين. كان تصميمهما على المتابعة والتسجيل على الرغم من العقبات والكمائن والإخفاقات؛ أحد أسباب قوة هذا الفيلم المدهش والمؤلم إلى حدّ صعب الاحتمال.
ترافق عدسة سعيد تفاصيل الحياة في مدينة دوما، وحيوية المقاتلين وإيمان الأهالي، وترصد على نحو عميق ومؤثر على أرض الواقع وفي سلوك الناس؛ التحوّل التدريجي لبراءة الأيام الأولى وسِلميتها وآمالها ونجاحاتها، ثم القتال والتعب واليأس من انتصار لا يأتي. ويبين الفيلم بحساسية مرهفة الشخصية السورية الساخرة على الرغم من الحضور الدائم للموت، ويلتقط بتمكّن المواقف المتباينة، سواء الشجاعة أو الخائفة التي لا تريد الموت.
“لسّه عم تسجل” رحلة عودة إلى دوما وإلى الثورة، واستكشاف لما حدث، لكل التضحيات والبطولات وكل الخيبات، لضياع ما أُخذ بمشقة. إنه استقصاء لمواضيع وهواجس تسكن المخرجَيْن كالانتماء والموت، وتساؤل عمّا يُحدّد بعض خيارات الحياة.
لا يريد غياث أيوب للعمل أن يكون مجرد شهادة شخصية، إنه “مسؤولية أخلاقية تجاه جيلهم الذي آمن بالثورة”، وكأنه أراد أن يعوّض غيابه عن ساحات القتال، ساعيا عبر قصص أبطاله أن يحقق فيلما يمسّ أكبر عدد ممكن من الناس، فهو لا يرغب لهذا التاريخ أن يُنسى، وقد نجح في مسعاه ذلك، فالفيلم عُرض في العديد من المهرجانات ونال العديد من الجوائز.
فيلم “لسّه عم تسجل” هو “تأمل وتفكر بعين هادئة لمحاولة تعلّم دروس ضائعة أو منسية” كما كتب سعيد البطل، وهو قبل كل شيء “رغبة في الفهم، ومحاولة للتمعن في المتناقضات، ووضع الحرب الاستثنائي، وبحث عن تعريف كلمة فنان ودوره في المجتمع”، فما هو الفن في الثورة وفي الحرب وفي الموت؟”.
“لأجل سما”.. رسالة من أم لابنتها في حلب
بالانتقال مكانيا من دوما إلى حلب وزمانيا إلى 2016، تُقرّر الشابة “وعد الخطيب” أيضا تصوير كل ما تقع عليه عيناها في حلب عام 2016، وبالذات في المستشفى الوحيد الذي بقي صامدا حتى النهاية، حين يأتي التهجير القسري بعد تدميره.
وعد لا تنفصل عن الكاميرا، فهي دائما بيدها مهما قست الظروف، وذلك بهدف بثّ أقصى ما يمكن من صور على الإنترنت عن هذا الدمار وهذه الوحشية، وهي تتابع رصدها بتصميم أكبر بعد زواجها من طبيب المستشفى وولادتها لابنتها “سما”، تلتقط الكاميرا يوميا وعلى وقع القصف تصور الخسائر والآمال ومشاعر التضامن بين أهل الحيّ، كما تنقل الكاميرا تمزّق وعد وزوجها الطبيب بين مغادرة لحماية ابنتهما سما، أو المقاومة من أجل حُريّة بلدهم وإسعاف الجرحى.
“لأجل سما” هو الفيلم الذي صنعته وعد الخطيب بمشاركة البريطاني “إدوارد واتس”، وهذا بعد مغادرتها للمدينة مع عائلتها؛ رسالة من وعد لابنتها “سما” لتشرح لها فظاعات البشر، وظلم الحكام وقهرهم لشعوبهم، وقضاءهم على كل ما هو حي وكل ما هو جميل.
