“من القتل إلى الرحمة”.. قصة القاتلة التي أصبحت محامية
عدنان حسين أحمد
حين خرجت الصبية الأمريكية “سينتويا براون” من منزلها في تمام الساعة السابعة مساء يوم السادس من أغسطس/آب 2004 لم تكن تعرف أنها ستذهب إلى سجن القاصرين لتقضي فيه عقوبة الحبس المؤبد.
هذا هو العمود الفقري لقصة الفيلم الوثائقي “من القتل إلى الرحمة” (Murder to Mercy) للمخرج “دانييل بيرمان”، وعلى الرغم من قساوة العقوبة التي يفرضها القانون الأمريكي على المتهمين بجرائم القتل مع سبق الإصرار والترصد، فإنه يتيح للمحامين الموكلين من قِبل أصحاب هذه القضايا أن يبحثوا في كل الحيثيات والثغرات القانونية المتاحة لتحرر هذا المتهم أو ذاك من سجنه الأبدي، وإعادته إلى الحياة الاجتماعية بعد تأهيله من جديد بعد أن تقتل شكها باليقين بأنه لم يعد يشكل خطرا على السلم المجتمعي.
لا يُعنى هذا الفيلم الوثائقي بالشخصية المركزية “سينتويا براون” كقاتلة أُثبت أنها أطلقت النار على رأس الضحية “جوني ألين”، بينما كانت أصابع يديه متشابكتين، وأنه لم يكن يشكل خطرا جديا عليها بل كان مستغرقا في نومه العميق.
يمضي الفيلم أبعد من ذلك حينما يبحث في التاريخ الأسري لهذه الفتاة اليافعة التي لم تجاوز عامها السادس عشر بعد، وسوف نتعرف من خلال ومضات سريعة على حياة الأم البيولوجية “جورجينا ميتشل” والجدة “جوان وارين”، كما نلتقي بالأم المُتبنية “إليانيت براون” التي احتضنت “سينتويا” ورعتها 14 عاما.
ولعل هذه المشاهد الاسترجاعية تكشف لنا عن طبيعة المجتمع الأمريكي الذي يغرق في الكحول، والبغاء واستعباد الجسد والمخدرات والجريمة، لكنه لا يخلو بالمقابل من نقاط مضيئة وهاجة يمثلها القُضاة والمحامون والأطباء النفسيون وأساتذة الجامعات، وبعض الإعلاميين الذين يسعون وراء الحقائق والأخبار الجادة التي تساهم في تماسك الأسرة وتعزيز البنية المجتمعية للمجتمع الأمريكي.
ويبقى السؤال الأهم في هذا الفيلم هو هل ستنجو “سينتويا” من سجنها المؤبد الذي قد يمتد لـ51 عاما، أم يُخلى سبيلها وترى النور بعد أن أمضت فيه 15 عاما كاملا؟
متلازمة الجنين الكحولي.. جريمة الأم العابرة إلى ابنتها
لو عُدنا إلى طفولة “سينتويا” لوجدنا أن الأم “جورجينا ميتشل” لم تستطع أن تتحمل ابنتها الصغيرة أكثر من عامين لأنها مُدمنة على الكحول والمخدرات، ولم نرَ طوال الفيلم أي أثر للأب، وهذا يعني أن “سينتويا” قد جاءت إثر لقاء عابر -كما سنفهم لاحقا- فهي محرومة من حنان الأبوين ورعايتهما.
ومن خلال بوح الأم سنكتشف أنها كانت تتناول الكحول والكوكايين أثناء الحمل، وقد سببت للجنين مشكلة صحية تسمى “متلازمة الجنين الكحولي” التي سنتعرف عليها في النصف الثاني من قصة الفيلم، ونقف على دورها في حسم قضية “سينتويا”.
كما مارست الأم البغاء وتعرضت للاغتصاب، وأطلقت النار على نفسها، ودخلت السجن لمرات عديدة، وهذا هو دأب الجدة “جوان وارين” التي انتحرت هي الأخرى، وكانت ضحية المجتمع الذي لا ينصف الجميع، خاصة المدمنين منهم الذين أورثوا أمراضهم العقلية والنفسية لأولادهم وأحفادهم وتركوهم يتخبطون في الهوة الفاصلة بين الحياة والموت.
