“تغريدات ترامب”.. انقلاب في عادات الرئاسة الأمريكية وتقاليدها

قيس قاسم

يتتبع الوثائقي البريطاني “ترامب.. كيف غيَّرت وسائل التواصل الاجتماعي الرئاسة؟” بصبر لافت التَغييرات التي أحدثتها تغريدات الرئيس “ترامب” على أساليب التواصل بينه وبين جمهوره من جانب، وبينه وبين العالم الخارجي من جانب آخر.

وكيف غيَّرت من بين أشياء كثيرة أخرى العلاقة التاريخية بين البيت الأبيض ووسائل الإعلام التقليدية، والأسوأ فيها أنها أحدثت شرخا كبيرا في جسم المجتمع الأمريكي، وخلقت أزمات سياسية ليست قليلة في العالم كله.

على المستوى التاريخي توضح تغريدات “ترامب” -التي تجاوز عددها 50 ألف تغريدة منذ ترشيحه للرئاسة حتى يومنا هذا- حقيقة أنه السياسي الأكثر استغلالا لوسيلة تواصل متوفرة في زمنه متجاوزا بذلك -وبما لا تمكن المقارنة فيه- كل الرؤساء الذين سبقوه ونشطوا في استثمار وسائل التواصل التي كانت فاعلة في زمنهم مثل الراديو والتلفزيون.

 

أثر وسائل التواصل على المشهد الأمريكي.. تساؤلات تطرح نفسها

مع شدة فاعلية وتأثير تويتر يطرح المخرج “بيتر كريستال” سؤالين يمكن عليهما تأسيس مشروع بحثه الوثائقي: هل يستطيع ساسة أمريكا مستقبلا بعد تجربة “ترامب” مع تويتر تجاهل تلك الوسيلة أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، بالرغم من حدة انتقادات بعضهم للطريقة التي يستخدم بها الرئيس الحالي تلك الوسائط التي أحدثت إرباكا شديدا في مقومات العلاقة التقليدية بين الرئيس وبين بقية الأطراف التي يُخاطبها؟

أما بالنسبة للمختصين والمحللين فيسألهم ما إذا كانوا قد تصورا يوما إمكانية وجود مثل هذا التواصل الرئاسي الذي نراه اليوم على أرض الواقع، وفي الأحوال كافة هل ستنتقل عدواه إلى بقية السياسيين في العالم؟

يُقر من التقى بهم الوثائقي حقيقة أن تويتر وبعدد كلمات محدودة قد غّير طبيعة الرئاسة الأمريكية إلى الأبد، كما لم يسبق لأحد من مسؤولي البيت الأبيض أن حوّل تويتر إلى ساحة صراع- كما فعل ترامب- فإليها يستدرج خصومه ويُجيد على أرضها إرباك دفاعاتهم، مثلما يجيد أساليب جَر جمهوره لمتابعتها وكسب تأييدهم له.

الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” يوّجه كلاما لاذعا إلى “ترامب” يسخر فيه من تغريدته التي تحمل رقم “2216” على تويتر

 

التغريدة رقم 2216.. فاتحة مسلسل “تغريدات ترامب”

يأخذ صانع الوثائقي أهم التغريدات وأكثرها إثارة للجدل، ثم يقوم بتوثيقها كما وردت في الأصل برقمها الخاص وبالكلمات والجمل التي وردت فيها إبعادا لكل شك محتمل، ولإضفاء المزيد من المصداقية على منجز مهم توزع متنه بين مقابلات شخصية وبين خامات فيلمية تغطي مساحة واسعة من تاريخ استخدام الرئيس ترامب لتويتر.

تاريخيا يعتبر الخبراء التغريدة رقم “2216” هي البداية الحقيقة لسلسلة تغريدات الرئيس التي لم تتوقف حتى الآن، وفيها سأل “ترامب” -قبل إعلان ترشيحه للرئاسة- عن أصل الرئيس أوباما، وطالب بعرض جواز سفره والمعلومات الشخصية المثبتة فيه.

وقد أراد إشاعة لغط مفتعل حول أصوله ليوحي بعدم شرعية ترشيحه للرئاسة التي ينص قانونها بحصر المرشحين لها بالأشخاص المولودين على الأراضي الأمريكية فقط، وأراد بها أيضا إرباك الرأي العام.

