“نجد”.. قصة حب تثأر للسينما السعودية من المتشددين

أحمد القاسمي
مَن مِن متابعي السينما لا يذكر رائعة “المريض الإنجليزي” (The English Patient) للمخرج “أنتوني منغيلا” الفائز بأغلب جوائز الأوسكار لسنة 1996؟ فمدار الفيلم على ذلك العاشق المريض الذي تعتني به الممرضة الكندية “هانا” (الممثلة “جولييت بينوش”) أواخر الحرب العالمية الثانية في دير إيطالي.
فقد كان هذا المريض (الممثل “رالف فاينس”) يستعيد الذاكرة شيئا فشيئا فتلمع في ذاكرته قصة الحب التي جمعت بينه وبين “كاثرين كليفتون” زوجة “جيوفري كليفتون” زميله في الجمعية الملكية الجغرافية حينما كانا يعملان معا في الصحراء.
“نجد” هي حكاية عشق مستحيل أخرى تُروى على فراش المرض، وقد كتب لها السيناريو خالد الراجح وأخرجها سمير عارف 2020، فيومض الحنين في ذاكرة السيدة نجد العجوز التي ترقد في مصحة بالكويت ويجعلها مبعثا للقص والإيهام والتشويق، فتعود إلى قصة حب عنيفة جمعتها بخالد” حالت دونها التقاليد الاجتماعية.

صدام الحب والمال.. ميلودراما بلسان عربي ونكهة بوليودية
تمثل الميلودراما نهجا في القص التمثيلي مسرحا أو سينما أو تلفزيونا، وأساسها المفارقات الحادة والمبالغات الكثيرة والشجن العميق الذي يعمل على استدراج المتفرج للتعاطف مع الشخصية ويدفعه لتبني قضيتها، وفيلم “نجد” لا يخلو من هذه النزعة التي تمنحه مذاقا بنكهة السينما البوليودية.
فمدار القصة على الصدام العنيف بين العاطفة الصادقة ونفوذ المال، فسليمان الخياط الفقير يجبر ابنته نجد على الزواج من صالح الثري مقابل أن يتخلّى عن الأموال التي يدين له بها، متجاهلا وعده لخالد الشاب عاشق نجد الذي يلتحق بالعسكرية استجابة لرغبة صهره المنتظر.
تُرغَم نجد على الزواج بالشيخ ولكن القلب يظل ينبض لخالد، وأين الحرج أو الخيانة والقلوب لا تنبض بإرادتنا بل ينبض المحب عشقا بإرادتها؟ ولحمل المتفرج على التسليم بعدالة قضية نجد يلجأ المخرج إلى المبالغات في عرض محنة العاشقين، فعبر مونتاج تناوبي يصور احتفال أهل الحي بهذا الزواج السعيد فينخرط الجميع في الغناء والرقص والمرح في الخارج، بينما تتضور نجد ألما وغيظا في الداخل.
“هنا عليك أن تحزن”.. لقاء الصدفة
تستسلم نجد للبكاء المُرّ ويلتقيها خالد بعد زواجها في طريقه صدفة وهو يقود السيارة العسكرية فيتوقف مذهولا، وحينما تقترب منه ينطلق ليظل يراقبها عبر المرآة العاكسة متظاهرا بعدم المبالاة باكيا في حقيقة الأمر معذبا كما تعذب هي، وتظل الكاميرا في المشهدين تعرض اللقطات بالتداول لتجبر المتفرج على الانتباه إلى محنة حبيبين تتواطأ الظروف ضدهما، فتجعل الصورة بطيئة حينا وتعود إلى صور متخيلة حينا آخر، وتورد الأغنية الشجية التي كان يغنيها خالد لحبيبته عند مدخل باب منزلها، وتنفق في لقاء الصدفة أكثر من دقيقتين حتى يكاد يتحول العرض إلى كليب غنائي.
ولتكفل تعاطف المتفرج مع العشيقين توظف موسيقى تعبيرية تهمس في أذنيه: “هنا عليك أن تحزن.. أما هنا فلتستمتع بهذا اللقاء الرومانسي الجميل”، ويبالغ الممثلون في التشخيص والمعايشة وفي التعبير عبر الملمح عن العور الداخلي حبا أو تعاطفا أو بغضا.

