“مُرّ حلو”.. نساء بلا أرحام في حقول قصب السكر

قيس قاسم

يقترح المخرج والممثل الهندي الشهير “أنانت نارايان ماهاديفان” نقل قصة مؤلمة نشرتها صحيفة هندية كشفت فيها عن أفعال وجرائم شنيعة تُمارس بحق نساء عاملات في حقول قصب السكر في ولاية ماهاراشترا، وقد حملت عنوانا غريبا هو “قرية نساؤها بلا أرحام”؛ إلى نص سينمائي مؤلم حمل أيضا عنوانا مُلتبسا هو “مُرّ.. حلو” (BitterSweet).

قصة الفيلم الحقيقية جاءت بعد قراءة مخرجه للخبر المثير الذي دفعه للتحري والسؤال عن مدى صحة مضمونه، لأنه في بداية الأمر اعتبره مجرد عنوان صحفي يُراد به الإثارة وجلب الانتباه، لكنه بعد التحري تأكد من وجود وقائع تُصادق على ما جاء في الصحيفة، وأن هناك الكثير من النساء العاملات في حقول قصب السكر من قرية “بيد” يُجبرن على استئصال أرحامهن، حتى يتمكنَ من العمل دون انقطاع خلال فترة الحيض (الدورة الشهرية).

هذا بعض ما ذكره “ماهاديفان” في المقابلة التي أجراها معه موقع “فِرستبوست”، وسأله فيها محررها  عن الأسباب التي دفعته للتفكير بنقل تلك القصة إلى السينما.

 

مشهد القرية الحقيقي.. زيارة ميدانية للكتابة الصادقة

بعد مرور أسابيع على قراءته الخبر والتحقق من صحته قام “ماهاديفان” بنفسه بزيارات ميدانية للحقول، وقد قابل خلالها عاملات تعرضن لعمليات الاستئصال، وبناء على ذلك قرّر نقل ذلك الواقع إلى الشاشة بفيلم روائي طويل يُصور فيه المشهد الحقيقي للقرية الهندية، مدفوعا بالرغبة لكشف ممارسات أصحاب شركات صناعة السكر غير الإنسانية.

وذلك من دون خوف بأن يتحول فيلمه إلى نسخة وثائقية من الواقع المعاش، فهو الخبير بنقل قصص الواقع الهندي القاسي، ويعرف بأسلوبه المتفرد كيف يجمع بين التوثيق الصادق لها، وبين السرد الروائي الممتع والمستوفي لشروط الكتابة السينمائية.

“ساغونا”.. من فصول الجامعة إلى حقول القصب

يضع سيناريو “مُرّ.. حلو” الشابة “ساغونا” (الممثلة أكشايا غوراف) في بؤرة الحدث، ومن خلال نقل تفاصيل ما يحيط بها يُكمِل تصوير المشهد التراجيدي لآلاف من العمال الفقراء القادمين من القرى إلى حقول قصب السكر، وذلك للعمل بأجور قليلة ليس لهم مصدر للعيش غيرها.

في المشهد الافتتاحي يظهر العمال وهم يجلسون في عربة مكشوفة يجرّها “تراكتور” زراعي، وذلك في طريقهم إلى الحقول المكشوفة الخالية من أبسط مستلزمات العيش العادي.

في الحقل تركز الكاميرا على الشابة وهي تقطع قصب السكر بيد غير ماهرة، فهي لم تتعود على العمل في الحقول، ومن مسار الحكاية يتضح أنها طالبة جامعية اضطرت إلى قطع دراستها والالتحاق ببقية عائلتها للعمل، بعد أن بات الأب بسبب مرض “الربو” شبه عاجز عن إنجاز العمل من دون مساعدتها.

الممثلة “أكشايا غوراف” التي قامت بدور الشابة الجامعية “ساغونا” التي تترك دارستها لأجمل العمل في حقول القصب

 

بيئة السكر المرة.. أحداث بسيطة وحوارات مكثفة

يميل فيلم “مُرّ.. حلو” إلى سرد هادئ ينقل التفاصيل من خلال أحداث بسيطة وحوارات مُكثفة بعيدة عن المباشرة، وبهذا الأسلوب المتقشف يريد صانعه تمرير ما يريد إيصاله من حقائق صادمة.

ففي الثلث الأول من زمنه يُحيط المُشاهِد بتفاصيل وظروف عمل قاطعي القصب القادمين من قرية بيد، ففي أكواخ يقيمونها على عجل من سيقان القصب ينامون، ويشربون من المياه المتسخة.