“إن شئت كما في السماء”.. كوميديا عبثية عن الهوية والأمل
أضاءت أفلام فلسطينية ثلاثة الشاشات الفرنسية بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك لما قدمته من سينما ذات مستوى فني عال لمخرجين من فلسطين، سواء كانوا متمرسين قدامى في الفن مثل إيليا سليمان، أو جددا يقدمون ثاني أعمالهم في السينما مثل سامح الزعبي ومؤيد العليان.
في “إن شئت كما في السماء” يتابع إيليا سليمان مسيرته ولغته السينمائية المتميزة، حيث يعتمد الصمت الأقوى من أيّ كلام، إضافة للصورة الشعرية كتعبير بصريّ عن مكنونات فرد وأحوال مجتمعات مضطربة، ويسكتشف في تناول هزلي مواضيع أساسية مثل الهوية والجنسية والانتماء.
ثمّة سؤال أساسي يطرحه هذا الفيلم، وهو “أين يمكن أن تشعر “بالوطن؟”. إيليا سليمان الذي يظهر في الفيلم ينتقل من فلسطين إلى باريس فنيويورك بحثا عن بلد جديد، قبل أن يدرك أن بلده الأصلي يتبعه دائما كظله، فبقدر ما يسافر في العالم فإن هناك شيئا يذكره بوطنه، ليتحوّل الوعد بحياة جديدة بسرعة إلى كوميديا من العبث.
“إن شئت كما في السماء” يُظهر أيضا العنف كسمة من سمات المجتمعات المعاصرة، وذلك من خلال مواقف عادية في الحياة اليومية للأفراد الذين يعيشون في جميع أنحاء العالم في مناخ من التوترات الجيوسياسية الكوكبية، ليتبين أن العنف الذي يحدث في مرحلة ما وفي مكان ما، يشبه إلى حد بعيد العنف الذي يُلاحظ في مكان آخر.
إنه لم يعد محدودا بزوايا نائية في العالم كما في الماضي، وكما يقول مؤلف الفيلم وصانعه في حوار ترويجي للفيلم، فصفارات الإنذار وأجهزة الإنذار الأمني لم تعد تُسمع على نحو متقطع بل ثابت. وبدلاً من التركيز على الصورة الكبيرة مثل تلك التي تواصل وسائل الإعلام إسقاطها علينا وإجراء التعميمات، ينظر هذا الفيلم إلى اللحظات الشاذة التي عادة ما تبقى خارج الصورة. “إن شئت كما في السماء” قصص إنسانية وشخصية عن تحديد الهوية وطرح الأسئلة وتوليد الأمل ربما.
“التقارير عن سارة وسليم”.. يوم أحببتُ زوجة الضابط الإسرائيلي
على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي يأتي فيلم “التقارير عن سارة وسليم” للفلسطيني مؤيد العليان، وهو فيلم ذو إيقاع سريع مشوّق ومفاجئ بأحداثه، حيث المخابرات الإسرائيلية وسلطات الأمن الفلسطينية تتشاركان في تعذيب فلسطيني مقدسيّ، وذلك بسبب قصة مُعقدة أساسها علاقته الجنسية بإسرائيلية متزوجة من ضابط إسرائيلي. علاقة لا خلفيات سياسية لها على الإطلاق، لكن هل يمكن للسياسة ألا تتدخل بهذا النوع من الارتباطات؟
لا يهاب المخرج الاصطدام بأحد بنظرته الواقعية، وهو يبدي من ضمن ما يبدي كيف يُصنّع البطل، وكيف يمسي معتقل فلسطيني في السجون الإسرائيلية بين يوم وليلة بطلا دون أن تكون له علاقة بالبطولة أو بالنضال؟
يبرز العليان بقدرة تلك الحواجز القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وسياسة الفصل بينهما على الرغم من جوّ الاختلاط الظاهري بين الشعبين، وأن المشكلة لا تكمن في الأفراد، بل في هذا النظام العنصري الذي يضمن عدم تواصل العالمين وعلى جميع المستويات.
إنه فيلم ينتصر كذلك للمرأة المتمردة على زوج خائن، حيث أثبتت فيه الممثلة ميساء عبد الهادي من جديد أنها باتت بهذا الأداء الصادق وقدرتها على تجسيد الأدوار المتنوعة؛ ركنا أساسيا في السينما الفلسطينية.
