السينما الدينية.. أنبياء في الكتب المقدسة وبشر على الشاشة

أسامة صفار
يشعر البطل أن كل ما بناه في سنواته الماضية سوف ينتهي إلى لا شيء، فينزوي في ركن من سريره ممسكا بكأس من النبيذ الفرنسي، ليبحث عن مخرج لتلك السلسلة من الأزمات المتلاحقة في رأسه، ثم تتوالى أمام عينيه مشاهد لمظاهرات السترات الصفراء والغضب الشعبي الذي يمنحه ضمانة كافية للفشل في الانتخابات القادمة، حتى تكسو وجهه سحابة داكنة من الغضب، وفجأة يقفز على طريقة “أرشميدس” صارخا: وجدتها.
كان “إيمانويل” يعرف الكثير عن سلوك الأقوياء بحكم دراسته للاقتصاد وممارسته للسياسة وميراثه الفرنسي الاستعماري، فقرر أن يبحث عن معركة خارجية على الطريقة الأمريكية الهوليودية ليختار من لا يستطيع الرد حربا أو انتقادا، فوجد المسلمين خيارا مثاليا.
فقد يمنحه انتقادهم فرصة التقرب من اليمين المتطرف فيفوت الفرصة على “مارين لوبان” منافسته القادمة في الحصول على نسبة من الأصوات قد تدعم فرص نجاحه، ثم نادى زوجته واستشارها في الأمر، فابتسمت مؤكدة أنه أعظم من “شارل ديغول” وأشجع من “نابليون بونابرت”.
يبدو هذا المشهد المُتخيل والمستوحى من آراء المحللين السياسيين متسقا مع مقولة العالم البريطاني “أرنست باركر” حين يؤكد في كتابه “الحروب الصليبية” أن فرنسا هي منبع الحروب المتوالية على الإسلام من قبل أوروبا.
يبدو أيضا أن “إيمانويل ماكرون” الرئيس الفرنسي -الذي أطلق تصريحا كان بمثابة شرارة صراع لا تبدو له نهاية ضد ما أطلق عليه الإسلام الراديكالي- يطمع في دور مشابه لأسلافه ممن كانوا في طليعة الحروب الصليبية، لكن الرجل الذي دفعه الفشل في الملفات السياسية الداخلية وضعف فرصه في الفوز بفترة رئاسية قادمة إلى فتح جبهة خارجية للحرب دون أن يعي أنه يستعدي أربعة ملايين مسلم فرنسي، فضلا عن ما يتجاوز مليارا وثلاثمئة مليون في العالم.

طغيان اللادينية.. خلع القدسية عن الأنبياء في السينما
لم يحدث أن قام سياسي ممن يمثلون شعوبهم تمثيلا ديمقراطيا حقيقيا بتأييد عرض الرسوم المسيئة لرسول الإسلام باستثناء “ماكرون” في إشارة إلى عدم نضج سياسي ممزوج بتعال واضح، فضلا عن جهل مطبق بتاريخ الإبداع العالمي في تناول الأنبياء والفنون البصرية بشكل خاص.
وقد أنتجت السينما العالمية آلاف الأفلام الدينية التي تتناول حياة الأنبياء وخاصة عيسى وموسى عليهما السلام، وخرجت بعض هذه الأفلام عما روي في الكتب المقدسة، لكن أقصى ما فعله الإبداع الدرامي كان أن نزع عنه القدسية وتعامل معه كإنسان يصيب ويخطئ ويضعف أمام شهواته، وبالطبع فإن المؤلف كإنسان يحمل خبراته الحياتية بتواضعها وتعقيداتها ويسقطها على حياة النبي في الفيلم.
ولنفهم فهما أعمق لماذا السينما بشكل خاص من بين كل الفنون قد نزعت القدسية عن شخوص الأنبياء في بعض أفلامها، فلا بد أن نعود لظروف نشأتها في بداية القرن العشرين، حيث بلغت الحالة اللادينية في العالم ذروتها في ذلك الوقت، إذ نشأت الدولة الأمريكية التي حولت الدين المسيحي إلى مجرد طقس أسبوعي ضمن الدين الرأسمالي الخالص.
صاحب ذلك أيضا قيام الثورة البلشفية عام 1917، مما أدى إلى نشوء دولة شيوعية هائلة المساحة والتعداد، وتبعتها الصين الشيوعية الماوية، وبالتالي كان اختراع السينما بشريا خالصا بعكس المسرح الذي نشأ كطقس لعبادة آلهة الأوليمب في اليونان وفنون اللغة التي ارتبطت بالكتب المقدسة والشعائر الدينية.