مآل الأخيار والأشرار.. صناعة الحبكة الفيلمية
تضمن الحبكة سلسلة من التقلبات المثيرة، فتأخذنا فجأة من صورة خالد العاشق النبيل -الذي يعود من التجنيد إلى خطيبته بالهدايا الكثيرة ليعلم أنها زُوجت إلى غيره- إلى صورة المجرم الملاحق من قبل قوات الشرطة، وذلك بعد إصابته لصالح زوج نجد إصابة قاتلة لما وجده يضربها ضربا مبرحا في الشارع، فتسعفه القصة في آخر الفيلم فتبرئه وتنسب القتل إلى اللصوص الذين ظلوا يلاحقونه لقتل أحدهم في إطار خدمته، فتتلاحق الأحداث المثيرة وتحكمها الصدفة.
وككل ميلودراما تصنف الشخصيات إلى خيّرة كخالد الرجل النزيه والطموح المحب الحالم الذي يضحي بعمله في السوق لأجل عيون نجد، أو كنجد نفسها الحسناء الطاهرة التي تضحي بسعادتها لتنقذ والدها، وأخرى شريرة وحاقدة كالشيخ صالح التاجر الجشع الذي يرغم سليمان على تزويجه ابنته بنفوذه المالي، والصراع بينهما هو صراع بين الخير والشر.
ولئن كانت المؤشرات بنهاية حزينة للمحبين على خلاف نهايات الميلودراما بمقتل خالد وهجرة نجد إلى الكويت؛ فإن السيناريو يقلب الوضعيات بعصا الساحر، فجعل خالد يموت فداء لنجد، وأسعف نجد بثروة من حيث لم تحتسب، فتعوّض لها الدولة بسخاء عن المنزل الذي سيهدم لتبنى على أنقاضه مدينة الرياض الجديدة فترد على سخاء خالد وسخاء الدولة بسخاء أفضل وتتبرع بهذه التعويضات للجمعيات الخيرية.

عشق في فضاء آسر.. رحلة في الذاكرة 70 عاما
تعود الذاكرة بنجد القهقرى 70 سنة تقريبا، فتأخذ في سرد قصة عشق ممنوع جمعتها بخالد، فتقدم لنا مرحلة العرض فضاء الأحداث البسيط ببناءاته الطوبية وفوانيسه الزيتية وآثاره التقليدية وبواحته، حيث تشارك النساء في الأعمال الفلاحية.
كما تعرفنا ببطلي الفيلم خالد الذي يعمل دلّالا في السوق ونجد التي تساعد والدها في أعمال الخياطة، فتفيض حنينا إلى نمط الحياة البسيطة التي كان السعوديون يعيشونها، وإلى نقاء لن يعكر صفوه إلا شرط سليمان لتزويج خالد من الفتاة.
مثلت استجابة خالد لهذا الطلب الانقلاب الكبير والحدث القادح والمنعرج الذي سيغير أحداث الفيلم ويأخذنا إلى مرحلة الصراع العنيف، فلا يخلو من الحركة والإثارة والتشويق على واجهات عدة رغم هذه البداية البطيئة، فمنه نشأت سلسلة من الأحداث غير المرتقبة.
فقد ساهم التحاق خالد بالعسكرية إلى سرقة الحبيبة منه، لكن إساءة صالح لنجد وضربها الضرب المبرح جعلاه يهب لنجدتها، وفي تلك الأثناء كان مطاردا من قبل لصوص يتعقبون أثره طلبا للثأر لقتله أحدهم أثناء عمله بالعسكرية، ويتفاعل الحدثان على نحو لا يتوقعه إلا كاتب السيناريو فإذا بخالد تحول إلى قاتل فار من العدالة.
لقطات حصرية من فيلم #نجد، بطولة #حياة_الفهد.
