“نوكتورن”.. قد يدرك المعاق بالموسيقى ما لا يدرك بالعاطفة العائلية
د. أمــل الجمل
“كل ما أريده منك عندما أموت وترغب في زيارة قبري هو أن تعزف لي نوكتورن “شوبان”. هكذا تتحدث الأم الكورية عن أمنيتها الوحيدة لابنها الأكبر “سوينج هو” الشاب المراهق، وهو متعلق بها بشدة لكنه لا يعرف كيف يتصرف في غيابها.
إنه من دونها إنسان تائه متعثر ووحيد، ولا يعرف كيف يتصرف ولا ماذا يفعل، فهل ستكون تلك الأمنية الوحيدة للأم دافعا للابن لتحدي إعاقته وإجادة العزف، خصوصا تلك المقطوعات الرومانسية الحالمة التي تُوحي بالليل، وتحمل عنوان “نوكتورن” وقد اشتهر بها “شوبان” وبلغ عددها نحو 21 مقطوعة، إذ تُعتبر من أرقى المقطوعات المنفردة القصيرة على البيانو، وتمتلك مكانة هامة في الحفلات المعاصرة.
لا يكتفي الفيلم الكوري “نوكتورن” (Nocturne) بسرد تجربة تلك المرأة الكورية التي تمتلك إرادة حديدية وإيمانا عميقا بموهبة ابنها العازف الشاب رغم إصابته باضطراب التوحد.
لكن الفيلم يتناول شخصية الأم في إطار تضحياتها وخلفيات علاقتها المتباينة بابنيها، وانحيازها التلقائي لأحدهما، فالاثنان يمتلكان موهبة العزف، لكن أحدهما -وهو الأصغر “جيون جي”- يحقق مكاسب مادية كبيرة ويأتي ترتيبه الثالث في المسابقات التي يشارك فيها، فهو شخص طبيعي لا يُعاني مرض التوحد مثل أخيه الأكبر العالق في عالم ألعاب الفيديو وبرامج التلفزيون رغم أن الأم تُحاول انتشاله من عالمه وتحدي إعاقته.
يعتبر فيلم “نوكتورن” (2019) أول الأفلام الوثائقية الطويلة للمخرج الكوري “جوانجو جيونغ” بعد سلسلة من الأفلام التلفزيونية، ويبلغ طوله 94 دقيقة، وقد حصد جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان موسكو السينمائي الدولي الـ42.
“جيونج” الصغير.. حفر في الأغوار النفسية السحيقة
يحفر المخرج بأسئلته التي لا نسمعها عميقا في الأغوار السحيقة لنفسية الابن الأصغر، ويستنطق مشاعره الدفينة إزاء أمه وأخيه وكيف يراهما، وكيف أثر انشغال الأم واهتمامها بالطفل المعاق على شخصية الطفل السليم، فهذا التمييز ترك آثارا غائرة ربما لم تنتبه إليها الأم.
صحيح أن الشاب “جيونج” لا يكره أخاه الأكبر المُعاق ولا يُريد أن يؤذيه، لكنه يعترف أنه ينزعج منه ومن تصرفاته وضوضائه وسذاجته، مثلما يُصرح بأنه لا يراه موهوبا ولا يُؤمن به.
كما يُؤكد أنه لا يُريد أن يتولى رعايته إذا توفيت الأم، بل يصف أمه بأنها تُغامر بشأن موهبة أخيه، معتبرا الأم شخصية متهورة أنفقت مالها وجهدها ووقتها هباء، إذ يتهمها بأنها أخطأت في تصرفاتها، خصوصا منذ أن قررت ترك والدهما والانفصال عنه.