مساء السادس من أغسطس.. جريمة قتل في مكان منعزل
لكي نُعيد ترتيب الوقائع والأحداث بحسب تسلسلها التاريخي لا بد من العودة إلى نقطة الشروع مساء يوم 6 من أغسطس/آب 2004 حين كانت “سينتويا” على موعد مع رفيقها “غاريون” المُلقب بـ”كات ثروت” الذي تتعاطى معه المخدرات أو تمارس الجنس، وحين ينتابها الضجر كانت تغادر الفندق الذي تقيم فيه مع “غاريون” لتجني بعض المال من المتاجرة بالجسد في منطقة “إيست ناشفيل”.
وبينما هي في طريقها إلى مطعم “سونيك” سألها “جوني ألين” إن كانت بحاجة لتوصيلة إلى مكان ما فوافقت من فورها وذهبت معه إلى منزله، وأخذ يسرد لها تاريخ حياته، وسنعرف بأنه وكيل عقاري وعسكري سابق في الجيش وشخص مهم في المجتمع كما يصف نفسه، ويعرف الكثير من النساء اللواتي ينجذبن إليه، لكنه يفضل المرأة التي تبتغيه وتتماهى معه أثناء الوصال.
ما إن رأت “سينتويا” البندقيتين والمسدس الكروم ذا المقبض الأسود حتى شعرت بالتوتر والانفعال، لأنها في مكان منعزل يختلف عن غرف الفنادق التي كانت ترتادها كلما دفعتها الحاجة المادية، لذلك طلبت منه النزول إلى الطابق السفلي بحجة مشاهدة التلفاز في غرفة الجلوس، ولكنها في واقع الحال كانت تريد أن تكون قريبة من الباب الرئيس.
تذرعت بأنها مُتعبة وتريد أن تغفو لبعض الوقت، لأنها لم تنم بما فيه الكفاية في اليوم السابق. أخذ يداعبها أكثر من مرة، لكنها لم تستجب فحدجها بنظرة بغيضة أصابتها بالقشعريرة وشعرت بأنه يتهيأ لضربها، خصوصا بعد أن انقلب بجسده على حافة السرير، فسحبت المسدس من حقيبتها وأطلقت النار عليه بينما كان “جوني ألين” يغط في النوم لأنها كانت تعتقد بأنه سيطلق النار عليها.
ولاية تينيسي المتشددة.. استغلال رقة القوانين الجديدة
لا بد من الإشارة إلى أن ولاية تينيسي الأمريكية هي من الولايات المتشددة في عموم البلاد المؤلفة من 50 ولاية، وأن جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد يُحاكم عليها القاتل بالسجن المؤبد، إلا إذا ظهرت أدلة قانونية جديدة تخفف هذا الحكم، مثل الاضطرابات العقلية والنفسية التي تؤكدها تقارير الأطباء والمختصين الذين لهم القول الفصل في هذا المضمار.
غير أن الآراء اختلفت والمواقف انقسمت بشأن “سينتويا”، فمنهم من يراها مجرمة يجب أن تنال أقسى العقوبات، ومنهم من يراها بريئة لأنها تعاني من خلل عقلي سببته متلازمة الجنين الكحولي. كما أن القوانين تتبدل بين آونة وأخرى في ولاية تينيسي، ولم يعد بالإمكان توجيه التُهم والأحكام للقاصرات كمومسات ابتداء من عام 2017، لذا فإن صبية مثل “سينتويا براون” ستُعد شخصا مُستعبدا جنسيا.
وعلى إثر هذا التبدل الجذري نشر المخرج “دان بيرمان” مقطع فيديو كان قد وثقه منذ سبعة أعوام لقضية “سينتويا” يقول فيه: “أريد لها فرصة ثانية”، وبعد مدة قصيرة انتشر الخبر في مواقع التواصل الاجتماعي تحت صيغة “أفرجوا عن سينتويا براون” الذي نشرته نجمة أغاني البوب “ريانا” عبر تطبيق انستغرام، ثم تبعها الآخرون مطالبين بمنحها العفو لأنها مراهقة صغيرة تعرضت للاتجار الجنسي وهي تقضي حُكما بالسجن المؤبد.