أما النساء فهن يُجبرَن على العمل خلال فترة الحيض، فأي انقطاع عن العمل بسببه يعني اقتطاع جزء من الراتب القليل المدفوع مُقَدما على شكل ديون على العمال سدادها مقابل قطعهم لأكبر كمية من القصب، وإلا فسيجبرون على استرجاع الدين كاملا.

بطلة الفيلم مسلتقاة على ظهرها خلال فترة حيضها، مما يعني انقطاعها عن العمل واقتطاع جزء من الراتب القليل المدفوع لها

 

موعد قدوم الحيض.. اقتراب ساعة الحقيقة الحاسمة

يعمل الفيلم على نقل الإحساس الطاغي بالخوف والخضوع لإرادات أباطرة إنتاج السكر، وعلى إيقاعه يمضي في رسم المشهد الداخلي لحياة “ساغونا” وعائلتها. حيث أن علاقتها متوترة بوالدها الذي يشعر بتأنيب ضمير إزاء ترك ابنته لدراستها، بينما تبدو علاقتها جيدة بوالدتها وأخيها العاجز عن حمايتها ويشعر طيلة الوقت بخذلانه لها وعدم تمكنه من حمايتها.

ثمة علاقات جانبية تتمثل بنساء مررن بتجارب الاستئصال، ويعرفن ماذا يعني اقتراب الدورة الشهرية للفتاة.

يبدو موعد قدوم الحيض كمعادل لاقتراب ساعة الحقيقة التي على الشابة مواجهتها، حتى وإن لم تتهيأ لها بشكل كاف. ذلك الترقب من احتمال وقوع حدث يُشيع في منجز الهندي “ماهاديفان” طاقة للتحفيز، ويمنح النص حيوية تبدد البطء الذي فيه.

الطبيب الفاسد في الفيلم الذي يحاول إقناع النساء الهنديات بإجراء عمليات استئصال لأرحامهن حتى يتمكن من ممارسة العمل بلا انقطاع

 

“الثعبان الزلق”.. أساليب الابتزاز لاستئصال الرحم

في انتظار اللحظة “المشؤومة” التي يظهر فيها عجز الشابة عن تكملة عملها، وبالتالي تهديد مصير العائلة بأكمله؛ يظهر دور “كارندي” (الممثل أنيل ناغاكار) مراقب العمل الذي يصفه العمال بالثعبان الزلق.

يعرف الثعبان متى يتدخل لإنجاز دوره كوسيط بين الحُيَّض وبين طبيب فاسد يحاول إقناعهن بإجراء عمليات استئصال الرَحِم حتى يتخلصن كليا من مشاكل الدورة الشهرية، وبالتالي يمكن لهن مواصلة العمل دون انقطاع، وذلك ضمانا لدفع الديون التي في ذمة عوائلهن.

هذا الابتزاز يجري بأسلوب ملتوٍ يشترك فيه أكثر من طرف، ويتستّر عليه أصحاب المصانع الذين يريدون مزيدا من العاملات من دون وجود ما يقطع تواصل عملهن الموسمي.

ذلك ما تنقله المَشاهِد التي تظهر فيها الشابة وهي تراجع عيادة الطبيب، وتشكو له من آلام تصاحب الدورة الشهرية، وتعجز بسببها عن الذهاب إلى الحقل.

بالتوازي مع هذا المشهد المؤلم ثمّة آخر مختلف بجواره ينبّه إلى وجود مسعى أخلاقي يريد التحقق من صحة الأخبار المنقولة عمّا يجري في الحقول ومحاسبة المسؤولين عنه.

هذا الطرف يمثله “ناجاركار” (الممثل سوريش فيشواكارما) الذي يعمل كمفتش في مؤسسة معنية بقضايا المرأة، وبعد حصولها على معطيات مُقلقة تشير إلى ارتفاع عدد حالات استئصال الأرحام بين العاملات في حقول قصب السكر؛ قررت إرساله للتحقق منها.

مشهد للأشغال الشاقة التي يمارسها الرجال والنساء في ولاية ماهاراشترا الهندية لأجل الحصول على المال القليل

 

بيع الأرحام للأغنياء.. بطل بسيط يقلق على ابنته

لا يقدم “ماهاديفان” المفتش “ناجاركار” في فيلمه كبطل “سوبرمان” بوليودي، بل على العكس من ذلك يظهر كأب يعاني من قلق على حالة ابنته الصحية التي بدأت كليتاها بالتراجع عن أداء وظيفتهما، فمرضها كان يشغل باله، ويفتر حماس فكرة ذهابه إلى الحقول.

