من ممثل مرتبك إلى رئيس.. ظاهرة “ترامب” العجيبة في هوليود

د. أحمد القاسمي

هل كنا سنعرف “دونالد ترامب” تلك الظاهرة العجيبة لو لم يكن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؟ طبعا سيتعذّر ذلك على أغلبنا، فلولا ما تخلفه الانتخابات من صخب، ولولا مكانة أمريكا بين الأمم ما عرفنا تلك الشخصية الفظة التي سحبت من البيت الأبيض جلال الحكم ووقاره، وحكمت أعظم بلدان العالم بعقلية تلفزيون الواقع، فحولت المشهد الرئاسي إلى صدامات بين أقطاب الحكم وتبادل للشتائم، وحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة لتصفية الحسابات.

ولكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى عالم الشهرة والمال والأعمال والسياسة في أمريكا، فلقد ثبت أنّ للرجل صولات في كل ما يدير الرقاب ويوجه العدسات، ففضلا عن عالم المال وكواليسه المتشعبة كانت له قدم راسخة في تنظيم مسابقات الجمال وبطولات الملاكمة وبرامج تلفزيون الواقع، وامتلك فريقا لكرة القدم الأمريكية.

وما يعنينا مباشرة هو الصلات المتعددة بعالم السينما إنتاجا أو تمثيلا، فقد ظهر “ترامب” في عشرات الأعمال ممثلا أو شخصية رئيسة في أفلام وثائقية، ثم تحول بعد وصوله إلى سدة الحكم إلى شخصية تقلد في الأفلام الروائية والكرتونية، أو يتحدث عنها في الأفلام الوثائقية، حتى بات السؤال حول طبيعة صورته على شاشاتها وجيها. ولمّا كان الرجل شخصية اقتحامية تغزو مجالات الحياة جميعا، كثيرا ما تجاوزت هذه الصورة الشاشات الكبيرة إلى دنيا التلفزيون والإعلام عامة.

 

“الأشباح لا يستطيعون فعل ذلك”.. “ترامب” الممثل

رغم أن اسم “دونالد ترامب” ذيّل أسماء فريق العمل في عدد من الأفلام أو المسلسلات، فإنه لا يقدّم عند عرض سيرته باعتباره ممثلا سينمائيا كما كان يحدث مع الرئيس “رونالد ريغن” حاكم الولايات المتحدة في الثمانينيات، أو مع “أرنولد شوارزينيغار” حاكم كاليفونيا السابق، فقد كان ظهور “ترامب” في أغلب الأفلام سريعا جدا لا يؤثر في مسار الأحداث، ولم يكن غيابه يشكل خسارة لها أو إرباكا لأحداثها.

ولنقل باطمئنان إن هذا الظهور كان ضربا من التوقيع الخاص أو “الكاميو” (Cameo) الذي يعني عبورا خاطفا لأحد المشاهير على الشاشة لغايات غير فنية في مختلف الأحوال، وممن اشتهروا به في أفلامهم المخرج البريطاني “ألفريد هيتشكوك”، فيكاد يوقع جميع أفلامه بمرور سريع بين العابرين.

أما في الأفلام العربية فلنا أن نذكر على سبيل المثال المخرج المصري يوسف شاهين، أو المخرج التونسي النوري بوزيد، فكلاهما تسلّل إلى الشاشة في بعض أفلامه.

أما “ترامب” فتتفق المصادر على أنّه ظهر لأول مرة على الشاشة الكبيرة في فيلم “الأشباح لا يستطيعون فعل ذلك” (1989) الذي أخرجه “جون دارك”، ولا شك أنه ما كان سيحظى بشرف الاشتراك في إحدى لقطاته مع النجم “أنتوني كوين” لو لم يكن المنتج المنفذ للفيلم، وقد كان ارتباكه جليا، وكان متعثرا يتخلص الحوار تخلصا بدل أن يمثل الدور ويعيشه.

أما ظهوره الثاني فكان ضمن الحلقة الثانية من السلسلة “وحيدا في المنزل” (1991)، حيث يصل الفتى “كيفن” إلى نُزل، ويسأل أحد المارين في ساحته عن مكتب الاستقبال، وبالصدفة يكون هذا المار “ترامب” مالك النزل وقتها. ويظل الأمر نفسه يتكرر بصيغ متقاربة وإن أخذ حيّز ظهوره يتوسّع شيئا فشيئا، كما في “عبر بحر الزمن” (1995) أو “أودي”(1996) أو “الشريك” (1996).