وقد قوبلت هذه التغريدة باهتمام كبير من شأنه أن يوفر طريقا لمراعاة الأطفال عبر العالم وليس في ولاية تينيسي أو أمريكا فقط، وبما أن حاكم الولاية يقضي سنته الأخيرة في منصبه فمن الأفضل استثمار هذه الفرصة كي يضيف موقفا آخر لسجله ويستمع إلى قضيتها في أقل تقدير، ولعلها تتشرف بنيل العفو منه، خاصة وأن “راندي لاوري” رئيس جامعة ليبسكومب قدم رسالة مؤازرة لها مع عدد من رسائل وجهاء المجتمع يقولون فيها إن “سينتويا” هي الشخصية الأنسب التي تستحق أن تنال العفو.
نيل الشهادات الجامعية.. صناعة الفرق على الأرض
من حسنات السجون الأمريكية للأحداث والبالغين أنها تتيح للنزلاء مواصلة الدراسة في مختلف مراحلها، وقد ذكر الدكتور “بيرنيت” -الذي تابع فحوصات “سينتويا” خلال الثلاث عشرة سنة الماضية- أنها نضجت كثيرا من الناحيتين الفكرية والاجتماعية، وأنها تعلمت الكثير وصار لديها فهم أوسع للحياة والمجتمع.
فقد حصلت على درجة البكالوريوس في الدراسات المهنية، كما درست في الجامعة أمورا أخرى مثيرة للاهتمام من بينها “الاتجار الجنسي” وهي ذات المشكلة التي كانت تعاني منها طوال فترة مراهقتها.
وأثناء سنوات السجن التي امتدت لخمس عشرة سنة كان عدد من المحامين يتبرعون بالمجان للدفاع عن قضيتها، ويعقدون جلسات استماع خاصة لإطلاق سراحها، وهم يدركون جيدا أن حاكم الولاية يتمتع بالحق الدستوري في تخفيف العقوبة بعد أن أيقنوا تماما بأن “سينتويا” قد أُعيد تأهيلها ويمكن أن تعود إلى المجتمع الأمريكي كشخصية مثقفة وبناءة ومفيدة، وكل ما يطلبونه من المحكمة هو تخفيف حكمها إلى القتل العمد من دون سبق الإصرار.
وقد وافق حاكم الولاية على استعمال سلطاته في إصدار مراسيم العفو بشكل محدود على أن تؤخذ بعين الاعتبار تقارير الأطباء وفحوصاتهم التي تؤثر كثيرا في مسائل العفو والتبرئة وتخفيف الأحكام.
“أُصلي كي تفتحوا أمامي أبواب الرحمة”.. بوح في لحظة ندم
على الرغم من كثرة الآراء التي وردت في هذا الفيلم وأهميتها بصدد إعادة هذه المواطنة إلى المجتمع الأمريكي، فإن الشيء الأكثر أهمية هو إتاحة الفرصة لـ”سينتويا” كي تبوح بكل ما يعتمل في ذهنها من أفكار وفي قلبها من مشاعر.
في إحدى جلسات الاستماع التي وفرتها الجهود الجماعية للقضاة والمحامين وبقية المسؤولين في الولاية قالت “سينتويا”: أردت فقط أن أشكركم أولا، وقد صليت لفترة طويلة لكي أتمكن من مقابلتكم، وأنا أعرف أن مجرد منحي جلسة استماع بدافع الرحمة يعني الكثير، لأن ما فعلته كان فظيعا، لقد قتلت “جوني ألين”، وقد رحل وبقي ذلك عبئا أحمله على كاهلي طوال الوقت.
ثم أردفت: حين سُجنت كنت في السادسة عشرة من عمري وبدا الأمر منتهيا، فليس لدي أي خيار سوى أن أعيش حياة مختلفة. لقد مُنحت هذه الفرصة الذهبية رغم أنني لا يمكنني التكفير عما اقترفته يداي، فمهما كان قراركم فسأحترمه وأصلي كي تفتحوا أمامي أبواب الرحمة وتمنحوني فرصة ثانية.
“كاثرين إيفانز سينباك”.. كفاح المحامية الصديقة
تابعت المحامية “كاثرين إيفانز سينباك” قضية “سينتويا” لمدة 14 سنة، وتعرفت عليها عن كثب، وصارت تخاطبها بصفة الصديقة وترى فيها امرأة لامعة، وقد سعت بكل جهدها لإظهار هوية الضحية التي مرت بظروف قاهرة وخارجة عن إرادتها دفعتها لارتكاب جريمة مروعة لم تكن هي المسؤولة الأولى والأخيرة فيها.
