“تحت السيطرة تماما”.. الفيروس الذي طرد “ترامب” من البيت الأبيض

محمد موسى

“هذه البلاد التي تصرف مليارات الدولارات من أجل صناعة أسلحة لحفظ أمنها لا تملك أقنعة طبية واقية كافية لحماية مواطنيها من الأوبئة”. هكذا تحدث أحد الأطباء الأمريكيين وهو يصف إخفاق الولايات المتحدة الأمريكية الكبير في تعاملها مع وباء كورونا (كوفيد 19)، بعدما جعل البلد الأول في الثراء والقوة هو الأول أيضا في عدد الإصابات والوفيات.

يفتح المخرج الأمريكي المعروف “أليكس جيبني” في فيلمه الأخير الذي عُرض قبل أيام قليلة من الانتخابات الأمريكية “تحت السيطرة تماما” (Totally Under Control)؛ ملف تعاطي الإدارة الأمريكية مع فيروس كورونا (كوفيد 19)، وكيف أن هذه الإدارة فشلت تماما -لأسباب يُسهب فيها الفيلم- في التعامل الجدّي مع الوباء، ليقتل عشرات الآلاف من الأمريكيين، وما زال يشل ويحكم القبضة على خناق البلد الأكثر نفوذا في العالم.

 

سخرية “ترامب” من الوباء.. وقود كورونا الذي أشعل الفتيل

يعود الفيلم التسجيلي إلى بداية أزمة كورونا في شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي، ويبدأ خطا زمنيا يظهر في أحيان كثيرة على الشاشة ليُبيّن العلاقة بين إجراءات الحكومة الأمريكية وانتشار الفيروس في الولايات المتحدة والعالم. كما سيؤكد هذا الخط الزمني التقصير الفادح للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” نفسه، وذلك عبر عرض تصريحات له من بداية زمن الأزمة وحتى وصولها إلى مستويات عالية من التعقيد والصعوبة.

كما يُقابل الفيلم مجموعة كبيرة من الأخصائيين، منهم من كان يعمل في مؤسسات حكومية طبية أمريكية قبل فصله أو إبعاده عن العمل، وأطباء كانوا في الصف الأول في مواجهة الفيروس، وشهدوا بأنفسهم على فداحة الخسائر البشرية وتهالك النظام الصحي الأمريكي في مواجهة الوباء الكبير.

يبدأ الفيلم بمونتاج سريع مرعب كثيرا لأمريكيين عاديين كانوا يرفضون الإجراءات التي تفرضها محلات تجارية أمريكية بلبس الأقنعة الطبية، وفي تلك المشاهد كان نساء ورجال يعتدون جسديا، وأحيانا يبصقون على الموظفين في هذه المحلات.

تتماهى مواقف هؤلاء الأمريكيين مع الموقف الرسمي للإدارة الأمريكية، وبالخصوص موقف “ترامب” نفسه الذي تعامل باستهزاء واضح مع الفيروس والأقنعة الطبية.

فحص كورونا كان من أشد المشاكل التي واجهتها الولايات المتحدة في الفترة الأولى من الوباء

 

مدينة سياتل.. وصول الفيروس الأول إلى الديار الأمريكية

يربط الفيلم تدرجيا بين ظواهر في الشارع والمجتمع الأمريكي بعد كورونا وسلوك الإدارة الأمريكية والرئيس “ترامب” نفسه الذي سخّف واستهان بالفيروس منذ البداية، بل وزعم في شهر يناير/كانون الثاني الماضي بأن الولايات المتحدة بعيدة عن خطر الوباء.

كما تهاون في مناسبات عديدة من جدوى استعمال الأقنعة الطبية، وظهر مرارا على مسافات قريبة كثيرا من أمريكيين، دون أن يرتدي أحد من الموجودين الأقنعة الطبية.

يُسلط الفيلم الانتباه على أول حالة لكورونا في الولايات المتحدة، حيث تُكتشف في منتصف شهر يناير/كانون الثاني 2020 في مدينة سياتل الأمريكية.

