“إلى أين تذهبين يا عايدة؟”.. بوسنية تكافح لإنقاذ عائلتها من جرائم الصرب

عدنان حسين أحمد

تخلق المخرجة البوسنية “ياسميلا زبانيتش” بصمتها الخاصة ونبرتها المتفرّدة التي تُحيل إليها مباشرة وكأنها علامة مسجّلة باسمها لا يخطئها المتلّقي الذي سبق له أن شاهد “غربافيكا.. أرض أحلامي” أو “من أجل أولئك الذين لا يستطيعون أن يرووا حكاياتهم”، وكأنها قد تخصصت في حرب البلقان وما رافقتها من مجازر وحشية تقشعر لها الأبدان.

تماما كما حدث في فيلمها الأخير “إلى أين تذهبين يا عايدة؟”، هذا العنوان المُعبِّر الذي نحتتهُ بصيغته الاستفهامية لتضيّق بها الخناق شيئا فشيئا على بطلته المحورية وتجرّدها من أي رغبة في مواصلة الحياة بعد الفجيعة التي تعرّضت لها أسرتها مثل بقية الأسر البوسنية المسلمة التي أُبيدت عن بكرة أبيها، وقُدّر عدد ضحاياها بأكثر من 8 آلاف مواطن بوسني، مُحمِّلة فيه المسؤولية للجيش الصربي ومليشياته المنفلتة وللقوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة التي تمسك بالقاعدة العسكرية التي يفلت فيها زمام الأمور وتُترك لمشيئة القوات الصربية المتوحشة، لترتكب جريمتها النكراء من دون أن ترتعد لها فريصة أو يهتزّ لها جفن.

 

مواءمة الإخراج والكتابة.. نادية في معمعان المأساة البوسنية

في كثير من الأفلام يكون مُخرج الفيلم هو نفسه كاتب السيناريو الذي يريد قبل كل شيء أن يؤكد رؤيته الإخراجية على وفق القناعات الفكرية التي أسّسها في ذهنه بمرور الزمن، ولذلك يعمد إلى كتابة القصة السينمائية أو السيناريو حتى يرسم الخريطة الأساسية للفيلم، ويثبّت مسار الشخصيات منذ اللقطة الاستهلالية وحتى اللقطة الختامية.

وما تريده المخرجة البوسنية “ياسميلا زبانيتش” هو تسليط الضوء على الجرائم المروّعة التي ارتكبتها قوات صرب البوسنة بحق المسلمين البوسنيين “البوشناق” الذين قُتلوا بدم بارد ودفنوا في مقابر جماعية بعضها لم يُكتشف حتى الآن. غير أنّ كاتبة السيناريو ومخرجة الفيلم أرادت التركيز على قصتها السينمائية التي تمحورت على عائلة المترجمة ومدّرسة اللغة الإنجليزية عايدة التي برعت في تجسيدها الفنانة الصربية “ياسنا ديوريسيتش” وزوجها نهاد “عز الدين بايروفيتش” وولداها “حمديجا” و”إيغو”.

ورغم أنّ المحنة جماعية ولا تخصّ عائلة معيّنة، أو شريحة محددة من الناس، فإن عايدة كانت تسعى بشكل محموم على مدار الفيلم -الذي بلغت مدته 102 دقيقة- لأن تنقذ أسرتها من المصير المحتوم الذي سيواجهونه مثل بقية الضحايا الذين لا حول لهم ولا قوّة.

وبما أنها تعمل مترجمة مع القوات الأممية التابعة للأمم المتحدة فهي الأكثر علما بما تخبئه الساعات القادمة لهؤلاء المُواطنين العُزّل الذين تدفقوا من سربرنيتسا والقرى المجاورة إلى القاعدة العسكرية المَحميّة من قِبل القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة.