لذلك فقد طالبت بإخلاء سبيلها ومنحها فرصة جديدة في الحياة بعد أن طورت نفسها من ضحية ومستعبدة جنسيا إلى امرأة عميقة ومثقفة تدافع عن حقوق المرأة وتتصدى بقوة لعملية الاتجار بالجسد في عموم الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تعرضت السيدة “سينباك” إلى مضايقات وأسئلة محرجة من قبيل لم تحاربين من أجل شخص مذنب، ماذا لو خرجت وكررت فعلتها مُجددا؟ متناسين أن مؤسسة سجن الأحداث والجامعة والأطباء بمختلف اختصاصاتهم قد غيروا هذه الإنسانة تغييرا جذريا إلى الحد الذي أوصلها لأن تختص بالمشكلة التي عانت منها، وصارت تدافع عن حقوق المرأة، وتكرس حياتها من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل.
ولكي يكون الفيلم متوازنا في المواقف والآراء فقد منح المخرج “بيرمان” الفرصة لأهل الضحية وأصدقائه، فصديقته المقربة “آنا ويلي” قالت إنها تمثل صوت العائلة الذي لم يسمع طوال السنوات المنصرمة، وأضافت بأن “سينتويا” قد تسببت بأذى هائل، وأن “جوني” لم يكن يستحق أن يموت، فقد كانت لحياته قيمة، وكان محبوبا ويفتقده الكثيرون، وهذه قصة محزنة جدا.
“ستخرجين في أغسطس”.. لفتة كريمة من حاكم الولاية
أشرنا سلفا بأن هذه القضية سببت انقسامات في الرأي العام القضائي، فبعضهم طالب بتخفيف الحكم إلى القتل العمد من دون سبق الإصرار والترصد، والبعض الآخر طالب بإطلاق سراح مشروط إلى أغسطس من عام 2029، أي بعد أن تقضي 25 عاما في السجن، بينما طالب طرف ثالث برفض طلبها، غير أن هذه الآراء الثلاثة لا يبت بها إلا حاكم الولاية “بيل هاسلام” الذي اتخذ قراره لكنه لم يُعلنه على الملأ بعد.
على الرغم من درامية القصة السينمائية فإنها تنطوي على عنصر التشويق أيضا، لأن حاكم الولاية قد أخبر محاميه الخاص “دوايت تارووتر” بالأمر، لكن المحامي طلب من هيئة الدفاع عن “سينتويا” عدم تمرير هذا الخبر لأحد، ثم أضاف: “بأن الحاكم سيخفف عقوبتها إلى السجن لمدة 15 عاما، وسوف تنتهي هذه السنوات في أغسطس، وستنخرط في مجموعة انتقالية طوال الأشهر السبعة المقبلة، وستكون تحت المراقبة طوال عشر سنوات”.
لم يستطع المحامي “تشارلز” أن يتكتم على هذا الخبر المفرح فهمس في أذنها قائلا “ستخرجين في أغسطس”، فراحت ترقص جذلى من الفرح والنشوة والسعادة، وحيّت كل الحاضرين قائلة: أحييكم جميعا فقد قلت في نفسي حين أعود إلى الله فسوف يحررني من محنتي.
“أفرجوا عن سينتويا”.. مذكرات أيام السجن
يبدو أن الاعترافات المتواصلة قد حررت “سينتويا” من ثقل الجريمة الذي كانت تنوء به طوال تلك السنوات الخمس عشرة، وقد وعدت الجميع قضاة ومحامين وإعلاميين وأصدقاء بأنها لن تخذلهم بعد الآن.
جدير بالذكر أن “سينتويا براون” قد حصلت على شهادتين من جامعة ليبسكومب، واعترف الأساتذة بأنها نضجت وتطورت كثيرا، حتى أنها ألّفت كتاب مذكراتها التي هي بعنوان “أفرجوا عن سينتويا” خلال فترة سجنها.
وفي المَشهد الأخير رأيناها وهي تغادر السجن كامرأة حرة، ثم بدأت تعمل كمحامية عن ضحايا الاتجار بالبشر وإصلاح العدالة الاجتماعية، كما لا تفوتنا الإشارة إلى أن اللقطة الأخيرة التي ظهرت فيها “سينتويا براون” كانت في منتهى الأناقة والرِقة والجمال، وكأنها خلعت ثوب المشاكل والمعضلات السابقة، وارتدت ثوب الحلم الوردي الذي يتناغم مع ملامح امرأة جميلة متفتحة تريد أن تحتضن الدنيا بذراعيها.