وعلى رغم أن السلطات الأمريكية كانت على علم بتفشي الفيروس في الصين ووصوله إلى الولايات المتحدة، فإنها لم تفعل الكثير على الإطلاق، وتعاملت بتهاون غير مفهوم مع تحذيرات الأطباء والعلماء الأمريكيين.

الطبيب الأمريكي “سكوت بيكر” الذي كان يرأس مؤسسة “بوبليك لاب” التي تُعنى برصد كافة الأمراض حول العالم

 

“السياسيون عرقلوا عمل العلماء”.. تعامل الرؤساء مع الأوبئة

يكشف موظفون أمريكيون أن إداراتهم الطبية تملك دليلا حول كيفية تعامل الأجهزة الطبية مع الأوبئة في العالم، وأن هذا الدليل هو نتاج سنوات عديدة من التعب والبحث. بيد أن الإدارة الأمريكية فضّلت عدم التعامل مع هذا الدليل، بل إنها أبعدت مجموعة من أفضل العلماء والأطباء الأمريكيين الذين كانوا يعملون في مؤسسات طبية أمريكية رسمية، واستبدلتهم برجال أعمال وشخصيات جدليّة، منهم محامٍ لا يؤمن بأن التغييرات المناخية هي من فعل الإنسان.

يستعيد الطبيب الأمريكي “سكوت بيكر” الذي يعمل في مؤسسة “بوبليك لاب” (التي تعنى برصد كل الأمراض والأوبئة حول العالم) حقيقة أن مؤسسته الحكومية كانت على علم بفيروس كورونا عند انتشاره الأول في مدينة ووهان الصينية، وأن مؤسسته بذلت كل ما بوسعها حتى تُحذّر الإدارة السياسية للبيت الأبيض دون أن تلقى أذنا صاغية.

“السياسيون عرقلوا عمل العلماء”، هكذا يصف مراسل البيت الأبيض لجريدة نيويورك تايمز الأمريكية “مايكل شير” سياسة الرئيس “ترامب” تجاه أزمة الوباء، ويقارنها –وهو الذي غطى البيت الأبيض لسنوات عديدة– مع سياسات رؤساء أمريكيين آخرين، وبالخصوص مع الرئيس “باراك أوباما” الذي شهد عهده ظهور مرض السارس، وكيف أن الإدارات السابقة لم تتدخل في عمل الإدارات الطبية، بل تركتها تمارس عملها دون تدخلات.

دروس الماضي.. أكاذيب “ترامب” في مواجهة التاريخ

يُبرز الفيلم معظم تصريحات “ترامب” في فترة الوباء الأولى ويُثبت زيفها وتهالكها، فمثلا صرّح “ترامب” في شهر فبراير/شباط من العام الجاري أن كورونا هو شيء لم تعرفه الولايات المتحدة من قبل، وهو ادعاء غير حقيقي، فأمريكا كانت من ضحايا وباء الإنفلونزا في عام 1918 الذي قتل الملايين من البشر حول العالم.

يستعيد الفيلم في مشاهد أرشيفية مؤثرة لقطات من تفشي الوباء في بداية القرن الماضي، وكيف أن السلطات الطبية وقتها كانت توجه الأمريكيين لارتداء الأقنعة الطبية، وذلك لكونها الوسيلة الوحيدة حينذاك لمنع انتشار المرض.

يضع الفيلم المشاهد الأرشيفية تلك في مقارنة مع استهزاء “ترامب” الأخيرة بالأقنعة الطبية، وبعد مئة عام على الوباء الأخير الذي ضرب البشرية.

كوريا الجنوبية سبقت الولايات المتحدة في التعامل مع وباء كورونا حيث استخدت الكمامات الطبية والمُعقّمات

 

كوريا الجنوبية.. إعطاء القوس باريها

يعقد الفيلم منذ بداية زمنه مقارنة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في تعامل كل منهما مع الوباء. هناك سبب لهذه المقارنة، فتاريخ اكتشاف أول حالة لكورونا في البلدين يكاد يكون نفسه، بيد أن مقاربة البلدين للأزمة كانت مختلفة جدا.