ورغم ذلك النشوء المتحرر من المقدس تماما، فقد كان حضور أنبياء الله على الشاشة مواكبا لبواكيرها الأولى، ولعل أشهرها فيلم “الوصايا العشر” الصامت عام 1923، وقد أعاد المخرج “سيسيل دي ميل” تنفيذه عام 1956 ليكون ناطقا، واستعرض الفيلم قصة حياة وخروج النبي موسى من مصر، أما أكثر الأنبياء الذين صنعت أفلام عنهم وعن حياتهم فهو النبي عيسى عليه السلام، ولم يُتطرق للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في أفلام هوليود بشكل كبير إلا من خلال مسلمين أو عرب.
“الرسالة”.. منع من العرض لفيلم الإسلام الأول والأفضل
يعد فيلم “الرسالة” الذي أنتج في العام 1976 أبرز وأنجح الأفلام التي قدمت عن الرسالة المحمدية والنشأة الأولى للإسلام، وقد قدمت منه نسختان إحداهما بالعربية من بطولة الممثل المصري الراحل عبد الله غيث، والإنجليزية من بطولة الممثل الأمريكي “أنطوني كوين” بتكلفة بلغت حينها 17 مليون دولار، لكنها حققت إيرادات بلغت عشرة أضعاف هذه التكلفة، بينما منعت النسخة العربية من العرض لسنوات طوال بسبب تجسيد الصحابي وأحد المبشرين بالجنة حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله.
جاء هذا المنع رغم موافقة الأزهر الشريف على السيناريو، وقد تبين فيما بعد أن الأزهر اتخذ موقف المنع لسبب آخر، وهو عدم إقدام المخرج الراحل على عرض النسخة المصورة على الأزهر لاتخاذ القرار بشأن عرضها، وهو ما اعتبره علماء الأزهر تعاليا يستوجب المنع الذي استمر لنحو ثلاثين عاما حتى بدأت الفضائيات العربية في عرضه.
مصطفى العقاد.. لغة بصرية على طريقة هوليود
استطاع المخرج الأمريكي سوري الأصل مصطفى العقاد أن يقدم فيلما يتحدث باللغة البصرية لهوليود (أي لغة الأغلبية السينمائية في العالم)، صانعا مزيجا معبرا من الصراع ضد ظلم كفار قريش ونشر رسالة الدين الجديد بتوجيهات قائدها الرسول الكريم.
بالطبع لم يجسد الفيلم شخصية الرسول الكريم، وإن جُسد العديد من الذين كانوا معه، ويبدو الفيلم في مساحات عديدة أقرب إلى عمل حربي، لكن حتى هذه الحرب وُظفت لصنع ذروة درامية داخل العمل، خاصة معركة أحد التي لم ينتصر المسلمون فيها لكنها –في سياق الفيلم– تحولت إلى كشف مبهر عن شخصية القائد المسلم خالد بن الوليد تأسيسا لتاريخه الحافل كقائد عسكري إسلامي لم يهزم قط.
حرص العقاد على التعبير بصريا، فجعل أغلب لقطاته مكبرة لوجوه المسلمين في الجزء الأول من الفيلم لتصوير حجم المعاناة من الظلم الواقع عليهم كأقلية مؤمنة في مجتمع كافر، أما في الجزء الثاني فكانت اللقطات متوسطة لتعبر عن حالة سيطرة على المصائر.
لعل فيلم “الرسالة” هو الفيلم الوحيد في التاريخ السينمائي العالمي الذي لم يظهر بطله صوتا ولا صورة رغم كونه الموجه الأكبر لأحداث العمل والمؤثر الرئيس فيها، وقد حرص العقاد على مخاطبة الضمير الثقافي العربي من اللحظة الأولى في مقدمة الفيلم، مشيرا إلى أن الرسول الكريم لن يظهر في العمل، وهي مقدمة بمثابة تصريح مرور إلى الضمير المسلم تنزيها وتعريفا بقدسية مقام نبي الإسلام.
تجسيد النبي محمد.. جدل قائم منذ فجر السينما الشرقية
كان من الأفلام التي أنتجت عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الغرب فيلم الرسوم المتحركة “محمد: آخر الأنبياء” (Muhammad: The Last Prophet) الذي أخرجه “ريتشارد ريتش” في العام 2004 وعرض في عدد محدود من دور العرض في الولايات المتحدة وإنجلترا، وقد لقي ردود فعل سلبية على المستويين النقدي والجماهيري، إذ اعتبر النقاد أنه لا يمثل أي إضافة سينمائية أو قيمية.
وكان الفنان المصري الراحل “يوسف وهبي” قد اعتزم تجسيد شخصية الرسول الكريم في فيلم للمخرج التركي “توجو مزراحي” من إنتاج تركيا في عهد كمال أتاتورك عام 1928، ولكن وُقف العمل تماما بعد تهديد الملك المصري فؤاد الأول ليوسف وهبي بالطرد من مصر وإسقاط الجنسية عنه.