لكن الرئيس السابق “أوباما” لم يسكت على ذلك، فقد استغل مناسبة خاصة حضرها كبار الشخصيات، ووجّه خلالها له كلاما لاذعا، وسخر فيه منه ومن كذبته. ويزعم كثير من المحللين أن “ترامب” ومنذ تلك اللحظة قرّر ترشيح نفسه للرئاسة معاندة وانتقاما من “أوباما”، وفي عام 2015 أعلن ذلك رسميا.

الرئيس الأمريكي “ترامب” يصف منافِسته الديمقراطية “هيلاري كلينتون” بأنها الأكذب من بين كل المرشحين للرئاسة الأمريكية

 

شيطنة المنافسين.. حملة انتخابية على أديم تويتر

بعد تجربته مع أوباما وإدراكه لفعالية أسلوبه الخاص في إثارة الرأي العام لم يتوان “ترامب” عن تطبيقه مجددا، وهذه المرة كان مع منافسته الديمقراطية “هيلاري كلينتون” من أجل إزاحتها من طريقه بنفس الأسلوب الدعائي التحريضي، وعبر ضخ أكبر كمية من الأكاذيب يصعب على من توجه ضده صدها كلها، إلى جانب تأثر قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي بها، فصورها كشيطان ثم وصفها في تغريدته رقم 27670 بما معناه أنها الأكذب بين كل المرشحين للرئاسة الأمريكية.

وحسب بعض المحللين الذين اشتركوا في الوثائقي فإن تغريداته السياسية شكلت حجر الأساس لحملته الانتخابية، فقد وجد -كرجل أعمال يتمتع بحسّ تجاري- في وسائل التواصل الاجتماعي أرخص الطرق وأقصرها لتحقيق ما يريد.

قد يحتاج في العادة إلى صرف ما قيمته 20 مليون دولار لطبع ملصقات ونشر دعاية يُراد بها ضمنا تشويه خصومه وفي الوقت نفسه إبراز مزاياه الإيجابية، ورغم تكلفتها الباهظة فربما لا يراها أغلب الناس، أما تغريدة تويتر فهي رخيصة، وبإمكانها خلال عدة ثوان الوصول إلى مئات الآلاف من الأشخاص.

يُجمع المحللون والخبراء الإعلاميون على أن “تغريدات ترامب هي شكل جديد من أشكال مهاجمة الخصوم، وإذا كان البعض يتعامل معها كنكتة سمجة وأسلوب ساخر رخيص، فإنها في الواقع كانت وسيلته الفاعلة لكسب أكبر عدد من المؤيدين له”.

 

بناء الجدار العازل.. أسلوب الجد الذي ينوب عن أحفاده

يقدم الوثائقي تغريدة “ترامب” حول بناء الجدار العازل بين الولايات المتحدة والمكسيك كمثال على قدرتها على إحداث انقسام حاد في صفوف الناخبين، فبطلبه من المكسيك دفع تكاليف بناءه كسب تأييد أعداد ليست قليلة من أوساط بسيطة، وبعد وقت قصير ظهر المجتمع الأمريكي وكأنه موزع بين طرفين واحد يصرخ ابن الجدار والآخر يقول لا تبنه.

في التحليل المعمق الذي يقدمه الوثائقي -من خلال مقابلات شخصيات قريبة من البيت الأبيض شارك بعضها في إدارة حملات انتخابية سابقة- فإن أسلوب “ترامب” لكسب تعاطف مؤيديه عبر تغريدات موجهة إليهم بالتحديد تؤتي غالبا أُكلها.

فهذه التغريدات هي موجهة بالأساس لفئة متعاطفة مع توجهاته الفكرية والسياسية، وأكثرهم من البيض ومن شرائح بسيطة من الطبقة العاملة والدرجات الأدنى من الطبقة المتوسطة، فهؤلاء هم من يقرأون تغريداته ويشعرون كما لو أنه الجَد الذي يُحب أحفاده.

