“جحيم في منطقة النعيم”.. يوم أزاحت النار فردوس كاليفورنيا من الخريطة

عبد الكريم قادري
يعد من أكثر الحرائق فتكا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ مئة سنة، حيث خلّف 85 قتيلا ودمّر عشرات الآلاف من المنازل التي أصبحت رمادا، فقد حوّلت الحرائق 622 كيلومترا مربعا من شمال كاليفورنيا الخضراء إلى قاع صفصف، وبين ليلة وضحاها أصبح الآلاف بلا مأوى أو منازل، لتتحول بلدة “باراديس” الجميلة إلى جحيم لا يُطاق، فما الذي حدث في ذلك الخميس الشاحب يوم الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018؟
وثّقت منصة نتفليكس العرض العالمي لكارثة طبيعية أسالت الكثير من دموع الألم والحسرة جرّاء الخسارة والفقد في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتعلق الأمر بالحريق الذي شبّ بمنطقة “باراديس” الواقعة شمال كاليفورنيا، وقد جاء هذا التوثيق من خلال نتفليكس عن طريق إنتاج فيلم وثائقي بعنوان “جحيم في منطقة النعيم” (Fire in Paradise)، عرضته في الثلث الأخير من سنة 2019 بعد مرور سنتين من وقوع الكارثة.
إخلاء المنازل.. الموت القادم من ألسنة اللهب
قام بإخراج الفيلم “زكاري كانيباري” و”دريا كوبر”، وأعادا من خلاله إحياء الألم بأثر رجعي، وذلك بالعودة إلى الأشخاص الذين كانوا طرفا مباشرا في هذه الواقعة، حيث عبروا -من خلال المقابلات التي أجريت معهم في الفيلم- عن الرعب الذي عاشوه مع أحبتهم وأقربائهم وجيرانهم ومعارفهم، سواء هؤلاء الذين كانوا يعملون في الحماية المدنية، أو ممن كانوا شهودا وأطرافا عايشوا الكارثة وتجلياتها.
وذلك خاصة من المدرسين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بألسنة اللهب في حافلات النقل المدرسي مع العشرات من تلاميذ المدارس، بينما تنتقل النيران بسرعة مخيفة وغير مألوفة نتيجة الرياح القوية التي ساهمت في إذكائها وانتشارها، مما جعل أمر السيطرة عليها شبه مستحيل، الأمر الذي حتّم على مركز الحماية المدنية عدم الاستجابة إلى طلبات المواطنين للتنقل لهم وإنقاذهم من النيران التي تحاصرهم، فقط كانوا يقدمون لهم النصائح بضرورة ترك البيت والذهاب إلى الأماكن التي يرون بأنها آمنة.

ولدت هذه الفوضى كثيرا من الذعر والخوف، حيث وجدت الشرطة وعناصر الحماية المدنية وآلاف العائلات أنفسهم عالقين في زحمة الطريق وسط السيارات، يشاهدون النيران وهي تأتي على أملاكهم وبيوتهم وسياراتهم وأحبتهم، وأكثر من هذا فقد باتوا يرون الموت وهو يرتدي اللهب، ويقترب منهم ليقبض أرواحهم من أجسادهم المرتعشة.
يوم الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني.. يوم الألم
جاء مُستهلّ الفيلم الوثائقي “جحيم في منطقة النعيم” معبرا عن الجوّ العام الذي كان سائدا في صبيحة يوم الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، حيث نقل المناظر الطبيعة الخلابة في المنطقة التي تحيط بالبلدة، وهي مساحات خضراء ممتدة، أشجار باسقة تزقزق حولها العصافير، بيوت جميلة من الخشب مبنية بشكل منسق، شوارع نظيفة ومنظمة، مما يوحي بأهمية هذه البلدة التي أسست سنة 1979، كي تكون ملاذا نفسيا آمنا للمتقاعدين، لهذا فإن أغلبية سكان هذه المنطقة من كبار السن.
بعدها نقل الفيلم بعض المشاهد الملتقطة بالهاتف المحمول التي جرى تصويرها بهواتف السكان قبل الحادثة، حيث نرى ونسمع صيحات الأطفال وضحكات الأهل ولعبهم، فقد أراد المخرجان أن ينقلا للمشاهد إحساسا بأن سكان المنطقة كانوا يعيشون يومهم بشكل عادي جدا، وقد أكد هذا الشعور بعد أن انتقل من المواد البصرية الموثقة إلى الشهود الذين كانوا جزء من هذه الواقعة، وكأنهما يقومان بتهيئة المتلقي لما هو آت، بتقديم جرعات من الألم وشعور الضعف والخوف وعدم السيطرة، حتى يجعله يسافر إلى الحادثة ويتوحّد معها، ليحس بآلام الآخرين وفقدهم.

