“الشمال الحقيقي”.. طفولة في معتقلات كوريا الشمالية

بعد اختفاء والده وإرساله مع عائلته إلى معسكر للسجناء السياسيين، سيكون على صبيّ صغير أن يتعلم النجاة في ظروف شاقة، وأن يجد معنى لوجوده المحفوف بالمخاطر. ففي فيلم “الشمال الحقيقي” (True North) للمخرج الياباني ذي الأصول الكورية “إيجي هان شيميزو” لوحة نادرة ليوميات معسكر اعتقال في كوريا الشمالية، وعمل مهم لمن يرغب بالاطلاع على ما يجري هناك من جرائم ضد الإنسانية.
يفضح الفيلم من خلال شهادات عدة لناجين؛ معسكرات العمل القسري في البلاد، حيث عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يكبرون ويشيخون ويموتون وهم في المعتقلات بسبب قرارات تعسفية لنظام شمولي.
يلجأ “شيميزو” للصورة للفت الانتباه لقضية يعتبرها مهمة حياته، مستخدما بذلك التحريك كوسيلة يسعى من خلالها لكشف قصص واقعية تجري في إطار من السرية التامة، وفيها قليل من الإنسانية وكثير من الوحشية.
“الشمال الحقيقي” هو فيلم رسوم متحركة صادم، فهو مستوحى من شهادات أشخاص تمكنوا من الفرار من مثل هذه المعسكرات التي ينكر وجودها نظام كوريا الشمالية ويتناساها العالم، ولا تتوفر عنها سوى صور من أقمار صناعية.
عائلة عدوّ الدولة.. هروب قسري إلى المجهول
في كوريا الشمالية تنقلب حياة عائلة “يوهان” (وهو صبي يبلغ من العمر تسع سنوات) وأخته الصغرى “ميهي” ووالدتهما، وذلك حين اعتقال الأب المترجم لاعتباره عدوا للدولة، حيث يتحتم على العائلة بدورها تحضير نفسها ولمّ حاجياتها بأقصى سرعة للانتقال قسرا إلى مكان مجهول.
تسود على السرد منذ البداية -والعائلة مجتمعة وتعيش حياتها العادية- أجواء من التوتر، ليس فقط تمهيدا لقدوم خطب جلل، بل للإيحاء بأن الحياة ليست عادية حتى حين يفترض بها ذلك، فمن الممكن في بلد كهذا أن تحلّ المصائب على الفرد بدون سبب على الإطلاق، وها هي قد حلّت.

تتجمع العائلة مع آخرين ويتكدسون في شاحنة تسير بهم رفقة عناصر من الأمن، لتصل بهم إلى معسكر اعتقال سياسي معروف بالوحشية في كوريا الشمالية، فالمكان يبدو من خلال عيون الصغير “يوهان” ممتدا ومرعبا.
جحيم على الأرض.. حيث تتبخر القيم الإنسانية
يلقى المعتقلون في كوخ بارد وقذر ليبدؤوا العمل في اليوم التالي إما في المنجم أو في الحقل، وذلك عمل يجب أن ينفذ بفعالية ورضوخ وصمت، وذلك تحت رقابة صارمة من الجنود المستعدين لاستخدام أقصى درجات العنف.
مكان هو الجحيم على الأرض، حيث يتقاتل الرجال والنساء الهزيلون على بقايا الطعام، ويضربُ الحراس السجناء بلا رحمة حتى الموت لأدنى جريمة، وتُجرى فيه إعدامات علنية منتظمة واغتصاب وإجهاض قسري وأشغال شاقة وتعذيب وتجارب طبية.

وعلى الرغم من محاولات الأم الحثيثة للحفاظ على كرامتهم وبثّ الأمل في طفليها؛ تتآكل براءة “يوهان” تدريجيا، بينما تبقى هي والصغيرة “ميهي” على تعاطفهما مع إخوتهما من البشر، ففي ظروف وحشية كتلك ينسلّ تعاضد المرء مع إخوانه تدريجيا، فالكل منهك وبائس لدرجة لا يستطيع معها رفع رأسه ورؤية ما حوله. فبعد سنوات عديدة من العيش هنا، هل سيبقى لدى الناس شعور بأدنى أمل أو حبّ؟ أو أي شيء عدا الخوف؟
يغدو الصبي أنانيا لا يدرك مشاعر أمه وأخته الطيبة حين إيواء طفل في كوخهم كان أهله قد أعدموا في المعسكر، فكيف يستقبلون قادما جديدا وهم لا يجدون قوت يومهم؟
منفعة عاجلة وثمن مؤجل.. تحديات الكفاح لأجل البقاء
يبدي السيناريو الذي كتبه المخرج بوضوح تحولات الطفل حين اقترابه من سن المراهقة، ففي مجتمع كهذا تدور في ذهنه تساؤلات وملاحظات حول معنى السلطة والنجاة بالنفس قبل أي شيء آخر. ملاحظات على سبيل المثال عن التعامل مع العدو المُمَثّل هنا بقوات أمن المعسكر، للحصول على السلطة. هكذا يفكر ليستطيع إنقاذ أمه المريضة.
يتخلص “يوهان” من كل شعور نبيل، فبوشاية له عن جار يسرق حطبا أو طعاما يُخيل له أن مشاكله ستُحلّ، وبأنه سيتمكن من إطعام عائلته على نحو أفضل. قد يحصل هذا لفترة، لكنه سيكلفه الكثير فيما بعد.