وعود ما بعد الموت.. رفض ممزوج بالسخرية
لقد ضحت الأم بحياتها وسعادتها وأسرتها من أجل “سيونج هو” فقط، ويُفصح الابن “جيونج” عن المزيد، وأساسا عن الجرح الغائر في أعماقه، فهو لم ينس لأمه أنها كانت تريد أن تتخلص منه بأن ترسله ليعيش مع الأب حتى تتفرغ لتربية الأخ المعاق “سوينج هو”.
لكن الأب أيضا تخلى عنه ورفض رعايته، فاضطرت الأم إلى أن تُبقيه ليعيش معها، ومع ذلك ظلت تمنح كل اهتمامها للابن الأكبر، لأنه في رأيها الأحق بالاهتمام والرعاية، مثلما حاولت أن تضغط على ابنها “جيونج” كي يمنحها وعدا بأنه سيرعى أخاه “سيونج” بعد موتها ويتكفل به.
رغم كل ضغوطات الأم على “جيونج” فإنه رفض أن يمنحها هذا الوعد في إصرار ممزوج ببعض السخرية، مؤكدا أنه يُريد أن يعيش حياته ويستمتع بمراحله العمرية، وأن يعيش حياته الغرامية، فربما يتزوج وينجب قائلا إنه سيرى أخاه بين حين وآخر، لكنه لن يسمح له بأن يعيش معه أو في كنفه.
حياة المرأة في الظل.. ألوان التضحية والإيمان العميق
عندما نتأمل النهاية التي وصل إليها الشابان نتساءل عن هوية وكينونة وقوة هذه المرأة التي انفصلت عن زوجها، وقررت تكريس حياتها لابنها الأكبر “سيونج هو”، فأصرت على أن تصنع منه نجما مشهورا مهما أخذ ذلك من حياتها، ومهما تطلب من جهود لتهيئته ليصبح موسيقيا محترفا بعد أن قبلت راضية أن تقبع بحياتها في الظل، وأن تضحي بكل شيء.
وقد ظلت هذه المرأة القوة الدافعة لابنها، فلم يكن يشغلها سوى نجاحه، فهل تلك النتيجة المبهرة والانقلاب الدرامي قرب النهاية كان محصلة الإيمان العميق الذي يصنع المعجزات ويحقق المستحيل، أم أن هذه المرأة كانت ترى ما لا يراه الآخرون؟
“أنتِ تبالغين”.. رحلة الكاميرا بين الحاضر والماضي
يبدأ فيلم “نوكتورن” من الحاضر من نقطة نجاح قوية في عام 2017، حيث يُقام حفل موسيقي كبير في روسيا للشاب “سيونج هو”، ثم يعود المخرج “فلاش باك” لعام 2008؛ للحياة اليومية لهذه الأسرة بكل مشاكلها وأحلامها وآمالها والاضطرابات بين أفرادها، ومحاولات الأم الدؤوبة لإلحاق أبنائها بالفصول الموسيقية للدراسة، والاختبارات التي كانا يخوضانها والنجاحات والإخفاقات، ومساعي الأم لترويض ابنها الأكبر وإدخاله في حلقة نظام دائرية تجعله مثابرا على هدفه، إضافة إلى محاولاتها غرس شعور بالمسؤولية عند الأصغر تجاه أخيه ذي الاحتياج الخاص من دون أن تمل من تكرار المحاولة.
نتابع الخلافات عبر كاميرا المخرج بين الأم وبين ابنها الأصغر بكل صلفه وغروره، خصوصا عندما يتفوق في العزف، فنعايش معهم عن قرب الشجار المحتدم، خصوصا عندما تنهره بقوة بعد أن رفض الإجابة على أحد أسئلة أخيه لدرجة تجعلنا نتساءل: هل ما يحدث أمام الكاميرا هو الحقيقي أم أن هناك قدر من التمثيل أو المغالاة؟ خاصة عندما يُلمح الابن لذلك قائلا: أنت تبالغين وتتصرفين بشكل ميلودرامي أمام الكاميرا.