لخصت “فيكتوريا كيم” مراسلة صحيفة لوس أنجلوس الأمريكية في كوريا الجنوبية سياسة الإدارة الحكومية الكورية مع الأزمة بأنها سلمت أمرها للمختصين من الأطباء والعلماء، وهؤلاء هم الذين أداروا الأزمة. فمنذ البداية اهتمت كوريا الجنوبية بقضية فحص كورونا وأهميته في تحديد عدد الإصابات، وبالتالي الخروج بسياسات ملائمة.

أنجزت كوريا الجنوبية في وقت قياسي صناعة مواد فحص محلية، متجاوزة أحيانا الأعراف الطبية الرسمية، لتنطلق بعدها عمليات الفحص التي كانت متوفرة للكثيرين.

وعلى عكس كوريا الجنوبية كانت الولايات المتحدة تعاني من عدم توفر فحوص كورونا، وحتى عندما أنجزت شركة أمريكية فحصها الخاص فإنه كان يعاني من مشاكل تقنية، وكما أخبرنا عبر الفيلم عاملون في مختبرات أمريكية، ظل الفحص مشكلة أمريكية كبيرة حتى شهر مايو/أيار 2020، وكان مقتصرا على العاملين في الحقل الطبي فقط.

صورة تجمع ترامب مع فريق الأزمة الذي أنشأه للتصدي لوباء كورونا في أمريكا لكنه باء بالفشل

 

غياب الأقنعة الطبية.. خلية “ترامب” الفاشلة

خصّص فيلم “تحت السيطرة تماما” الكثير من وقته للبحث في مشكلة غياب المعدات الطبية اللازمة للوقاية من الوباء في المستشفيات الأمريكية، وبالخصوص الأقنعة الطبية.

وقد ساهمت سياسات أمريكية سابقة في دفع معظم مُصنّعي الأقنعة الطبية الأمريكيين لترك المهنة أو الانتقال إلى دول أخرى، ولم تولِ إدارة “ترامب” أي أهمية لتخزين الأقنعة الطبية التي يجب أن تكون متوفرة في كل الأوقات.

كما دفع تكالب دول عديدة حول العالم إلى الحصول على الأقنعة لمنافسة غير مسبوقة انتقلت الى داخل الولايات المتحدة نفسها، إذ تسابقت الولايات الأمريكية نفسها على شراء الأقنعة المتوفرة للبيع في دول مثل إيطاليا والصين.

لم تفلح خلية الأزمة التي أنشأها الرئيس “ترامب” في تخفيف الأزمة التي صارت تخنق الولايات المتحدة، حيث كشف أحد المتطوعين في خلية الأزمة التي أدارها “جاريد كوشنر” عن فشل جهود الخلية في كل شيء تقريبا، حتى إنها لم تنجح في تأمين عقد واحد لشراء الأقنعة الطبية.

نقص المعدات الوقائية وغياب الأقنعة الطبية للعاملين في الحقل الطبي الأمريكي كان من كبرى مشكلات كورونا

 

“قمنا بخياطة أقنعة غير محكمة من قماش قديم”

لتأكيد ما يعنيه غياب الأقنعة الطبية، يستعين الفيلم التسجيلي بمشاهد من نشرات أخبار أمريكية تظهر أمريكيات يعملن في الحقل الطبي، وكيف أنهن لم يكن يملكن أي أقنعة لشهور، وهو ما أدى إلى إصابة بعضهن بالمرض. وصفت إحدى العاملات في دار العجزة أشهر كورونا الأولى في الولايات المتحدة قائلة: قمنا بخياطة أقنعة غير محكمة من قماش قديم، هذا كل ما كنا نستطيع القيام به.

يواصل الفيلم عبر خطه الزمني مقارنة وضع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، فبينما كانت أمريكا تغرق في المرض وتبعاته، كانت كوريا الجنوبية قد حققت خطوات مهمة في السيطرة عليه.