إنه يعاملهم من خلال التغريدات والخطابات وكأنهم أطفال هو من يقوم نيابة عنهم برعاية مصالحهم، وتقدم الشخصيات الرقم 13 مليون كمثال، فهذا هو عدد الذين تابعوا  تغريداته خلال يوم واحد من أيام انتخابات عام 2016.

الصحافة الجادة ووسائل الإعلام الأمريكية المرموقة ضد تصريحات الرئيس “ترامب” وجدالاته في سياساته

 

“أخبار كاذبة”.. شعار الحرب ضد الصحافة

لطالما كانت الصحافة الجادة ووسائل الإعلام الأمريكية المرموقة ضد تصريحات الرئيس وجدالاته في سياساته، ووقفت في وجهه في أكثر من مناسبة وموقف، وقد أثار موقفها من سياساته وتصريحاته المتناقضة حفيظة رجل أعمال لم يعتد على المعاندة الصريحة، فأشهر لذلك عداءه للصحفيين وأطلق عليهم وعلى ما ينشرونه مصطلح “الأخبار الكاذبة”.

روّج “ترامب” لهذا المصطلح عبر تغريدات كثيرة، وأصبح مع الوقت شائعا بين مؤيديه؛ مما شجعه على إطلاقه ضد كل ما لا يعجبه من أخبار، وأحدث بتوصيفاته المتكررة انطباعا بين الناس بأنه هو الإعلام، أما البقية فهم أخبار كاذبة.

وقد أحدث “ترامب” بموقفه وتغريداته تلك انقلابا في مفهوم الصحافة، فبدلا من اعتبارها وسيلة لنقل أخبار السياسة والسياسيين وكل ما يجري في المجتمع أصبح هو الصحفي ووسيلة نشره تويتر.

يحيل المساهمون في الوثائقي السبب إلى تكوين ترامب الشخصي، فبالنسبة لرجل أعمال مثله فلا حاجة لصحفيين ينقلون أخباره ما دامت هناك وسيلة تواصل سهلة يملكها هو ويستطيع بكل سهولة نقل ما يريد من خلالها إلى العالم.

المتحدثون باسم البيت الأبيض إضافة إلى مستشاري ترامب أفصحوا له عن الحرج الكبير الذي يسببه سلوكه لهم

 

خروج الرئيس عن السيطرة.. إحراج الإدارة والحزب

يكشف الوثائقي الحرج الكبير الذي يسببه سلوك “ترامب” للعاملين معه وبشكل خاص المتحدثين الصحفيين باسم البيت الأبيض وبقية مستشاريه، وقد حاولوا مرارا وتكرارا ثنيه عن استخدام تويتر لكنهم فشلوا.

وبعد فشل البيض الأبيض في إقناع “ترامب” تدخل أعضاء من الحزب الجمهوري -كما يوثق الفيلم- وتوصلوا معه إلى اتفاق يفضي إلى تقليلها على الأقل، لكن ذلك لم يجد نفعا وظل يمارس وسيلة خرجت عن كل الأطر والأعراف السياسية.

استغلال وسائل الإعلام.. عودة إلى تاريخ الرؤساء الأمريكيين

يراجع الباحث “نيكولاس كوفيسوري” أكثر من 10 آلاف تغريدة من بين التغريدات التي أرسلها الرئيس خلال ثلاث سنوات من حكمه، ومن خلالها تبيّن له إمكانية معرفة ما يفكر به وماذا يخطط له مسبقا، إلى جانب كشفها لجوانب من الحياة الداخلية للبيت الأبيض، مما يعد تهديدا حقيقيا للأمن القومي، لكنها وفي الوقت نفسه تسهل أيضا فهم الطريقة التي يدير بها رجل أعمال البلد الأعظم في العالم.

يقارن الباحث بين استغلال قادة سابقين للوسائل الإعلامية التي كانت متوفرة في زمنهم لأغراض سياسية وترويجية وبينه، فقد استخدم الرئيس “روزفلت” بشكل مكثف الراديو وسيلة لمخاطبة الشعب الأمريكي، وبه استطاع إخفاء عجزه عن الحركة واستخدامه للكرسي المتحرك خلال ظرف حساس كانت تمر به البلاد.

وفي الستينيات اعتبر التلفزيون واحدا من العوامل التي ساعدت الرئيس “كندي” للفوز في الانتخابات، و كلاهما حافظ على علاقة طيبة بالصحافة وعاملها كوسيلة فاعلة لنقل ما يريد إلى العالم.