ألوف النساء البوسنيات المسلمات تعرضن للاغتصاب والقتل من قبل مجرمي الحرب والوحوش الصرب

 

ملجأ القاعدة الهولندية.. آخر مهرب من جحيم جرائم الحرب

يعتمد الفيلم في بنيته المعمارية على تقنية الاسترجاع ويبدأ من المدة المحصورة بين يومي 11-22 تموز/ يوليو 1995 وهي أيام المجزرة التي اكتملت فيها أركان الجريمة التي ارتقت إلى مستوى جريمة حرب، وجريمة إبادة جماعية ضد المسلمين البوسنيين الذين تراوحت أعمارهم بين 12 و77 عاما، كما تعرضت النساء إلى الاغتصاب والحطّ من الكرامة الشخصية، ناهيك عن فراق فلذات الأكباد والأزواج والأهل والأقارب.

يتدفق في اليوم الأول من الحدث قرابة ثلاثين ألف مواطن بوسني مسلم، بينما لا تتسع القاعدة لأكثر من ٥ آلاف مواطن تستطيع القواعد الهولندية أن توفر لهم الحماية والأمان بحسب تعهدات الأمم المتحدة.

وقد أخذت الاجتماعات مساحة كبيرة من الفيلم، لكنها وفّرت للمترجمة عايدة كمّا كبيرا من المعلومات التي لا تقبل الشكّ بأن الأسماء التي لا تُدرج في القوائم الرسمية سوف تتعرض إلى القتل والإبادة الجماعية، وقد فشلت كل محاولاتها المستميتة في إدراج زوجها وولديها في هذه القوائم، وكانت حجة المسؤولين أنهم لا يستطيعون التفريق بين مواطن وآخر، وهم يعاملون الجميع كأسنان المشط ولا يمكن لها أن تتميّز عنهم لأنها تعمل مترجمة لدى قوات الأمم المتحدة.

كان أداء عايدة متفردا لدورها، بل إنها هيمنت على الجميع وخطفت في نهاية المطاف جائزة أحسن ممثلة في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي، كما نال الفيلم بجدارة جائزة أفضل فيلم في المهرجان ذاته.

30 ألف مواطن بوسني مسلم لجأوا للقاعدة الهولندية التابعة للأمم المتحدة فرارا من بطش الصرب

 

مفاوضات الإجلاء.. محاولات فاشلة لإنقاذ العائلة

لقد نجحت المُخرجة “ياسميلا زبانيتش” في الإمساك بحالة الفزع التي كانت تنتاب عايدة في كل لحظة من لحظات الفيلم، وقد انتقل هذا الفزع إلى المشاهدين أنفسهم وكأنهم يواجهون مصيرهم المحتوم أيضا، وهذه إحدى سمات الفيلم الناجح الذي يجعل المتلقّين يتماهون في تفاصيله، ويصبحون جزءا من أحداثه ونسيجه السردي.

استطاعت عايدة أن تُدخل زوجها في الوفد المفاوض، لكن دوره ظل محدودا مثل محدودية دوري الولدَين الذين بدا أحدهما مُنهارا نفسيا، بينما ظل الآخر طبيعيا ومُستجمعا ما بقي له من شجاعة في مواجهة المحنة التي يواجهها الجميع. كان الأب يدوّن مذكراته الشخصية والعامة عن الحرب، الأمر الذي دفع زوجته عايدة إلى حرقها مع صور العائلة كي لا تشكّل دليلا على هذه الأسرة التي وجدت نفسها بين المطرقة والسندان، بينما تبحث عن بارقة أمل في نهاية النفق الذي دخلت فيه الأسرة برمتها مثلما دخلها الأهالي مُضطّرين.

يرتفع الخوف في بعض الحالات حينما نرى عايدة وهي تبحث عن مكان آمن لولديها ولا تدري أين تخبئهما في سويعات المحنة وإجلاء السكان المحليين الذين وردت أسماءهم من مصادر عليا، بينما فشلت عايدة في أن تنقذ عائلتها من هذا المصير المفجع.