🇰🇼❤️💚🇸🇦#صباح_السعودية_والكويت#السعودية_الكويت_قلب_واحد pic.twitter.com/OdMjATlIvn— صباح السعودية🇸🇦 (@SabahAlsaudiah) February 25, 2018
رائحة الفيلم البدوية.. حنين مبثوث في ثنايا القص
يمثل القص البدوي جوا معينا لخلق الإثارة والتشويق، فظهور لصوص قطعان الماشية يمنح الفيلم الفرصة لعرض المطاردات على ظهور الخيول ونصب الكمائن ومهارة التصوير، ويبث في ثنايا القص حنينا إلى الماضي البدوي الموسوم بجمال نسائه الساحر وشدتهن في آن واحد، والمحتفي بالحياة البسيطة المتحررة من كل إكراهات المدنية بين رعي للأغنام وسكن في الخيام، حيث الرقص والغناء والولائم وحيث الأمن للمستجير.
فوفاءً للقيم الأصيلة يحمي الشيخ فيحان بطل خالد وقد غدا مطاردا من قبل الشرطة، مما يوحي بتأثر بالدراما السورية ويستدعي صورها النمطية، ثم تصل القوات الحكومية إلى مضارب الشيخ وتلقي عليه القبض، وهي ضربة أخرى من عصا الساحر تحقق المعادلة التي تعلي من شأن القيم البدوية وتبسط سلطان الدولة المدنية.
كانت الحكاية في الآن نفسه تتقدم على مسار مواز لحكاية الماضي، فالمحامي يحاول إثناء نجد عن مضمون وصيتها وتعمل ابنتها على إقناعها بعدم تبديد الثروة التي نزلت من السماء بغتة، فتتسارع الأحداث على المسارين لخلق الإثارة والتشويق في أسلوب سرد متين أحيانا ومفتعل العقد أحيانا أخرى، فتُصطنع الملاحقات المثيرة وتُقحم حياة البداوة على القصة إقحاما، ولكن المونتاج يحسن توظيف تقنية الفلاش باك، فيشد المتفرج إلى مآل الوصية وطبيعة مضمونها بقدر ما يشده إلى مآل خالد.
من كل زوجين اثنين.. إمساك العصا من الوسط إرضاء للمتفرج
لقد جاءت المعالجة الجمالية “وفاقية مُشَكلة” -وفق عبارة المخرج- تجمع بين الميلودراما والحركة وقصص البادية وتحرص على إرضاء المتفرج البسيط والاستجابة لكل تطلعاته، فلا تتجرأ على صدمه بتقديم ما يستفز قناعاته، وتجعل خطابها وجدانيا عاطفيا لا تأمليا فكريا حتى لا يُشكل عليه.
فـتجمع المعالجة من كل زوجين اثنين جمعا يفتقد للهوية الخاصة والرؤية المميزة، وينتصر لسينما الترفيه والتسلية التي تراهن على التجارة والربح، ولا تغامر بالتطرق إلى المواضيع الصعبة كما تفعل سينما المؤلف أو السينما التجريبية، ويفوت الفيلم على نفسه الفرصة ليكون قاطرة تجر السينما السعودية إلى آفاق إبداعية، خاصة أن صناعه يقدمونه باعتباره الفيلم السعودي الأول الذي يعرض تجاريا.

صدام المشارب المتضادة.. قضايا تؤرق المجتمع السعودي
يتجه الفيلم إلى وضع الإصبع على القضايا الحارقة ذات البعد الحضاري والقيمي التي تؤرق المجتمع السعودي اليوم، فتتعدد بين سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي وديني وتتحول إلى روافد تصب في الحوض صداما بين تيارين في المملكة العربية السعودية. أما أولهما فهو التيار المحافظ المتحالف تاريخيا مع التيار الديني المتشدد والمتكئ على وقع مواقف شيوخ الفتوى وتأثيرهم على مختلف مظاهر الحياة وتبنيهم لرؤية منغلقة مجافية لروح العصر، ولعل معلم الكتاتيب سويلم -الذي يمنع المعلم المصري من تعليم النشء أولا، ويمنع المارة من إغاثة نجد لما كان زوجها يعنفها بحجة أن ما أتته يستوجب الضرب- يمثل عينة تختزل هذا التيار بأسره، ومن ثمة كان الضابط يصفه بالعقل المتحجر الذي يشد إلى الجاهلية وكان الفيلم يُحمّله ضمنا ما تعيشه المرأة السعودية من تردٍّ على المستوى الحقوقي.