كما أن مؤشر تفاعل الشهود مع الوقائع بدأ في الصعود، وفي لحظة قصيرة أصبحت طريقة كلامهم وسردهم لما حدث معهم مليئا بالمشاعر الإنسانية التي تعكس معنى أن يكون الإنسان قريبا من الموت، وقد أكثر المخرجان من مقابلات الشهود من عناصر الحماية المدنية والشرطة والسكان والمدرسين، ليكون وقع التوثيق أكثر صدقا ويسهل تلقيه من الجمهور، لكن في الوقت نفسه حافظ على سلاسة الانتقال من شاهد إلى آخر ومن مشهد لمشهد، حتى لا يكون هناك أي إحساس بأن المنتج الوثائقي هو قريب من التقرير التلفزيوني، أي أن المونتاج والحسّ الانفعالي في الفيلم ساهم في خلق هذه السلاسة وتوفير شروط التقبل لدى الجمهور، ووضعه في التصور العام لما حدث.
مزاوجة الوثائق.. بركة فنية من التشويق والإثارة
استطاع المخرجان “زكاري كانيباري” و”دريا كوبر” أن يوظفا وثائق سمعية بصرية مهمة عن الحادثة، وقد استغلاها بشكل ذكي في الفيلم، حتى أنها (أي الوثائق) سهّلت من عملية التدرج الزماني والمكاني بعد أن أحسن المخرجان توظيفها، مما خلق في العمل منطلقا روائيا مهما يؤازر ويقوّي المنطلق التسجيلي.
هذه المزاوجة التوثيقية المهمة انشطرت منها جماليات عن طريق السرد المتواتر، وفي الوقت نفسه من خلال حُسن توظيف الشهود بعد أن توصل الفيلم إلى عواطفهم وأحاسيسهم من الحادثة، مما سهّل من عملية التقبل لدى الجمهور الذي من المؤكد أنه التحم مع ما جرى بثه، خاصة الإثارة التي صنعها تلاميذ الحافلة بعد أن وجدوا أنفسهم محاصرين بالنيران من كل جهة، وقد أغمي على البعض من الحرارة وصعوبة التنفس، مما حتّم على السائق أن ينزع قميصه ويقدمه للمدرسة التي قامت بنقعه في الماء وتوزيعه على التلاميذ، ليصنعوا منه أقنعة تصفّي الهواء وتساعدهم على البقاء في وعيهم.

قسّم المخرجان هذا المشهد إلى عدة أقسام، لتوزيعها على مفاصل الفيلم، خاصة وأنه جرى دعمها بشهود عيان، منهم المدرسة التي أعادت سرد تلك الأحداث بطريقة مؤثرة وعاطفية للغاية، ومن هنا جعل المشاهد يغرق في بركة من التشويق والإثارة أجبرته على تتبع تفاصيل الفيلم، والوقوف على الفاجعة بشكل أوسع وأشمل، ليصبح هو الآخر -أي الجمهور- شريكا أساسيا في أحداث الواقعة، لأن مشاعره تداخلت مع مشاعر الشهود ومشاعر المفقودين، أي مشاعر الضحايا بشكل عام، من هنا يكون قد عاش الألم بأثر رجعي.
صور الحزن والمآسي.. توثيق الماضي واستشراف المستقبل
نزح أكثر من 50 ألف ساكن ممن كانوا يقطنون بلدة “باراديس” إلى البلدات المجاورة، لتصبح هذه القطعة الجميلة من الأرض فيما بعد جحيما لا يمكن أن تراه العين دون أن تدمع، حيث انتشلت عناصر الحماية عشرات الجثث المتفحمة التي لم يتعرف على هويتها، في مشاهد أقرب ما تكون إلى السريالية، حيث ترى جثة شاب مع أمه المسنة وهما متفحمان في السيارة، ولم تسمح لهما النيران بالهرب، أو ترى قطعة هيكل عظمي تحيل إلى آدمية صاحبها.
كل تلك السكنات والشوارع الجميلة لم تعد موجودة، لا شيء أكثر من مربعات من الرماد المتراكم هنا وهناك، تلك النيران القوية التي غذّتها الرياح لم تسمح للكثير من النازحين حتى أخذ الأشياء المهمة، كألبوم الصور مثلا كما قال أحد الشهود، بمعنى أن صور الحزن والمآسي كانت موجودة بقوة، ولا تزال آثارها الجانبية موجودة إلى اليوم، بحكم أنه يصعب ترميم شعور الفقد والألم.
فيلم “جحيم في منطقة النعيم” من الأفلام المهمة التي توثق للكوارث وسيرها، لتكون مرجعية مهمة لكل من يقف عليها ويحتاجها، سواء من الجهات الحكومية التي ستجده كمرجع مهم تعود له حتى تتعامل بشكل أذكى مستقبلا مع كوارث مشابهة وتتجهز لها، أو من الجمهور حتى لا ينسى هؤلاء الذين ماتوا أو فقدوا منازلهم ومدارسهم وأشياءهم الثمينة التي فقدوها في لمح البصر، وقد عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان تيلورايد السينمائي، كما فاز بجائزة الجمهور في مهرجان هامبتونز السينمائي الدولي.