هناك وجد المفتش واقعا يصعب تغييره لشدة تماسك المتنفذين فيه، فأباطرة صناعة قصب السكر الهندية -التي تُعَد الثانية في العالم بعد البرازيلية- يعدون أدوات دفاعهم عن التهم المنسوبة ضدهم بدهاء. حيث يصعب خرق تحصيناتهم أو دحض حججهم، لهذا كان يبدو مستسلما غير قادر على المضي أبعد من تسجيل ملاحظاته التي ينقلها مباشرة إلى مسؤوليه إثر جولاته بين الحقول، أو تلك التي يسمعها من العمال والعاملات.

لم يمنع وجود المفتش من ذهاب “ساغونا” إلى عيادة الطبيب لاستئصال رحمها بعد إدراكها خطورة ما قد ينجم عن رفضها القيام بذلك. وفي مشهد يُلخص الحال الطبقية في الهند، تظهر امرأة ثرية في عيادة الطبيب في انتظار إتمام صفقة الحصول على رحم الشابة الفقيرة، مقابل مبلغ كبير تدفعه للطبيب الفاسد.

حقول قصب السكرية في الهند بعد حصادها من قبل العاملات اللواتي أزلن رحهمن لأجل ضمان استمرارية عملهن

 

غفلة الحكومة الهندية.. غياب الرقيب وحضور الاستغلال

يُضيف “مُرّ.. حلو” إلى قائمة شخصياته أصحاب الشركات الأثرياء غير العابئين بمصير العمال، إضافة إلى وكلاء لهم يُديرون مصانعهم ويحرصون على استمرار عملها ضمانا لرواتبهم.

هناك أيضا المكان بوصفه بطلا، فتفاصيله الحقيقية أعطت للنص روحا وثائقية، وقرّبت المُشاهِد من المشهد الواقعي الذي تجري فيه جرائم لا تتدخل الدولة بما يكفي لوقفها أو الكشف عن مرتكبيها، حيث تبدو الحكومة مغيّبة فيه، والنظام الاستغلالي هو الحاضر.

يتجنب النص (كاتب السيناريو نفسه المخرج أنانت نارايان ماهاديفان) الوقوع في ثنائية الخير والشر، ويترك مساحة لحلول فردية صغيرة، تتمثل في نهاية الفيلم بدعوة المحقق للشابة المُستلبة الرحم للذهاب معه، لتكون بمثابة ابنة ثانية له، خوفا من فقدان ابنته الحقيقية، حيث يطرح عليها فكرة استكمال دراستها والخروج من جحيم الحقول.

النساء الهنديات اللواتي طلب منهن إزالة رحمهن لأجل العمل في حقول قصب السكر، فالفقر الذي أوصلهن إلى هذه الحالة

 

مشهد الفيلم السوداوي.. صرخة في وجه الأثرياء

يدين فيلم “مُرّ.. حلو” نظاما سياسيا كاملا يعجز عن التدخل ومنع الكوارث والانتهاكات الصارخة بحق النساء الهنديات اللواتي تنتزع أرحامهن من أجسادهن، ويُحرمن من نعمة الأطفال.

يبدو المشهد العام سوداويا مناقِضا لرغبة الحياة وديمومتها، رغم نقطة الضوء التي ظهرت في خاتمته، فمساره العام يشي بأوجاع ومظالم تُحيل النص إلى صرخة في وجه أثرياء الهند، واحتجاج ضد جورهم وظلمهم لفقراء شعب لا يقوى على المواجهة، فتغدو الحلول الفردية خلاصه الوحيد.

فنيا كان أداء الممثلين لأدوارهم مذهلا، وهو أداء عفوي يقارب الواقع، تجسّده الممثلة “أكشايا غوراف”، وكأنها خُلقت للدور الذي نُسب إليها. أما الاشتغال الإخراجي فهو مدهش في مزجه بين الواقع والخيال، أما بقية المفردات فكلها كرست مهاراتها لتقديم منجز بعيد كليا في مستواه عن سطحيات “بوليود” التي باتت تتسيَّد المشهد السينمائي الهندي منذ عقود ليست بقليلة.