الاجتياح الصربي للبوسنة خلف دمارا شاملا للمدينة ومقتلة عظيمة بين أهلها المسلمين

 

“وحدة العقارب”.. أوروبا تنفس عن أحقادها العرقية والدينية

على الرغم من وجود القوات الصربية وبعض الأفراد التابعين لـ”وحدة العقارب”، وهي مليشيا شبه عسكرية كانت متورطة في القتل والترويع في حروب البوسنة والهرسك وكرواتيا تنفس عن أحقادها العِرقية والدينية التي تطفح إلى السطح في زمن الحروب وغياب الدولة وتلاشي سلطة القانون؛ كانت المُخرجة مركزة على ظهور القائد “ريتكو ميلاديتش” وهو يداعب طفلة صغيرة لإظهار تعاطفه الزائف، بينما كان جنوده يعدّون العُدّة للمجزرة الجماعية المروّعة التي لا تفارق ذاكرة الناس في البلقان وغيرها من دول العالم.

فرار البوسنيين من سربرنيتسا تحت حماية الأمم المتحدة إلى حتفهم المقبل

 

خط الفيلم الزمني.. لفتات خاطفة من ماض مأساوي

كان الزمن في بنية الفيلم خطيا يسير بشكل مستقيم من الماضي إلى الحاضر، لكن المخرجة تعْمد إلى الارتجاع أو الاستعادة الذهنية حينما تحفّز عايدة إلى الرجوع إلى منزلها الذي هُجّرت منه واضطرت إلى تركه في ظرف خارج عن إرادتها، منزل يُذكرها بالماضي وبحياتها الأُسرية وبزوجها الذي يدوّن ذكرياته عن حروب البلقان، وعن ولديهما اللذين يحلمان بمستقبل واعد، وكأنّ لسان حالها يعيد السؤال الذي طرحته المخرجة وكاتبة السيناريو: إلى أين تذهبين يا عايدة؟

كل الطرق موصدة، وإذا غادرت بسلام فعليها أن تغادر بلا ذاكرة وأن تؤثث ذاكرتها الجديدة في زمان ومكان غريبين عنها وعن عينيها اللتين تلتهمان المكان القديم الذي تماهت في تفاصيله الصغيرة، وذابت فيه حتى أصبحت جزءا حيويا من العناصر المكونة له، وكأنها تشير إلى استحالة الحياة في مكان آخر غير سربرنيتسا.

مقابر جماعية وفردية للمسلمين العزل تملأ الأرجاء

 

مجازر البوسنة.. أمة تعيش حول بركان ملتهب

لم تسقط المخرجة في الأسلوب التقريري المباشر، بل أنقذت الفيلم ورفعته إلى مستوى عال في المشاهد الأخيرة من الفيلم حينما عزلت النساء عن الرجال كي يغتصبن ويقتلهن بشكل جماعي، ثم يقتل الرجال بمختلف الأعمار في أماكن لم يرها المُشاهد ولكنه كان يسمع صوت الرصاص بشكل متواصل.

هذا الأسلوب السمعي العاري عن المشهد البصري جعل المشاهد يتخيل فعل الاغتصاب والقتل، لأن المخرجة كانت تريد من المتلقي أن يكون متفاعلا مع الأحداث لحظة بلحظة، وضمنت بذلك شدّه إلى قصة الفيلم من دون أن يشعر بالاسترخاء، فظل متوترا طالما أن عايدة كانت منفعلة وخائفة ومذعورة طوال مدة الفيلم.

في هذه العائلة هناك من الخوف والتوتر ما يكفي لأن نتصور حجم الفجيعة التي حلّت بالمواطنين البوسنيين المسلمين الذين أبادهم الحقد الأسود وجعلهم أثرا بعد عين في تلك المضارب البلقانية التي كانت تعيش فوق بركان خامد تفجّر في لحظة مبهمة من سياق الزمن العتيد.

نساء بوسنيات يبكين ذويهن ممن قتلوا ظلما وعدوانا على يد الصرب

 

“غربافيكا.. أرض أحلامي”.. ابنة بطل الحرب المغتصب

تركز المخرجة “ياسميلا زبانيتش” في فيلم “عايدة” على القتل والإبادة الجماعية على الرغم من أنّ البطلة كانت تسعى للخلاص الفردي لها ولأسرتها، ولكنها في فيلم “غربافيكا.. أرض أحلامي” الذي أنجزته عام 2006 تسلّط الضوء حصريا على اغتصاب النساء البوسنيات من قِبل مفارز الـ Chetniks للجيش اليوغسلافي حيث استُعمل فعل الاغتصاب كعملية استراتيجية ممنهجة لإذلال النساء البوسنيات المسلمات والحطّ من كرامتهن.

كما أنّ المخرجة لم تقع في فخ الأسلوب التقريري أيضا، وعالجت فعل الاغتصاب من زاوية أخرى، فالفتاة سارة كانت تعتقد أنها ابنة بطل حرب، لكنها حين تكوّن علاقة صداقة مع سمير يتفاجأ حينما يكتشف بأنها لا تعرف ملابسات موت والدها. ينجح الطلاب جميعهم في البرهنة على أنهم من نسل أبطال الحرب ماعدا سارة التي تتلقى أجوبة غامضة، الأمر الذي يدعوها للضغط على أمها حتى تعترف بأنها تعرضت للاغتصاب في معسكر للسجناء، وأنّ سارة هي حصيلة هذا الانتهاك الجنسي، فتدرك أنها ابنة أحد الجنود الصربيين، غير أنّ هذا الاكتشاف سوف يساعدها على التقرّب من أمها التي تتخلص من الصدمة تدريجيا.

ومثلما لعبت “ياسنا ديوريسيتش” الصربية دور البطولة في فيلم “عايدة”، تلعب الفنانة الصربية “ماريانا كارانوفيتش” دور البطولة في فيلم “غربافيكا” وتتألق فيه، وتحصل على جائزة أحسن ممثلة من مهرجان بروكسل السينمائي، كما خطف الفيلم ذاته جائزة الدب الذهبي في الدورة الـ56 لمهرجان برلين السينمائي.

القوات الصربية ومليشياتها تحاصر المسلمين البوسنيين الذين لاذوا بالقوات الأممية

 

“على الطريق”.. عقبات الطريق تهز علاقة عمار ولونا

يتمحور فيلم “على الطريق” الذي أنجزته “ياسميلا” عام 2010 على طبيعة العلاقة بين عمّار ولونا، وهما من مسلمي البوسنة، وقد وقعا تحت تأثير الحرب البوسنية ففقد عمّار شقيقه في الحرب ورأت لونا مقتل والديها على يد مليشيا معادية للمسلمين.

وما إن ينتقل عمّار إلى حي تعيش فيه غالبية مسلمة حتى يتغير تغييرا جذريا لا يعجب لونا المنفتحة على الحياة الأوروبية، فتبدأ بالسؤال الأهمّ: هل الحب كافٍ لتجسيد السعادة الزوجية، أم أن هناك أشياءَ أخرى لم تستطع لونا أن تتلمّسها في هذا الوقت المبكر من تجربتها العاطفية؟

هل يمحو الزمان في قلوب أهل البوسنة ما فعله الصرب بهم؟

 

صراعات الحضارات في البلقان.. إلهام المخرجة

لا بد من الإشارة في خاتمة المطاف بأنّ “ياسميلا زبانيتش” قد كرّست جزءا كبيرا من تجربتها الفنية للحرب البلقانية بما انطوت عليه من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، كما تناولت موضوع الاغتصاب كأسلوب ممنهج اتّبعته القوات الصربية ومليشياتها المتطرفة التي اغتصبت عشرين ألف امرأة بوسنية مسلمة.

كما ركزت المخرجة على حياة الشريحة البوسنية المسلمة وتفحصتها عن كثب وتابعت تأثير المفاهيم الأوروبية على البعض من أفراد هذه الشريحة التي تحاول التمسك بعاداتها وتقاليدها وقيمها الإسلامية العريقة.

ومن الجدير بالذكر أن المخرجة “ياسميلا زبانيتش” قد أنجزت خلال مسارها الفني الذي بدأ عام 1995 وحتى الآن 14 فيلما روائيا من بينها “سيرة ذاتية” و”أحذية مطاطية حمراء” و”هل تتذكر سراييفو؟” و”جزيرة الحُب” و”إلى أين تذهبين يا عايدة؟”.


إعلان