يصف طبيب كوري جنوبي كان من المسؤولين عن خطط التعامل مع الوباء في بلده مشاعره تجاه ما يجري في الولايات المتحدة: معظم ما تعلمته كان من الولايات المتحدة، لذلك أشعر بالحزن الكبير على الحال هناك.

الخوف يسيطر على العاملين في المستشفيات الأمريكية بسبب عدم جدّية ترامب في التعامل مع الوباء

 

فتح النوافذ أثناء ذروة العاصفة.. شخصية “ترامب” الغريبة

“عندما تصاب الولايات المتحدة بالزكام، يصاب الأمريكيون السود بالتهاب الرئة”. يلخص هذا الوصف للطبيب الأمريكي الأسود “تايسون بيل” حال كثير من مواطنيه الذين أصابهم فيروس كورونا بشدة.

يستعيد الطبيب الشاب جولاته بين قاعات كورونا في المستشفى الذي يعمل فيه في ولاية جورجيا في الأشهر الأولى من الوباء، وصدمته عندما وجد أن جل مرضى كورونا في المستشفى كانوا من الأمريكيين السود وذوي الأصول اللاتينية.

يفند الفيلم كل ادعاءات “ترامب” عن تعامل حكومته الجدّي مع الوباء ويفضح تهافتها، ويُبين الشخصية الغريبة للرئيس الأمريكي، فبينما كانت الولايات المتحدة تصارع دون أسلحة كافية وباء عالميا، بدأ الرئيس الأمريكي بحملته لفتح البلد مجددا وإنهاء فترة العزل الصحي، هذا رغم أن الولايات المتحدة كانت لأشهر عديدة تتصدر دول العالم في عدد الإصابات اليومية والمتوفين بسبب الجائحة.

مخرج فيلم “تحت السيطرة تماما” الأمريكي “أليكس جيبني” الذي وجّه في فيلمه النقد القاسي لترامب

 

أيام “ترامب”.. ازدهار اقتصادي وفشل صحي

هذا هو الفيلم التسجيلي الثاني للمخرج المعروف “أليكس جيبني” وقد عرض خلال الشهرين الماضيين، وذلك بعد فيلمه القوي الآخر “وكلاء الفوضى” الذي تعرضنا له على موقع الجزيرة الوثائقية سابقا.

ليس معروفا كيف نسّق المخرج العمل في مشروعين مختلفين لجهتين إعلاميتين منفصلتين أنجزتا في الفترة الزمنية نفسها، وإن كان ما يربط الفيلمين هو توجيه النقد القاسي لحكومة “ترامب” والفوضى العارمة التي مثلها حكمه، سواء للحياة في الولايات المتحدة أو خارجها.

يفتح المخرج نافذة على كواليس تصوير فيلمه، فيبين الإجراءات الوقائية التي اتخذها فريق الإنتاج لحماية الشخصيات التي ظهرت في الفيلم، حتى إنه طوّر معدات خاصة تُمكّن الضيوف من حمل الكاميرات التي تصورهم بأنفسهم، ووضعها في الأمكنة المناسبة لتقليل الاتصال المباشر بين تقنيي الفيلم والضيوف. ووضع الفيلم أيضا ستارة بلاستكية تفصل بين الضيوف والمخرج وفريقه التقني الذين كانوا يجلسون على الطرف الآخر من الستارة.

هناك من يزعم أن نتيجة الانتخابات الأمريكية كانت محسومة للرئيس “ترامب” بسبب ما حققته سنوات حكمه من ازدهار اقتصادي كبير، وعدم زجّ الولايات المتحدة في معارك عسكرية خارجية مباشرة، وأن ما عرقل ذلك كان تعامل الرئيس الأمريكي مع فيروس كورونا، لذلك لم يكن غريبا موعد إطلاق عرض هذا الفيلم التسجيلي على منصة “نيون” الإلكترونية، وقد خُطط له أن يكون قبل أيام من موعد الانتخابات الأمريكية، على أمل أن يلفت الانتباه لما فعلته إدارة الرئيس “ترامب”.


إعلان