هل كان “ترامب” يحتاج مثل هذا الظهور وقد تحوّل وقتها إلى شخصية مرموقة في سلّم الثروة والجاه؟ هل هي الرغبة في عرض الذات إرضاء لغرور شاب وسيم معتدّ بذاته؟ لا ننفي هذا المذهب في الفهم، لكن الأيام ستثبت لاحقا أنّه يتصيّد كل المنصات التي تعرضه للجمهور العريض، وأنّ غاياته تتجاوز نزوة ثري يعوّل على محفظة أمواله ليظفر بلقطة أو لقطتين على شاشات هوليود.

 

تلفزيون الواقع.. تجسيد رجل الأعمال الناجح

كان لدى “دونالد ترامب” حضور في الأفلام الوثائقية باعتباره شخصية تحاور فتدلي بمواقفها، مثل “البطاطس الصغيرة.. من قتل رابطة كرة القدم الأمريكية؟” للمخرج “مايكل تولين” (2009)، وهو وثائقي رياضي يعرض مستقبل رابطة كرة القدم الأمريكية بين الازدهار والتقهقر، انطلاقا من مقارعة تصور مالكين هما “دونالد ترامب” الذي يريد أن تجرى المواجهات خريفا، و”جون باسيت” الذي يرغب في إجرائها ربيعا.

أما فيلم “بوم ويندرفول يقدم أعظم فيلم تم بيعه على الإطلاق” (2011) للمخرج “موغن سبيرلوك”، فقد طرح علاقة الإشهار غير المباشر بالأفلام، ويشرح كيفية دسّ العلامات الإشهارية أو الدعاية في مسارب خفية من الفيلم، وكيفية الوصول إلى خزائن مستشهرين، حيث كان “ترامب” مُحاوَرا رئيسيا من بين المستجوبين.

لكن الظهور المميز الذي أكسبه الخبرة في مخاطبة الجمهور العريض وفي الارتجال ودرّبه على بسط سلطانه على الفضاء كلّه وأشبع رغبته في عرض نفسه على الملأ، ونحت شخصيته التي نرى في أدائه الرئاسي اليوم، وبفضله نال نجمته على ممر الشهرة في هوليود بلوس أنجلوس؛ كان في برنامج تلفزيون الواقع “المبتدئ”، فقد كان ينتجه للقناة “إن بي سي” (NBC) ويستضيفه في نزل له.

ويقوم تصوّره على إشراف أحد مشاهير عالم الأعمال على اختبارات عديدة ومتنوعة لتشغيل موظفين مبتدئين، ويجري الفرز تدريجيا بالتخلي عن أضعفهم أداء، ثم يحظى الفائز في آخر الموسم بعقد عمل ضخم في إحدى شركات رجل الأعمال هذا، ورغم التنويع في شكل البرنامج كل موسم، فإن جوهر الفكرة يظل هو نفسه، حيث لم يكن رجل الأعمال الناجح في النسخة الأمريكية غير “ترامب” نفسه. ولنجاحه الكبير في الدور روجت نسخ من البرنامج في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأستراليا، ونشطها رجال أعمال محليون.

 

“فن الصفقة”.. وجه “ترامب” الآخر في السينما

بالموازاة مع “الأفلام الصديقة” ظهرت أفلام وثائقية عامة متوجسة من هذا الصعود السريع، فأخذت تسلط الضوء على الوجه الآخر لرجل الأعمال الناجح الذي أضحى مدار وسائل الإعلام، ويستوطن صفحاتها الأولى بسبب تنامي ثروته المذهل، وتأسيسه لإمبراطورية مالية كبيرة، وبسط سلطاته على عالم المقاولات، وإشرافه على مسابقات ملكات الجمال وكرة القدم الأمريكية.

فمدار الوثائقي “ترامب ما صفقة؟” (1991) على مقابلات مع ضحايا مقاولاته، فالفيلم يردّ ضمنا على سيرة “ترامب” الذاتية الصادرة سنة 1987 بعنوان “فن الصفقة”، والمحققة لنجاح تجاري كاسح وقتها.

يثير الفيلم أسئلة حول سلامة معاملاته المالية، ومدى نفوذه وتحكمه في السياسيين وفي نظام الضرائب للحصول على امتيازات جبائية غير مستحقة، ويكشف أسلوبه في التعامل مع موظفيه، فقد كان يكافئهم بالطرد وعدم دفع الأجور. ويشير الفيلم إلى صفقاته مع رجال العصابات والمخدرات، ويلمح إلى دور ما في ذلك لأخته التي كانت تعمل في وزارة العدل قبل أن تُعيّن قاضية فيدرالية.

