فيلم “الجدران”.. هندسة الكراهية كي لا أرى وجهك

مهند صلاحات

أكثر من خمسة وعشرين عاما مضت على سقوط جدار برلين الذي كان يقسّم العالم إلى عالمين برؤيتين أيديولوجيتين مختلفتين. انهار جدار برلين وتحررت أوروبا من عقدة شرقها وغربها، لكن الكثير من الجدران التي تقسم الدول والشعوب وترسم الحدود بين الثقافات والأمم لا تزال قائمة حول العالم، جدران مرئية من الأسمنت والفولاذ والرمل والأسلاك الشائكة، وجدران أخرى غير مرئية، وتلك التي يصعب هدمها لأنها قائمة في داخلنا، متخذةً من نفسها سمة لعصرنا، وجدلية لا تنتهي في تكوين ملامح العصر الحديث كمكان مليء بالصراعات والانقسامات العرقية والدينية والأيديولوجية وغيرها.

سقط جدار برلين ليذكرنا بأن العالم محموم بفكرة الجدران، يعليها أكثر، فكأن مستثمري جدار برلين أخذوا الحجارة المهدومة ليبنوا بها جدرانا مماثلة والتفكير بأخرى جديدة.

 

في ظلال الجدران.. قصص من يوميات الهجرة

عبر 85 دقيقة هي مدة هذا الفيلم التسجيلي، يسعى مخرجا الفيلم الإيطالي “فرانتشيسكو كونفرسانو” و”نيني غريغنافيني” لاستعراض شكل الحياة التي تتشكل وتتغير حول تلك الجدران القائمة في العالم، جاعلين من الجدران قصصا تروى عن الرجال والنساء الذين يقضون الليل في “نوغاليس” على طول الحدود التي تفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، وأخرى في “ميتروفيتسا” التي تفصل بين الصرب وألبان كوسوفو، هذه الجدران التي تساهم في تشكيل حياة وعقول وقلوب أولئك الذين يعيشون على كلا الجانبين.

يخلق المخرجان -في لقطات طويلة تبدو سمة تغلب على فيلمهما- مقارنة بين الجدار في ولاية أريزونا على طول الحدود (حوالي 3200 كلم) بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك، وبين جسر في كوسوفو يفصل بين الألبان والصرب، ليكونا نموذجا للجدران والحواجز المصطنعة المتزايدة التي تفصل بين الجنس البشري.

بوستر فيلم “الجدران”، حيث جدار كوسوفو الذي يفصل بين الألبان والصرب

 

إنقاذ العطشى في صحراء الدولة العظمى

لا يتجاوز زمن الوقائع في الفيلم يومين في كل جهة من العالم، فخلال ليلة ويوم واحد نسج المخرجان قصة مجموعة من الرجال والنساء المهاجرين في “سونورا” المكسيكية ينتظرون لدخول الولايات المتحدة بصورة غير نظامية، وعلى الجانب الآخر من الحدود في أريزونا يستكمل الفيلم حكايته في سجن المهاجرين غير النظاميين، ومن السجن يعود إلى الصحراء الفاصلة ليلتقي مجموعة من الوطنيين الذين يقومون بدوريات حراسة على الحدود لمنع المتسللين، ويبحث في تلك الليلة أيضا في الأنحاء عن زوجين من المتطوعين يجوبان الحدود ليوزعا المياه في الصحراء للمهاجرين الذين يتمكنون من عبور الحدود.

“الجدران ليست تبنى لأننا نبتغي حماية البيت، ولا لكي نعلق عليها صورنا وثمارنا المجففة، ولا لنسند إليها ظهورنا، بل تبنى بمرجعية واحدة هي الكراهية: أبني الجدار لأنني لا أريد أن أرى وجهك”

العجوز الذي فقد منزله خلال الحرب الصربية الألبانية

 

جسر الكراهية.. مخاطرة العبور اليومي

كما في القصة الأولى من الفيلم، فإن وقائع القصة الثانية على الجانب الآخر من العالم في “ميتروفيتسا” تدور في غضون يوم واحد أيضا، على طول الجسر الذي يقسّم اثنتين من المجموعات العرقية. قصص متداخلة من الصرب وألبان كوسوفو، إذ يقسم جسر بلدة صغيرة إلى اثنتين، الجانب الصربي في الشمال، بينما تقبع الغالبية المسلمة من الألبان في الجنوب.

ثمة عجوزان -فقدا منزلهما خلال الحرب- يحاولان عبور الجسر لمشاهدة المنزل الذي احتُل من قبل أشخاص آخرين، وهو ذات الخوف الذي يعيشه في الجانب الآخر سائق سيارة الأجرة المسلم الذي يخاطر بحياته كل يوم لعبور الجسر للوصول إلى شمال المدينة.

أحد السجناء في سجن للمهاجرين غير النظاميين في أريزونا

 

جدران غير مرئية

قصص مثيرة من الحياة اليومية في “ميتروفيتسا”، في البلقان، تحمل شواهدَ على مدى الكراهية، والذاكرة، والصراعات والأحقاد العرقية والدينية القديمة التي جاءت تلك الجدران لتجعلها حية غير قابلة للفناء في ظل ذلك الشكل من الفصل، وهي التي يحاول المخرجان أن يشيرا إليها بالجدران غير المرئية أو جدران الكراهية.

الجدران ليست تبنى لأننا نبتغي حماية البيت، ولا لكي نعلق عليها صورنا وثمارنا المجففة، ولا لنسند إليها ظهورنا، بل تبنى بمرجعية واحدة هي الكراهية: أبني الجدار لأنني لا أريد أن أرى وجهك.

قصص مؤلمة في ميتروفيتسا في البلقان، حيث تبكي الحجة على أحد أقاربها الذين وقعوا ضحية الكراهية

 

“الجدران”.. قيمة توثيقية وفنية عالية

يحمل الفيلم بالإضافة إلى قيمته التوثيقية الهامة، قيمة فنية عالية، فعلى الرغم من أن السمة الغالبة له تقوم على استخدام اللقطات الطويلة التي عادة ما تخلق إيقاعا بطيئا، فإن الفيلم حافظ على انتقالات مدروسة بين اللقطات الطويلة ومن مشهد إلى آخر بسلاسة اعتمادا على حركة الكاميرا في تغيير الزاوية أو تغيير حجم اللقطة، دون أن يؤثر هذا على إيقاع الفيلم والزمن وتسارعه فيه، تلك السلاسة التي تعني انسيابية الفعل في وحدة بناء المشهد، بحيث إن كل لقطة تنساب من خلال حركة الموضوع واتجاهه، بالإضافة إلى زوايا التصوير وتغييرها.

اعتمد المخرجان أيضا على أسلوب الصوت الداخلي للفيلم، إذ إن التعليق الصوتي في الفيلم التسجيلي هو الصوت الذي يأتينا من خارج الفيلم ليكون شارحا مساعدا، بينما المؤثرات الصوتية المباشرة أو المقابلة المباشرة هي أصوات تأتينا من داخل الفيلم، ولذلك فإن تأثيرها يكون أبلغ من التعليق، ولذلك –باعتقادي- استعاض المخرجان عن الصوت الخارجي بالأصوات الداخلية التي تحمل أكثر مشاعر الأشخاص الذين يقابلونهم على جانبي الحدود.


إعلان