رحلات أوروبا.. لحظات نجاح وانكسار على مدى 9 سنوات
يواصل المخرج متابعة هذه الأسرة وتطورات وضعها على مدار تسع سنوات، مع إشارات لبعض الشخصيات التي هاجرت إلى أمريكا أو الصين من عائلاتهم للمقارنة السريعة، ثم يعود لمشاركة الأخوين في عدد من المسابقات والحفلات حيث يحققان نجاحا متدرجا، لكن النقلة الزمنية القوية ستكون واضحة بين عامي 2008 و2015.
فقد بدأ الابن “سيونج” يُحرز تقدما لافتا بعد أن تلقى دروسا خاصة مكثفة وتدريبا قاسيا من معلميه، ورغم النجاح الملموس والأوضح للابن الأصغر الطبيعي، فإن غروره لا يحميه من واقعة اعتداء جسيمة عليه، فيدخل المستشفى ويجري جراحة، فنعايش معه لحظات الانكسار، لكنها أيضا تشمل لحظات من عدم الاحتمال والغضب والاحتياج إلى الصمت، كما تشمل ظهورا جديدا للأم التي لا تتخلى عن ابنها.
تستمر الحياة وتتوالى الرحلات التي يقوم بها الشابان إلى أوروبا وعلى الأخص إيطاليا، وهنا يبدأ مسار التحول ويبدأ الابن الأصغر في تقبل فكرة مقامرة الأم، ويعترف بأنها إذا كانت تؤمن بموهبة أخيه إلى هذا الحد فإنه سوف يُقامر هو أيضا مثلها.
حوار ثنائي بديع في الحفل الروسي.. معجزات الموسيقى
تبدو النقطة المفصلية في التحول عندما يوافق “جيونج” على أن يصطحب أخاه إلى روسيا للمشاركة في حفل موسيقي كبير عام 2017، وقد سافر الأخوان من دون الأم، وهي المرة الأولى التي يجد فيها “سيونج” نفسه من دون أمه، وكان يشعر بالقلق والتوتر ويفتقدها، لكننا نشعر بأنها كانت تجربة ضرورية للشقيقين، فـ”جيونج” أصبح عليه أن يساعد أخاه، لكنه بمهارة وذكاء كان يساعده بشكل يمنحه مزيدا من الاستقلالية والاعتماد على النفس، لأنه كان متحررا من الخوف الزائد الذي اتسمت به شخصية الأم.
نعود في روسيا إلى ذات الحفل الذي افتتح به المخرج فيلمه، لكن عند العودة من الفلاش باك -قرب نهاية الفيلم – يتضح أن الحفل كان مقسما إلى جزأين؛ الأول لعزف “سيونج” على البيانو مع فريق الأوركسترا، وعندما ينتهي ويعزف منفردا يصفق له الجمهور بحماس طويل ويطالبه بعزف المزيد منفردا، ثم في الجزء الثاني يدخل إلى خشبة المسرح الأخ الأصغر “جيونج” ليعزف على البيانو، بينما يعزف معه الأخ الأكبر على آلة الكلارينت، ليصنعا سويا حوارا ثنائيا موسيقيا بديعا.
منذ هذه اللحظة فقط بدأ الأخ المتمرد “جيونج” يعبر عن سعادته ويعترف بموهبة أخيه، ليتصالح مع نفسه ومع أخيه في ذات الوقت، معترفا للمرة الأولى بأنه من خلال العزف المشترك كان يشعر بأنه قادر على إقامة حوار مع أخيه المصاب باضطراب التوحد، مؤكدا أن الموسيقى قادرة على تجسير وردم الفجوات ومعالجة تصدع العلاقات.
إن الموسيقى تُعيد للكون والبشر الانسجام في العلاقات، لذلك لم يكن من الغريب أبدا أن يحصد الفيلم جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان موسكو السينمائي الدولي الـ42 وذلك رغم قوة الأفلام الأخرى المنافسة على ذات الجائزة.