 

“لقد وقعت في الفخ”.. سيرة ذاتية ساخرة

يمثل “لقد وقعت في الفخ” (2011) الفيلم الثاني الذي أردناه عينة لصورة “ترامب” في السينما، فقد أخرجه البريطاني “أنتوني دبليو جيه باكستر”. وعرض بناء مقاولاته لملعب غولف فاخر على شاطئ بالميدي بأسكتلندا، وما ألحق من ضرر بالسكان المحليين الذين توجهوا للقضاء لاستعادة حقوقهم.

ويكشف الفيلم تواطؤ السلطات القضائية والحكومية الأسكتلندية معه على حساب مصالح المواطنين وصمتهم على تجاوزاته القانونية. وجدير بالملاحظة تلك التورية في العنوان في صيغته الإنجليزية (You’ve been Trumped) فالمخرج يحوّل التشابه في الجرس الصوتي بين اسم “ترامب” وفعل (To trumper) إلى تشابه دلالي.

أما فيلم “دونالد ترامب فن الصفقة” فهو محاكاة ساخرة للسيرة المذكورة سابقا، فيزعم الفيلم في عملية خداع فنيّ أنه يقتبسها. ومنح الممثل “جوني ديب” دور “دونالد ترامب”، ويبدأ الفيلم في عام 1986 فيدخل صبي صغير إلى مكتب “ترامب” ومعه نسخة من هذه السيرة، وفي تلك الأثناء يتلقى “ترامب” مكالمة من “ميرف جريفين” الذي يرفض بيعه كازينو ومنتجع تاج محل في “أتلانتيك سيتي”، ويأخذ في عرض قصته الشخصية على الصبي الصغير.

ويقسم الفيلم إلى فصول كما الكتاب، فمنها فن التنمر على المستأجرين الخاضعين للسيطرة الإيجارية، و​​فن دعاوى التمييز الكاذب، وفن متابعة الخاسرين في اتحاد كرة القدم الأمريكي، وفن الزواج من مهاجرة جميلة، وفن بناء برج “ترامب”. وبانتهاء الفيلم يوافق على بيع الكازينو والمنتجع، فكانت الفصول تعرض وجوها من حياة “ترامب” المالية غير السليمة.

 

“أين عزيزي روي كوهن”.. محامي “ترامب” الذي يفتخر بقذارته

نجد في “أين عزيزي روي كوهن” و”لتكسبني.. روجير ستون” عينتين دالتين تكفياننا تقليب النظر في الأفلام الكثيرة التي تجعل “ترامب” موضوعا لها بطريقة مباشرة أو بطريقة عرضية، ولا يفوتنا أن نوضح أن الأحكام القيمية السلبية التي ندرجها هنا هي أحكام تطلق من قبل عينتنا المنتخبة نفسها.

يعرض فيلم “أين عزيزي روي كوهن” شخصية “روي كوهن” الذي يهيمن على الإعلام، ويحوّل الساسة إلى دمى يحركها كما يريد، ويرد ذكر “ترامب” في سياق إبراز سطوة هذا المحامي ونفوذه وقذارته التي يفتخر بها، ويمثل محورا هاما من محاور الفيلم، فيفصل أطوار مساعدته له لتجاوز القانون وبسط سلطاته على الدولة والتهرب الضريبي، وهو الذي يتسلّى بملاعبة قوانين الدولة انتقاما منها لأنها تخلت في أزمة 1929 عن اليهود، وجعلت بنكهم يُفلس، فلحِق بعائلته العار وسُجن عمّه،  فكان يتخذ من العبارة “مت وأنت مدين بأكبر قدر ممكن بمصلحة الضرائب” شعارا له.

وكان بناء برج “ترامب” ثمرة لهذا التعاون القذر، فقد وظف “ترامب” شركات غير مؤهلة، واستغل وضعية 200 عامل بولندي من المهاجرين غير الشرعيين، فاستخدمهم في أعمال بنائه ولم يدفع لهم رواتبهم، وعقد الصفقات مع رجال المافيا والمخدرات لتزويده بالخرسانة التي يسيطرون على تجارتها، وقد وقع هذا كلّه برعاية “روي كوهن” ومهارته في ملاعبة القوانين، وذلك وفق قاعدته “لا تقل لي ماذا يقول القانون، بل أخبرني من يكون القاضي؟”.

“روجير ستون” يراقب أداء “دونالد ترامب” في الكواليس أثناء حملته الإنتخابية عام 2016 باعتباره كبير “ترامب” الذي علمه السحر

 

“لتكسبني روجير ستون”.. كبير “ترامب” الذي علمه السحر

أما الفيلم الثاني فعنوانه “لتكسبني روجير ستون”، و”ستون” هذا رجل مكيافيلي مجنون، ويمثل أحد أهم لوبيات الضغط السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، ويستمد مجده من فضيحة “ووتر غيت”، فقد كان وقتها أصغر أعضاء حملة الرئيس “نيكسون”.