وبعد أن مرت السنوات سراعا وبعد أن دمرته الخسارة المفاجئة والمأساوية لأحد أفراد أسرته؛ يبدأ “يوهان” في إعادة تقييم معنى حياته حتى وهو يكافح من أجل البقاء في أسوأ ظروف معيشية يمكن تخيلها.
سقف الميزانية المحدودة.. نقاط الضعف الفني
سبب لجوء المخرج الآتي من عالم الفيلم الوثائقي إلى التحريك يعود إلى الميزانية المحدودة لديه، وذلك لكونه منتج الفيلم أيضا، لكن نوعية الرسوم وأسلوبها الذي ينتمي إلى عالم “المانغا” الياباني بات اليوم قديما وبدائيا قياسا على ما يجري حاليا في عالم أفلام التحريك.
هذا ما ترك أثرا على المستوى الفني للفيلم، فقد اتصفت الرسوم لوجوه الشخصيات تحديدا بالتقريبية، وبجمود التعابير وتشابهها، كذلك لم تسعف حركة الأجساد تماما في التعبير عن قسوة العمل الإجباري. هذا في قصة تعتمد كثيرا على رصد الانفعالات الشخصية وايصال فظاعة وقسوة الجهد، إضافة إلى أن التحريك في الأصل يضع مسافة بين القصص وبين مشاهدها.

كما أثّر الحوار الذي كان يدور باللغة الإنجليزية بين شخصيات كورية في معسكر كوري تأثيرا سلبيا على صدقية الرواية.
لكن بناء الشخصيات حتى الثانوية منها على نحو معمق أعطى قوة للفيلم ودافعا لمتابعته، وكذلك تمكن الإخراج -من خلال الموضوع ذاته وأسلوب سرده المشوق على الرغم من حكايته الصادمة- من خلق الأثر المناسب في نفس مشاهده، وجعله يتابع دون ملل خلال ساعة ونصف.
“نشر أفكار تستحق”.. تضامن سينمائي مع قضية منسية
تمكّن الفيلم من إثارة التعاطف والتضامن حول قضية منسيّة، وتحريك الرغبة بالاطلاع على ما يجري في هذا الجزء من العالم، وكل هذا دون اللجوء إلى المبالغة العاطفية.
ولعل هذا نابع من كون المخرج يعمل فيما يطلق عليه “مؤتمر تيد” (Ted Talk = Technologie Entertainment and Design)، وهي بحسب موسوعة ويكيبيديا مجموعات لمؤتمرات تُنظم على مستوى عالمي بأهداف غير ربحية من قبل منظمة أمريكية شعارها “نشر أفكار تستحق”.
هذا ما يُستنتج من المشهد الافتتاحي للفيلم، إذ يفتتح بمؤتمر نظمته هذه المنظمة تسرد فيه شخصيات غير معروفة تاريخها أو تدلي بشهادتها في قضية ما، وكان ذلك اليوم مخصصا للاجئ من كوريا الشمالية ناجٍ من المعسكر، ومن هنا يعود المخرج إلى الوراء لسرد الحكاية.
“قضايا شديدة الحساسية”.. كوريا الشمالية في السينما
يعتبر المخرج “إيجي هان شيميزو” من رواد المانغا وصانعي الأفلام ورسامي الرسوم المتحركة في آسيا، ويقدم في أعماله محتوى يروج لحقوق الإنسان والسعادة، كما أنه يحاضر عن الحكمة التقليدية في جميع أنحاء العالم، وكان قد عمل من أجل الفيلم لقاءات مع ناجين سابقين لمجموعات عدة، منهم عجائز وُلدن في اليابان ثم عدن في الستينيات والسبعينيات إلى كوريا الشمالية وعوملوا معاملة سيئة، بحيث صودرت أملاكهم وأرسلوا إلى الريف في ظروف رهيبة.

لقد واجهته صعوبات في عمل الفيلم كما قال في حديث لموقع “تطوير الفيلم المستقل الأوروبي”، فمثلا كان من الصعب الحصول على أي تسجيل فيديو أو صور من المكان أو على الأقل تخيل تفاصيل دقيقة كنوعية البنادق التي يستعملها الجنود أو سلوكهم.
كما ذكر “شيميزو” صعوبات الحصول على تمويل، فكوريا الجنوبية رفضت تماما المساهمة في إنتاج الفيلم، لأن كل ما يخصّ كوريا الشمالية يُعتبر من “القضايا شديدة الحساسية”. لقد كان بإمكانه عمل فيلم جماهيري يجلب له المال، لكنه يفضل الفيلم المهم على الفيلم الجماهيري، فبعد فيلم “الشمال الحقيقي” قال “شيميزو” إنه سيعمل على فيلم رسوم متحركة عن حقوق الإنسان في سوريا والعراق.
كان العرض الأول للفيلم في مهرجان آنسي الدولي (2020) لأفلام الرسوم المتحركة، ثم شارك في إحدى مسابقات الدورة الـ36 لمهرجان وارسو السينمائي الدولي الذي انعقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حيث نال تنويها خاصا من لجنة التحكيم.