“تل أبيب ع النار”.. الصراع برؤية هزلية
في فيلم يعتمد التعامل هزليا مع موضوع جدّي، يسرد المخرج الفلسطيني سامح الزعبي قصة سلام ذي الـ30 عاما الذي يعيش في القدس (يجسد الدور في أداء لافت قيس ناشف). إنه متدرب في مجموعة تعمل على كتابة مسلسل بالغ الدراما، من تلك المشابهة للمسلسلات التي يتابعها الناس في العالم العربي بكل تفاعل وانفعال، إنه المسلسل الفلسطيني الدرامي الناجح جماهيريا “تل أبيب على النار”.
يعبّر فيه فلسطينيون بصدق وحرية عن آمالهم من اقتراب حرب 67، وعن مخاوفهم من احتلال القدس. سلام يعبر كل صباح نقطة التفتيش نفسها للذهاب للعمل في رام الله، إلى أن يوقفه في أحد الأيام ضابط إسرائيلي، وهو -يا للصدفة- أحد المعجبين بالمسلسل. وللخروج من المشكلة يدّعي سلام أنه كاتب السيناريو، فيقع في مصيدة سيكون الخروج منها معقدا.
يقرر الضابط فرض سيناريو جديد على الكاتب يلائم أفكاره، فالمسلسل يتابعه إسرائيليون أيضا، يتجاوب سلام في البداية إلى أن يدرك أنه من المستحيل متابعة خضوعه لأفكار الضابط وإملاءات المحتل، وأن عليه أن يوقف كل هذه اللعبة.
الفيلم يطرح وجهات نظر من منظورين مختلفين بنبرة كوميدية، ويمزج مسارين سياسيين:
– الأول: الصراع العربي الإسرائيلي الذي يتناوله المسلسل بطريقته عبر الحرب، والتي يرويها خال سلام المنتج ومؤلف العمل، وهو ينتمي إلى الجيل السابق الذي قاتل في 67 ووقع اتفاقية أوسلو.
– الثاني: الواقع اليومي مع نقاط التفتيش، وسرعان ما تندمج القصتان في نهاية المطاف.
“تل أبيب ع النار” كوميديا ناجحة وممتعة عن الصراع العربي الإسرائيلي مما شكّل تحديا كبيرا، لكن من وجهة نظر المخرج أتاح هذا النوع من الاقتراب الهزلي تناول الصراع بطريقة أكثر دقة، فالكوميديا تسمح بتناول قضايا غاية في الجدية بأسلوب أكثر رهافة وذكاء وإتقانا لما يمكن أن تحققه آليات المبالغة الهزلية من تأثير.
جاءت فكرة الفيلم للمخرج حين ضحك مرّة من موقف درامي في مسلسل جماهيري، لما كان فيه مبالغة في أسلوب الإخراج والأداء، فيما كانت أمه تمسح دموعها.
المرأة والهجرة والإرهاب.. بصمة الفيلم العربي
استعادت أفلام مخرجين جزائريين إرهاب الحرب الأهلية في الجزائر، مثل فيلم “حياة غير مرئية” للجزائري البرازيلي كريم عينوز، و”بابيشا” للجزائرية الفرنسية مونية مدور، كما عرض “محطة بغداد” للعراقي محمد الدراجي، وهو عن انتحارية تريد تفجير محطة القطار في بغداد.
كما عرضت أفلام عن ظرف المرأة في العالم العربي، مثل “نور” للبناني خليل دريفوس زعرور، والوثائقي “أمل” للمصري محمد صيام، و”نورا تحلم” للتونسية هند بو جمعة، وهو عن كفاح امرأة من الطبقة الشعبية لنيل الطلاق من زوجها السجين.
ومن تونس أيضا عرض فيلم متميز عن الهجرة، مثل “آخر واحد فينا” لعلاء الدين سليم، وهو فيلم صامت عن رحلة فرد تائه في بحثه عن ملجأ وعن الذات.