وبدل أن يُدمّر مستقبله السياسي انتهز الفرصة واستثمر سمعته السيئة لفرض نموذج جديد للحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويقدمه الفيلم على أنه منظّر للسياسة الجمهورية الحالية التي تعادي النخبوية وتميل إلى الشعبوية، وتخالف قواعد اللعب السياسي النزيه بتصميم مسبق، وتفهم السياسة على أنها استعراض للأشخاص البشعين، فمن قواعده “من الأفضل أن تكون سيء السمعة على أن لا تكون لك سمعة أصلا”، ومنها أيضا “لا تُهادن أبدا، لا تعتذر مطلقا، هاجم باستمرار”، ومنها “لا عيب في استخدام الرعب”.

وكثيرا ما تشدّق “ستون” بتوظيف المعلومات المضللة وابتكار الخدع لإلحاق العار بالخصوم وإيقاعهم في الفخ، أو بالتحايل على القانون دون الوقوع تحت طائلته. وكان “روي كوهن” هو من عقد له الصلة بـ”ترامب”، فجرّه إلى عالم السياسة وأقنعه بخوض الانتخابات وخطّط لحملته الانتخابية، ورغم أن “ترامب” كان يمثل شخصية كريهة عند المحيطين به، فإن “روجير” رأى فيه السياسي الذي سيحبه الأمريكيون، والجواد الذي يمكنه أن يراهن عليه، فقد كان يتابعه في تلفزيون الواقع عبر برنامج “المبتدئ”، ولاحظ فيه “القدرة على الإدارة والتوجيه والحسم عند الضرورة والتصرف بشكل رئاسي”، فأعاد عبره بعث الروح في الشعارات التي رفعها “رونالد ريغان” حول الحلم الأمريكي، وجعله يعلن أن هذا الحلم قد مات، وأنه عند انتخابه سيعيد إحياءه من جديد، بل سيجعله أكبر وأقوى وأفضل من أي وقت مضى.

يكشف الفيلمان إذن مسار صعود “ترامب” إلى السلطة وطريق الخداع والتضليل الذي سلكه، فقد جمعت بين هذا الثلاثي منافع متبادلة، فاشتركوا في أعمال غير قانونية، ثم تحوّلت العلاقة بينهم من البحث عن أقصر السبل لمضاعفة الثروة إلى تشكيل أسلوب جديد في ممارسة الحكم، يتقاطع مع صورة الجمهوري الطيب واللطيف التي أسسها “إيزنهاور”.

فشكلوا مثلثا مثل “روي” و”روجير” قاعدته وشكلاها من الدهاء والجرأة على القانون، ومثّل “ترامب” القمة حيث سلطة المال، فألقوا بقواعد اللعب السياسي النظيف في المزبلة، وتعاونوا على النزول بالممارسة السياسية إلى قاع المجتمع في علم تُهيمن عليه المثلية والعلاقات الجنسية والانحراف، وتشكيل لوبيات الضغط واستخدام المال الفاسد، مؤمنين أنّ المال يشتري الجميع، ودعوا إلى الفصل بين الأخلاق في السياسة، وأعلنوا بسفور “سنقاتل بقذارة وسنفوز”.

 

“ترامب” وهوليود.. تعاون مثمر رغم أشواك العداء

لقد غذّى “ترامب” شره هوليود للمال، فلم تتوان عن تقديم بعض الرشاوى لعابر ثري مغرم بعرض ذاته، وسمحت له بمساحات على شاشاتها، ولم تكن تعلم وقتها أن الرجل إمبريالي توسعي، فحالما وضع قدميه هناك أخذ يبسط سلطانه على المشهد البصري بأسره، ويستحوذ على فضول المتفرّج، فالشعور بالخيبة والخديعة عنصر مهم يساعدنا على فهم علاقة العداء اليوم بينهما.

لكن هذا العامل لا يكفي مطلقا لتحليل الظاهرة بأسرها، فالقصّ في معناه العميق حفر في المنظّم والهادئ وقوعا على التيارات الجارفة تحت صفحة الماء المستقرّة. وعالم “ترامب” يمنح هذه الفرصة المثالية للقصّ، فكل ما فيه مرتّب أحسن ترتيب: ثراء وجاه وجمال ونجاح، لكن تحت السطح ما تحته من الفضائح والصراعات القضائية والجدل.