وأما الثاني فهو التيار المنفتح الذي يعد السعوديين بتطوير بنى المجتمع وأخذهم إلى عالم الحداثة والتقدم وإلى النهضة الاقتصادية ومد الطرقات والسكك الحديدية والانفتاح على التعاون الدولي، ولعل صورة المرأة المنشودة التي يدعو إليها الفيلم تختزل أهم قيمه، فهي تظهر سافرة شأن نجد أو الطبيبة الكويتية أو عامة الصبايا، وتظهر وهي تغني في المناسبات وترقص، فتكون الصورة جريئة حين تعرض على شاشة سعودية.
ولا بد هنا أن نتذكر أكبر مشكلة تواجه السينما الإيرانية، وهو ظهور المرأة بـلباس شرعي في كل المواقف مما يحد من حرية الإبداع أمام المخرج ويحرمه من تصويرها في عالمها الحميم، فظهورها بهذا اللباس ينافي الحقيقة والواقع.
لا يكف الفيلم عن حشد التعاطف مع نجد المرأة المتحدية التي تحتفظ بصورة حبيبها وتعمل على التواصل معه أو “المرأة الناشز” بالعبارة الفقهية التي تمنع زوجها من جسدها، لأنها ترفض أن تمنحه بدون حب، وليست المرأة إلا عينة من مجتمع المساواة الذي يبشر به هذا التيار، وما نجد المرأة في نهاية المطاف إلا رمز لنجد الأرض وللمملكة عامة المتطلعة للحرية وفق الطرح الذي يتبناه الفيلم.

“نجد”.. ثأر السينما من التشدد
يستغل الفيلم الرياح المناهضة للتشدد في المملكة لينتقم للسينما منها وليأخذ بثأرها القديم، فمعلوم أن إغلاق دور العرض ومعاداة السينما في المملكة كان رضوخا لضغط المتشددين الدينيين منذ أحداث احتلال الحرم المكي، فقد اعتبرها “مجلبة للمعاصي مشجعة على الفساد”، مما جعل الأنشطة السينمائية تقتصر على الأندية الثقافية أو المهرجانات الصغيرة.
ولعل محنة فيلم “مناحي” -الذي أنتجته روتانا وحصلت على الترخيص بعرضه في كانون الأول/ ديسمبر 2008 بـجدة في مسرح الملك فهد الثقافي ثم الطائف- تختزل سطوتهم، فقد احتشد هؤلاء المتشددون “تصديا للانحراف وإفساد السينما للذوق”، وتتالت البيانات والفتاوى المناوئة لها وساندتها البرامج الدينية.
لم ينته الأمر بإيقاف العروض التجارية فحسب، وإنما بمنع مهرجان جدة السينمائي الذي كان مبرمجا في تموز/ يوليو سنة 2009 وقد كان المتنفس الوحيد للسينما بالمملكة وقتها، ومع توجه الدولة الجديد القائم على سياسة الانفتاح والتعويل على معاضدة السينما يجد المخرج الفرصة مواتية للهجوم على الشق المحافظ وإدانته.

نساء من وراء الحدود.. طرح مسطح لواقع المرأة السعودية
لقي الفيلم احتفاء كبيرا باعتباره أول عمل سعودي سيعرض في القاعات، وقد انتظر الجمهور الوجه الممكن لهذه السينما الموعودة باعتبار أن الأفلام السعودية السابقة تجارب مستقلة لم تحظ بالدعم اللازم، ورغم بعض الحسنات التي ذكرنا فقد ظهرت في الفيلم هنات كثيرة.