فطبقا للمذهب السني لا يجوز تجسيد الأنبياء والصحابة على الشاشة، لكن ثمة مساحات للسماح بالتجسيد من قبل فقهاء المذهب الشيعي، مما أدى إلى ظهور أعمال تلفزيونية وسينمائية جسدت خلالها شخصيات بعض الأنبياء مثل يوسف وسليمان وعيسى وموسى عليهم السلام جميعا، وكذلك بعض الصحابة وآل بيت النبي مثل عمر بن الخطاب والحسن والحسين، ولكن ظل الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ممتنعا عن التجسيد بشكل كامل.
كان الاستثناء الوحيد في فيلم “محمد رسول الله” وهو إنتاج إيراني من إخراج “مجيد مجيدي” في العام 2015، وجسد العمل حياة الرسول حتى سن الثالثة عشرة و ظهر على الشاشة من خلال رداء أبيض، ورغم ذلك لم ينج الفيلم من هجوم فقهاء السنة.
“حياة وعذاب يسوع-المسيح”.. بداية تجسيد النبي عيسى
يصل عدد الأفلام التي أنتجتها السينما العالمية عن النبي عيسى عليه السلام أكثر من ثلاثمئة فيلم، وقد تناول بعضها حياته بكاملها أو جزءا منها مثل الحبس والصلب في “آلام المسيح” (The Passion of the Christ) للمخرج والممثل “ميل غيبسون” في العام 20٠4.
لكن البداية الحقيقية لتجسيد حياته جاءت مع نشأة السينما، حيث قدم الفرنسيان “الأخوان لوميير” فيلم “حياة وعذاب يسوع-المسيح” (La vie et la passion de Jésus-Christ) بعد ستة أعوام من اختراع السينما، ولم تكن مسألة تجسيد المسيح عليه السلام على الشاشة أقل تعقيدا من تجسيد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ظلت مثار جدل حتى حسمها البابا “بولس السادس” بالموافقة على تصوير فيلم “يسوع الناصري” (Gesù di Nazareth) عام 1977 للمخرج الإيطالي “فرانكو زيفيريلي”، لكن الأزمة لم تحسم في كل المذاهب المسيحية.
“الإغواء الأخير للمسيح”.. صراعات المسيح الروحية والشهوانية
رغم القدسية والالتزام بالنص المقدس فإن المخرج الأمريكي “مارتن سكورسيزي” تجاوز كل الخطوط الحمراء في نظر كثيرين حين قدم فيلمه “الإغواء الأخير للمسيح” (The last temptation of Christ) عام 1988، حيث صور النبي عيسى على أنه شخص يخضع لشهواته عبر علاقة متخيلة مع مريم المجدلية، والفيلم مأخوذ عن رواية “نيكوس كازانتزاكيس” الصادرة عام 1953 بنفس الاسم، وقد منع من الكثير من دول أوروبا.
وعلى الطريقة نفسها قدمته نتفليكس في إغواء جديد عام 2019، إذ يظهر المسيح عليه السلام شخصا مثلي الجنس، بينما تتعاطى السيدة مريم الماريجوانا في فيلم “الإغواء الأول للمسيح” (The first temptation of Christ)، ولعل العلاقة بين العملين الإغواء الأول والأخير للمسيح تتمثل في كون الفيلم الجديد يدور حول الفيلم القديم، حيث يعرض “سكورسيزي” في “الإغواء الأخير” الهواجس البشرية للنبي عيسى، ويعرض خواطر نفس ترنو إلى العيش الإنساني مع زوجة أو حبيبة وأطفال وأحفاد أيضا، ومن ثم ينتصر الجانب الروحي ويتخلى عن تلك الهواجس.
بينما يأتي الإغواء الأخير -ولعل التناص في الاسم واضح– ليصنع نسخة من إغواء يراه يتسق مع المرحلة الجديدة في 2019 من دون حساسيات القدسية أو المسألة الدينية في الأمر، وهو ما تكرر في الكثير من الأعمال عن الأنبياء، لكن هذا التمادي تسبب في شن هجوم بالمولوتوف على مقر شركة نتفليكس في البرازيل.
وكان فيلم “آلام المسيح” للممثل والمخرج الأمريكي “ميل غيبسون” عام 2004 محطة هامة في تجسيد حياة النبي عيسى، إذ يصور اللحظات الأخيرة في حياة السيد المسيح وتصميم اليهود على صلبه، وأدى إلى احتجاجات من يهود الولايات المتحدة لدرجة التظاهر أمام مقر الشركة المنتجة لمنع عرضه، وقد لقي الفيلم تحفظات لدى العديد من الأطراف المسلمة، وأدرج بسببه “ميل غيبسون” كمعادٍ للسامية.