ويصادف هذا العالم ظهور موجة من المخرجين التقدميين الذين باتوا يضيقون ذرعا بسياسات أمريكا المتعجرفة العنصرية التي تهتك كل القيم، ولا تنتصر لغير قيمة المال، ويجدون في “ترامب” ممثلها الأول، ولعل فيلمي “أخوة الدم” و”بلاك لنزمن” للمخرج “سبياك لي” أبرز مثال للتعريض بعنصريته ونقد أدائه السياسي.

لقد انتهى الأمر بالطرفين رغم هذا العداء إلى نتيجة مفارقة، وإلى تواطؤ مضمر وتعاون غير معلن، فالرجل أضحى مصدر إلهام، تقدمه الأفلام الروائية بشكل ساخر، وتستمد الأفلام الوثائقية من سياساته المواضيع الناقدة الجذابة، ولم تخرج أفلام الكرتون بجراب فارغ، فجعلته شخصية مركزية في أكثر من عمل.

“دونالد ترامب” يقسم أمام المحكمة أن محاميه “روي كوهن” يتمتع بسمعة جيدة في المجتمع أثناء محاكمته التي انتهت بطرده من نقابة المحاماة

 

“لا تُهادن أبدا، لا تعتذر مطلقا، هاجم باستمرار”

كان “ترامب” على وعي شديد بخطورة الصورة التي ترسمها له السينما، ويستحضر قاعدة معلمه “روجير ستون”، ويفضّل أن تجعله هذه الأفلام سيء السمعة على أن لا تكون له سمعة أصلا عندها، فقد كانت السينما تغذي شهوته لعرض ذاته، وفي الوقت نفسه شكلت مرآة خولت له إدراك شخصية قوية عظيمة انطلاقا من شاشتها، وخوّلت له أن يخرج هذه الهوية من إستيديوهات تلفزيون الواقع، وأن يتقمّصها في الواقع نفسه.

وشتان بين المشاهد الأولى التي كشفت عن رجل خجول متعثر وأدائه أمام الكاميرا، أو أمام الجمهور في الخطابات لاحقا، أو استقباله لضيوفه من الرؤساء. فقد تحوّل إلى شخصية اقتحامية تهيمن على الفضاء بإيماءاتها المبالغ فيها، وحركاتها المسرحية العريضة ومصافحاتها الشديدة التي تستعرض القوة بشكل فظ، ويعكس تضخّم إمضائه في هذه المرحلة تضخما يكاد يستغرق الصفحة بأسرها مدى الشعور بالعظمة.

ولهذه الهوية نظير في حياته المهنية، فهي امتداد لاستثماره في الرياضات العنيفة كالملاكمة ورياضة الكاتش وكرة القدم الأمريكية، ويتخذ هوس العظمة والقوة شكلا معماريا من خلال عمله على بناء الأبراج الضخمة والتباهي المستمر بها، وليس المعطى الشكلي مسألة شكلية مطلقا، ففيها جوهر المعنى.

وانطلاقا من تجسيده لمظاهر العظمة رمزيّا تشكلت هويته السياسية، فقد جعل شعار حملته “لنجعل أمريكا قوية ثانية”، وكانت سياسته في البيت الأبيض تكريسا للرئيس الجسور الذي يفعل ما لم يستطعه الأوائل، فيضخم من ميزانية الجيش، ويشرع في بناء الجدار العظيم الذي سيفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، ويحنّ إلى اختراق القوانين، وإلى إعطاء ما لا يملك إلى من لا يستحقّ، فيتحدى القانون الدولي وينقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وينذر بالحروب التجارية هنا أو هناك، ويمشي طويلا على حافة الحروب العسكرية.

“لا تهادن أبدا، لا تعتذر مطلقا، هاجم باستمرار، حوّل الفضاء السياسي إلى ركح جديد لعرض جنون عظمتك وغطرستك، واصطدم إرضاء لنرجسيتك بكل من يختطف منك شيئا من الأضواء، بما في ذلك روجير ستون صانعك”.

تلك قاعدة “ترامب” المطورة من إرث معلمه، وقد جعلت منه نرسيسا أمريكيا يدمن عشق صورته على شاشات هوليود وفي عيون معجبيه، ولا شك أنه يعلم أن نرسيس الأسطورة الإغريقية الذي عشق صورته المنعكسة على صفحة الماء انتهى إلى الهلاك من فرط عشقها، ولا شكّ أن فارق النقاط التسع الذي يفصله عن منافسه الديمقراطي “جو بايدن” في تاريخ كتابة هذه المقالة، يقض مضجعه ويجعله يحذر هلاكا سياسيا محدقا.