“ترامب” نشر أكثر من 10 آلاف تغريدة خلال ثلاث سنوات من حكمه، تبيّن من خلالها معرفة ما يفكر به مسبقا

 

تغريدات منع دخول المسلمين.. مصيدة فئران اليمين المتطرف

يعرف “ترامب” جيدا مخاوف مؤيديه وبشكل خاص اليمينيين المتطرفين منهم، ويعرف جيدا كيف يُغذيها بتغريدات تتناغم مع تفكيرهم، وتغريداته بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة تصب في هذا الاتجاه، وكذبك دعوته لنائبات من أصول أفريقية أمريكية للعودة إلى موطنهن الأصلي لأنهن وقفن ضده.

نسي أنهن أمريكيات ونسي أنه رئيس عليه رعاية الجميع، أما أكثر تغريداته إثارة للجدل وردود الفعل العنيفة فهي تلك المتعلقة بأحداث منطقة “تشارلوت” بعد دهس عنصري بسيارته متظاهرين سودا.

فبدلا من تهدئة الأمور وإدانة العنف العنصري ضد السود ووضع حد لقتل رجال الشرطة البيض لهم، فإنه غرد بكلمات تساوي بين الجاني والضحية، وكانت نتائجها كارثية إذ أُحرقت مدن وزادت هوة الانقسام بين مكونات المجتمع الأمريكي.

قناة “إم إس إن بي سي” الأمريكية تنشر خبرا عاجلا عن البيت الأبيض ودفاعه عن تغريدات “ترامب”

 

نادي الدول النووية.. سياسة التغريدات الباليستية

تاريخيا وعلى مستوى السياسة الخارجية يُعد “ترامب” أول من استخدم وسيلة تواصل إلكترونية خلال مفاوضات ومباحثات دولية خطيرة ومهمة، والمقصود بها هنا مباحثاته وتغريداته المتبادلة مع الرئيس الكوري الشمالي.

لم يتصور العالم أن مفاوضات تتعلق بالقنابل الذرية والصواريخ الباليستية تناقش عبر تويتر، حتى تهديداته لإيران لم ينقلها عبر وسطاء ودبلوماسيين، بل كان أكثرها يصل للقيادة الإيرانية من خلال تغريداته.

من تلك التغريدات تغريدته رقم 44259 التي حذر فيها القيادة الإيرانية بالتالي “إذا هاجمتنا إيران أو هاجمت مصالحنا فقد حددنا 52 هدفا لضربها”. كما حدث شيء مشابه بعد مقتل سليماني، والمفارقة أن الرئيس روحاني رد على تهديدات “ترامب” بأخرى عبر تويتر أيضا، ولم تسلم منها طفلة داعية لحماية البيئة، ففي التغريدة رقم 43523 هاجم الناشطة البيئية السويدية “غريتا تونبيرغ”.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استخدم تويتر كوسيلة لصعوده السياسي ووصوله إلى البيت الأبيض

 

“لولا تويتر لما كنت بينكم الآن”.. خطاب الفوز

لا يفرق تويتر الرئيس بين صغير وكبير، فالمهم عنده أنه ينقل ما يريده وما يفكر به، وهذا ما أحاطه بحثا الوثائقي الألمعي الذي يوصل مشاهده عبر ما يقدمه من نماذج وعينات واقعية إلى نتيجة مفادها:

لقد اكتشف الرئيس أنه بـ140 كلمة فقط يمكنه تجاوز كل مَنْ يقف أمام طموحه وإرادته، وأنه من حيث لا يدري قد نقل عدواه إلى بقية السياسيين، فأصبحت حالة عامة يمارس من خلالها كثير من الساسة ألاعيبهم السياسية.

ويستبعد الخبراء كثيرا أن يتخلى عن تلك السياسة أي زعيم يريد الوصول إلى البيت الأبيض بدلا من “ترامب”، خاصة وأن جملته التي خاطب بها المحتفلين بإعلان فوزه رئيسا عام 2016 قائلا: “لولا تويتر لما كنت بينكم الآن” ما زالت ترن في أسماعهم.