“الوصايا العشر”.. انتصار النبي موسى وغرق فرعون
لعل قصة حياة النبي موسى هي الأكثر اكتمالا من حيث كونها قصة مثيرة لخيال أي صانع أفلام في هوليود يطمح لصناعة فيلم يحوي حبا وإثارة وتشويقا ومغامرة وإبهارا بصريا بشق البحر وتحويل العصا إلى حية و معارك حربية وتحولات درامية حادة وصادمة.
وقد قدم المخرج الأمريكي “سيسيل دي ميل” في العام 1956 فيلم “الوصايا العشر” (The Ten Commandments)، وهو عمل عملاق يحكي خلاله قصة أمير مصري ولد لأسرة من بني إسرائيل الذين استعبدوا في مصر بعد وفاة النبي يوسف، ثم وضعته أمه في مجرى النيل بإلهام إلهي خوفا على حياته، حيث أمر الفرعون بقتل كل أطفال بني إسرائيل الذين يولدون، لأن نبوءة أكدت له أن طفلا سيولد من بني إسرائيل سوف يزيل ملكه.
تجد زوجة فرعون هذا الطفل وتتبناه وتقرر تنشئته في القصر ويولد لها طفل فتربيهما معا كأخوين، ثم تقرر أن يعرف موسى أسرته، وهناك يكتشف أصوله وميراثه الحقيقي، ومع مرور الأيام يكتشف أن دوره يتمثل في تحرير بني إسرائيل من العبودية لفرعون، ويبدأ الصراع بين الأخوين حتى ينتصر موسى ويغرق فرعون وجيشه في البحر.
يحفل الفيلم بالإبهار البصري خاصة معجزة شق البحر بعصا موسى، ويسير الفيلم طبقا للكتاب المقدس “العهد القديم”، لكنه يضيف محسنات درامية للقصة طبقا لما يعتقد أنها متطلبات جماهيرية، فيقدم النبي موسى باعتباره تخلى عن أبنائه وزوجته، ويطلق لسان موسى ببلاغة لا يؤكدها الكتاب المقدس الذي يشير إلى استعانته بأخيه النبي هارون لكونه أكثر بلاغة وقدرة على مخاطبة الناس.
ورغم الرضا الغالب من قبل يهود العالم عن الفيلم، فإنه تعرض للانتقاد في هذه النقاط من قبل نقاد يهود متدينين، بينهم الناقد “دانيال سيلزمان” الذي يرى أن الفيلم لم يلتزم بالنصوص الواردة في العهد القديم.
“الخروج آلهة وملوك”.. خيانة الخيال للنص المقدس
قدم المخرج البريطاني “ريدلي سكوت” عام 2014 عن قصة خروج اليهود من مصر فيلم “الخروج آلهة وملوك” (Exodus Gods and Kings)، وقد رأى أتباع الأديان السماوية الثلاثة أنه يخالف عقائدهم، خاصة أنه أورد صوتا للإله داخل الفيلم.
لكن “سكوت” يشير إلى نقطتين يرى أنه انطلق من خلالهما، الأولى أن التوراة أغفلت أجزاء كبيرة من قصة خروج بني إسرائيل من مصر وكان عليه استكمالها بخياله، أما الثانية فهي أنه لا يوجد تصور محدد للإله وصوته، وكان قد استعان بصبي لأداء صوت إلهي، وهي النقطة الأساسية التي رآها أتباع الديانات الثلاث أسوأ ما في الأمر.
ويركز فيلم الرسوم المتحركة “أمير مصر” (The Prince of Egypt) عام 1988 للمخرجين “سيمون ويلز” و”ستيف هوكنر”؛ على قصة ذبح الفرعون المصري لأبناء اليهود، ونجاة موسى وأخيه هارون وأختهما مريم.
قدمت السينما العالمية أفلاما عن الأنبياء نوح ويعقوب ويوسف وسليمان أشهرها “نوح” 2014، وهو مأخوذ عن سفر التكوين في التوراة، واتهم الفيلم بأنه يروج لأفكار صهيونية تحت ستار القصة. وأيضا فيلم “النبي يوسف” عام 2008 وفيلم ” يعقوب” عام 1994، ويسرد جانبا من حياة النبي يعقوب حين خدع أخاه وعاش فترة من الضلال، ليعود فيلقنه أخوه درسا في التسامح والغفران.
أما فيلم النبي سليمان فيتناول قصة صعود سليمان إلى العرش وإعلانه لنفسه ملكا وغضب أبيه الملك النبي داوود، ويصور الفيلم أيضا ملكة سبأ وقد تواطأت مع الدولة المصرية في ذلك الوقت لإسقاط مملكة سليمان.