فإسقاط الفيلم لصورة نجد الشابة المتمردة على التقاليد البالية على صورة السعودية المتمردة على التشدد الذي يكبلها؛ يقدم تصورا بسيطا جدا للصراع بين التصورات التقليدية والحديثة، ويعود بنا إلى أطروحات أدب جبران خليل جبران أو رواية زينب؛ لأن الأمر أشد تعقيدا من محنة امرأة تُمنع من الزواج بمن تحب.
فلا تحديث في البلاد العربية ما لم يقع تحديث العقل نفسه وإعداده للتعاطي مع العصر، وأهل الفلسفة وعلماء الاجتماع يخبروننا أنّ هذا العقل العربي المسلم يواجه عوائق معرفية جمة، ولنضرب مثلا من الفيلم نفسه، فهو يعلن مناصرته للمرأة وهذا أمر رائع، ولكن الجسد في السينما موضوع فني شبيه بالألوان عند الرسام أو الطين عند الخزاف أو الكلمة عند الأديب، وفلسفة السينما تقوم على فكرة أن الممثل يضع جسده في يد المخرج ليشكل منه وبه الحكاية.
لكن نظرة على قائمة طاقم العمل في الفيلم تكشف أن ممثلاته من النساء جميعهن من جنسيات غير سعودية، وذلك لرفض المجتمع السعودي للمرأة الممثلة، أحرى أن نصورها وهي ترقص، لذا يضطر صناع السينما إلى استجلاب نساء من وراء الحدود، فالتحدي إذن هو أن نجادل ثقافة لها مشكلة هيكلية مع الجسد الأنثوي لنجعلها ترى ذلك أمرا طبيعيا.

فخ الدعاية المباشرة.. حدود المبدع والسياسي
يبدو الفيلم متماهيا مع الرؤية الرسمية لما يجب أن يكون عليه تدبير الشأن العام في البلاد بصرف النظر عن فهمنا لدور المثقف وطبيعة علاقته بالسلطة، فنحن نسلم بوجهة نظره ولا نجادلها، ولكن ما نجادله هو طريقته في التعبير عن هذه الرؤية.
فقد جاء حوار الفيلم سطحيا، وكان النص وهو يعرض الفكرة يحولها خطبة سياسية أو دينية لا تخلو من الثرثرة وتشكو من فقر بصري، كالحديث عن ضرورة العلوم لمواجهة تحديات العصر أو الحاجة إلى التعاون الأمريكي، فيلقن المتفرج درسا مستهينا بذكائه مسقطا الفيلم في دعاية ساذجة تضر بصورة الحاكم أكثر مما تفيده.
ورغم تحفظنا على الوظيفة النفعية المباشرة للفن، فالوقائع لا تنفي أن السينما ارتبطت طويلا بالدعاية السياسية، فالتنافس بين السينما السوفياتية والأمريكية أيام الحرب الباردة كان بشكل ما صداما بين دعايتين مضادتين فالسينما السوفياتية كانت تمثل دعامة للنظام الشيوعي، والسينما الهوليودية عامة كانت تُروج للحلم الأمريكي وتُرسخ في العقول صورة الأبيض العظيم الذي يغزو العالم لينشر الحرية والخير، ولكن في الحالتين كانت الدعاية ذكية تسرب رؤيتها بطريقة ضمنية، وغالبا تجر المتفرج إلى تصورها من حيث لا يعلم.
أما دعاية فيلم نجد فتسقط في الفجاجة والخطاب المباشر الذي يدفع المتفرج إلى المقاومة لأنه يشعر أن المخرج يتلاعب بأفكاره ويحاول أن يحمله على التفكير على نحو يقدره هو، فقبل أن تكون السينما وقوفا وراء الكاميرا أو جلوسا على كرسي الإخراج، فإنها تصور للوجود عميق وجميل، ولا يطرق الإبداع من باب ممانعة النظام أو موالاته، فذلك هم السياسيين.
أما المبدع فهو أسرع خطى من الموالي والممانع لأنه يركب صهوة الحلم، بينما يركب السياسي صهوة الواقع، وكذا علمنا أبو القاسم الشابي حين غنى للحياة:
“إذا ما طمحت إلى غاية
ركبت المنى ونسيت الحذر
ومن لا يحب صعود الجبال
يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفر