“باك الشمال”.. ألاعيب الشرطة الفرنسية في مستنقع مرسيليا

 ندى الأزهري

هذا فيلم يُسمّر المرء في مقعده طوال المشاهدة، كأنه هو من يتعرض لكل ما يواجه أبطاله.

عودة إلى قاعة سينمائية بعد انقطاع أكثر من شهر في عرض صحفي كان مقررا للفيلم الخروج للصالات الفرنسية منتصف الشهر الحالي، لكن تمديد إغلاق الصالات في فرنسا ألغى البرامج المقررة، وعليه أن ينتظر دوره في العام القادم. فيلم كان ليجيء بوقته في فرنساحيث هذا الشدّ والجذب بين الشرطة وأجهزتها والحكومة والرئيس والشعب.

تموج هذه الفترة في الفضاءات الفرنسية اتهامات متبادلة بالعنف، فماذا عن فيلم يعاين عمل فريق من الشرطة مكون من ثلاثة أفراد في ضواحي معادية، إذ يسيرون في خط وسط بين تأدية الواجب والتجاوزات عليه، وبين معاداة المجرمين والاتفاق مع بعضهم، وبين تعاون الشرطة ومخبرين وبين النظام القضائي، تبدو العلاقة شديدة التعقيد.

ينطلق المخرج الفرنسي “سيدريك جيمينيز” في “باك الشمال” (BAC Nord) -الذي أنتج عام 2020- من قصة حقيقية لفساد قوى الأمن المرتشية في مرسيليا. “باك” هي الأحرف الأولى لثلاث كلمات بالفرنسية تشير إلى “فرقة مكافحة الجريمة” في الشرطة، أمّا الشمال فالمقصود به ضواحي مرسيليا الشمالية التي لديها سجلّ معتبر، إنها المنطقة التي تتميز بأعلى معدل للجريمة في فرنسا.

حدثت القضية عام 2012 وأثارت ضجة إعلامية ضخمة، حين مثل ثمانية عشر فردا من فرقة مكافحة الجريمة في مرسيليا أمام المحكمة بتهم الابتزاز والمتاجرة بالمخدرات، وحينها شغلت القصة المخرج الذي يعرف جيدا الأحياء الشمالية لمرسيليا، وذلك لكونه نشأ بها، وقد بقيت في مخيلته مع سؤال عن دوافع رجال الشرطة لتجاوز الخطوط الحمر على هذا النحو، وحين قرر عمل الفيلم عام 2020 ساعده منتج الفيلم على اللقاء بهؤلاء الرجال الذين ضجّت بهم فرنسا آنذاك.

 

بوتقة الشرطة والمهربين.. نادي المصالح المتبادلة

سعى المخرج في السيناريو -الذي كتبه بمساعدة “أودري ديوان” و”بنجامان شربيت”- إلى تناول الفضيحة من وجهة نظر موضوعية لا تبرئ الشرطة ولا تبرر لها كما لا تحاكم أفرادها، ولفهم ما جرى حاول وضع الأمور في سياقها وتبيان طريقة عمل هؤلاء الرجال وما يجابههم في الضواحي الفرنسية المشتعلة.

يسير الفيلم بوتيرة سريعة منذ المشهد الأول، مع فرقة مكوّنة من ثلاثة رجال شرطة (الممثلون “جيل لولوش” و”كريم لوكلو” و”فرانسوا شيفيل”) في جولتهم اليومية في مرسيليا الشمالية، في لقطات تقترب من الوثائقي وتذكّر تماما بفيلم “البؤساء” (2019) للفرنسي “لادج لي” الذي نال عدة جوائز، ويسرد العلاقة المعقدة التي تربط الشرطة الفرنسية بأهل الضاحية.

أما في فيلم “باك الشمال” فتبدو العلاقة التي تربطهم بصغار المهربين والبائعين، بموقعهم في الحيّ الذي يسمح لهم بالاستفادة من منافع بسيطة، إذ تُقدَم لهم مثلا الشطائر مجانا وكذلك علب الدخان، وهم حين يستولون على سرقات سارق غجري فإنما يحتفظون بالمال لأنفسهم.

بداية موفّقة تظهر تجاوزات بسيطة وعلاقة تفاهم قوية تجمع بين أفراد الفرقة، لكن قسم مكافحة الجريمة الذي ينتمون له ويعملون ميدانيا فيه ويلاحقون على الأخص المتاجرين بالمخدرات، لا يكتفي بهذه الجولات اليومية أو بالتدخل حين يُستدعى لحالة طوارئ، فهو يسعى مدفوعا بتحريض رؤسائه لتحسين نتائجه في قطاع شديد الخطورة، وعلى أفراده تكييف أساليبهم وإنجاز عملية ضخمة ترفع من أسهمهم لدى المسؤولين حتى لو دفعتهم لتجاوز الخطوط الحمراء أحيانا، وهذا ما يحصل.

لقد تقرر اقتحام الضاحية الشمالية، وهي من تلك الضواحي التي يسكنها ذوو الأصول المهاجرة من الأفارقة والعرب وغيرهم، وتعيش كدولة قائمة بذاتها يسيّرها المتاجرون بالمخدرات، ولا يخطوها أحد من المسؤولين أو الشرطة إلا فيما ندر.

الشرطيون الثلاثة أبطال الفيلم

 

غض الطرف عن التجاوزات.. قواعد اللعبة المتعارف عليها

في إيقاع لاهث لائق بفيلم بوليسي مثير، يتابع السرد الفرقة وهي تخطط لعملية الاقتحام الخطيرة، وينغمس بالكامل في عالم الجريمة، وحتى حين ينحرف قليلا محاولا التعمق بشخصياته، فإنه لا يخرج من هذا العالم، لأن حياة الشخصيات في الواقع تنحصر بالكامل في هذا العمل.

يظل الثلاثي معا معظم الوقت حتى في أوقات الراحة، وهم يجتمعون في بيت كريم وزوجته الشرطية أيضا (الممثلة “آديل إكزاركوبولوس”)، وكل أحاديثه عن الشغل فقط، إذ لم يعطِ السرد مساحات شخصية لأبطاله باستثناء “فرانسوا” حين يتجول مع كلبه، أو حين يلتقي مخبرته “أمل” ليبدي علاقة انجذاب أخوي معها، وكأن القوم لا حياة حقا لهم خارج إطار عملهم، إنهم سجناء وظيفتهم.

يكشف السيناريو سريعا أساليب الفرقة لجمع المعلومات، وهي أساليب متعارف عليها وأحيانا تتحدى القواعد وتتجاوز القوانين، ورغم أن الرؤساء يعلمون بوقوعها فإنهم يغضون البصر أملا بالحصول على نتائج ملموسة ومطلوبة من الهيئات العليا في الشرطة ومن السياسيين، ومنها مثلا مبادلتهم حشيشا مُستولى عليه لمعرفة تحركات مجرم ومهرب كبير من مخبر ما، ضمن نظام يسحق الأفراد بلا هوادة، لكن النظام القضائي الفرنسي ينقلب عليهم بعد كشف الأمر، على الرغم من نجاحهم بالقبض على رؤوس المافيا.

فرقة المكافحة تتهيأ للهجوم على الضاحية

 

اقتحام الضاحية.. لمسة من الكوميديا في فوضى الأكشن

يأتي أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها اكتمالا بصريا وتقنيا وأداء في عملية اقتحام الضاحية، ومعاداة سكان فيها متعاملين مع المهربين، لشرطة المكافحة التي حضرت بكل تعزيزاتها. مشهد مركزي دام 15 دقيقة تقريبا، ومواجهة شرسة بين المهربين وبين الشرطة كأنها حرب حقيقية تأخذ المشاهد بالكامل وتجعله متسمّرا في مقعده من هول ما يرى.

لكن المخرج لا يوّفق فقط في خلق مشاعر التوتر الشديد، فهو يبدو أيضا متحكما بالكامل في هذا المشهد الصعب بكل ما فيه من فوضى وصراخ ومقاومة مع أشخاص متجمعين، بكل عدوانيتهم تجاه بعضهم، بكل الخوف لدى بعضهم والجرأة والوقاحة لدى آخرين، بكل الكره والثورة. إنه يبرز قطيعة صادمة من الصعب وصلها بين الجهتين. لقد “فات الأوان” ربما، كما قال رئيس الفرقة لمديره الجالس في المكتب في لحظة يأس، فهو يعمل ميدانيا (بعيدا عن أمان المكتب) منذ عشرين عاما، ولم يعد يعرف حقا لمَ يقوم بهذا العمل وما مدى جدواه.

لقد عرف المخرج تماما كيف يتحكم بأبطاله، فجاء أداء أفراد الفرقة الثلاثة رائعا في كافة المواقف واللحظات الصعبة سواء في القوة والضعف، كما تمكّن من الإيحاء بأجواء هذه المدينة الفرنسية المتفردة ومنح لحظات -وإن كانت نادرة- من مناظر جميلة هادئة ومواقف طريفة، لاسيما مع الفرقة وهي تستولي على ممتلكات المستهلكين الصغار من الحشيش، أو في سوق التحف الشعبية حيث بائعو السجائر المهربة وبائعو الشاورما وكل ما لا يخطر في البال مثل تجارة السلاحف الممنوعة.

مشهد من اقتحام الضاحية

 

“فضيحة 2012”.. شيء قليل من إنصاف رجال الشرطة

هذا الفيلم كأنما هو صدى لفيلم “البؤساء” بأسلوب الحركة وتحركات فرقة الشرطة، ولا سيما في مشهد اقتحام الضاحية، فهما فيلمان يتقاربان ويكمل أحدهما الآخر، غير أن “البؤساء” أقرب للوثائقي، والثاني أكثر تخيلا وروائية، لكن ثمة اختلاف في الاشتغال البصري وفي مواقع التصوير وشكل الضاحية. وبينما تناول الأول خطأ أدى إلى ازدياد العنف، وبالتالي جاء كتحذير شديد اللهجة؛ فإن الثاني يبدو كإشارة إلى أن كل شيء قد يكون انتهى اليوم، فيكفي أن نرى أرقام المنتحرين في مهنة الشرطة كما يقول المخرج في حديث له، فهناك الكثير من التعاسة وسوء الفهم في الضواحي كما لدى الشرطة، فلا يوجد طيّبون من جهة وسيئون في أخرى.

كان المخرج “سيدريك جيمينيز” قد أنجز كذلك فيلما عن مرسيليا وعرابي المافيا فيها، ولإنجاز فيلمه الأخير “باك الشمال” ذهب للقاء أفراد الشرطة الذين اتهموا فيما أطلق عليه حينها “فضيحة 2012″، وقال إنهم سعدوا بمن جاء ليثير قضيتهم من جديد، فبعد خروجهم من السجن وتخلي القاضي عن الاتهام بعد ظهور أدلة تدعمهم، لم يذكر الإعلام الموضوع مع أن الحديث عند إيقافهم دام لأيام حيث كانوا مركز الحدث. “من المؤكد أنهم ارتكبوا الكثير من الأخطاء، ولكن التضخيم الإعلامي لم يكن متناسبا مع الحدث نفسه” كما قال المخرج.

ليس فقط بطل الفيلم من يتساءل عن مدى جدوى ما يقومون به، وعن الشعور بالعجز أمام ما يحصل، بل إن المشاهد يخرج أيضا ولديه هذا الإحساس المرّ بأن كل شيء قد فات أوانه.


إعلان