“قُبلة الأرض”.. دعم التربة في كفاحها لإصلاح ما أفسده الإنسان

 

قيس قاسم

ينتبه الوثائقي الأمريكي “قُبلة الأرض” (Kiss the Ground) إلى معالجة مختلفة من بين المعالجات العلمية الكثيرة لمشاكل البيئة التي لم تحظَ سابقا بالعناية الكافية مع أنها سهلة يدوس الناس عليها بأقدامهم، ويقصد بها الوثائقي هنا التربة التي تتكون منها طبقات الأرض، ومنها يمكن أن يأتي الحل للكثير من مشاكل البيئة، مما يسهم بدرجة كبيرة في التقليل من الاحتباس الحراري.

هذا الكشف بدّد تشاؤم الممثل الأمريكي “وودي هاريلسون” المعلق الـذي ظهر في بداية الوثائقي متشائما، لكنه بعد استماعه إلى شروحات عالم التربة “راي أرخليتو” غيّر رأيه، وصار أكثر قناعة بقدرة التربة على مساعدة البشرية لحل الكثير من مشاكلها إذا ما أحسن الناس التعامل معها.

يقوم عالم التربة “راي أرخليتو” بدور المرشد والمنبه لدورها الكبير في تحسين الحياة على الأرض، وذك من خلال إعادة الدور السابق لها بوصفها واحدة من أهم مصادر الطاقة للنباتات والمزروعات، وبمقدار انتعاشها وتعافيها تتعافى المزروعات، وبالتالي صحة الإنسان الذي يتناولها. وبعبارة أخرى هي استعادة الدورة الطبيعية لحياة النباتات التي تَدخل الإنسان سلبا فيها وقام بتغيير مسارها الطبيعي.

 

صحة التربة.. مرآة تعكس صحة الإنسان

يرافق مخرجا الوثائقي “جوشوا تيكل” و”ريبيكا تيكل” عالم التربة “راي أرخليتو” في جولاته الكثيرة في عموم الولايات الأمريكية وخارجها، ومن خلال محاضراته وزياراته الميدانية تتجمع لديهما مادة علمية تكفي لجعل منجزهما واحدا من بين أهم الأعمال الوثائقية التي تناولت الموضوعات البيئية والمشاكل الناجمة عنها، رغم صعوبة مادته العلمية المتعلقة بجوانب كثيرة يفرضها موضوع “التربة” و”الأرض” بمفهومهما الأوسع.

يربط العالِم بين صحة التربة وبين صحة الإنسان من جهة، ونقاوة المياه والمشاكل الناجمة عن التصحر بسبب رداءة نوعيتها وما ينتج عنها من كوارث طبيعية مثل الجفاف والمجاعات من جهة أخرى. ويوجز العالِم كل ذلك بعبارة “وجود تُربة صحية يعني نبتة زراعية صحية وبيئة طبيعية نظيفة متخلصة من السموم الكيميائية”.

صورة تجمع مخرج وثائقي “قبلة الأرض” “ريبيكا تيكل” مع عالم التربة “راي أرخليتو”

 

إعادة الكربون المتسرب إلى الأوزون.. حل مشكلة التلوث السحري

يقترح علماء التربة والبيئة حلا لمشكلة التلوث البيئي يبدو غريبا بعض الشيء، فهم يرون أن إعادة الكربون المتسرب إلى الطبقات العليا والمؤثر سلبا على طبقة الأوزون؛ يسهم بإنعاش التربة، فمن دون وجود كربون داخل التربة ستتعرض مع الوقت للتعرية، وبالتالي ستجف ويجف معها الزرع.

لا يرى العلماء غرابة في ذلك لأن الإنسان منذ ملايين السنين كان قد أدرك أهمية الكربون للتربة، فقام لذلك بقلبها في كل موسم. إن قلب التربة يعني إفساح المجال لدخول الكربون ثانية ليتحلل داخلها بعد أن استنفذ كميته طبيعيا، تلك العملية البسيطة تنعش التربة وتمنع جفافها.

إن تعرية التربة هي من بين المشاكل الكبرى التي يواجهها العالم اليوم في ظل استخدام المزارعين مواد كيميائية تزيد من المحصول، لكنها تؤدي مع الوقت إلى قتل التربة وجميع الأحياء التي فيها بالمواد الكيميائية التي توقف تسلسل تفاعلاتها الطبيعية.

 

سموم الحرب العالمية.. سماد قاتل في ألمانيا النازية

يرجع الوثائقي “قُبلة الأرض” إلى التاريخ لمعاينة المشكلة المتعلقة بموت التربة، ففي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي مرّت الولايات المتحدة الأمريكية بمواسم جفاف شديدة قضت على محاصيلها، فكان لا بد من إيجاد حل.

وجد الأمريكيون الحل في ألمانيا عند علماء الكيمياء الذين استخدموا سمادا كيميائيا هو في الأصل مبيدات سامة استُخدمت في الحرب العالمية كسلاح كيميائي، ووجدوا أنها قادرة على قتل الآفات الزراعية بشكل فعال.

نقل الأمريكيون تلك التركيبات وصاروا يستخدمونها على نطاق واسع، والنتيجة كانت كارثية بعد عقود، لأن التربة لم تعد قادرة على توارث أجيالها، فقد استهلكت المواد الكيميائية كل طاقتها، ومنعتها من استرجاع الكربون المتحرر في الجو إلى باطن الأرض ثانية، فبقاؤه يعني زيادة كمياته مع الوقت، مما يزيد من  نسب الانبعاثات الحرارية للأرض ومخاطرها.

يسمي العلماء تلك العملية الصناعية بالدورة السيئة للطبيعة، لأنها توقف عمليات كثيرة من صلب وجودها.

الكربون ليس عدوا للطبيعة كما هو سائد، بل إن تركيبة النباتات تحتوي على نسبة كبيرة منه

 

صورة الكربون عدو الطبيعة.. معركة تصحيح المفاهيم الزراعية

يتوقف الوثائقي مطولا عند علاقة الكربون بالتربة من جهة، وبالحفاظ على التوازن الطبيعي من جهة أخرى، ويحاول بلغة بصرية تستعين بالرسومات لتوضيح تلك العلاقات التي يجد أن البشرية بحاجة للإلمام بها ومعرفتها بشكل صحيح.

فتصوير الكربون على أنه العدو الأول للطبيعة خاطئ، لأن الكائنات الحية لا يمكن لها العيش من دونه، خاصة أن تركيبة أجسامنا وبقية الأحياء والنباتات تحتوي على نسبة كبيرة منه، ونقصانها يعني خللا بيولوجيا.

إن تصوير الكربون كعدو مفهوم سائد لا بدّ من تصحيحه، وهذا ما يعمل عليه العلماء الذين يركزون في محاضراتهم على أهمية استرجاعه من الجو إلى داخل التربة، وعلى أهمية إقناع المزارعين بذلك.

توارث الأجيال الزراعية.. آخر طوق للنجاة من تصحر التربة

يعتبر توارث الأجيال الزراعية جزءا أساسيا من الحل، وعليه تعتمد الكثير من الأفكار الطموحة الهادفة للتخلص من الأزمات البيئية والمشاكل الاقتصادية.

فبحسب العلماء الذين التقى بهم الوثائقي، فإن الكرة الأرضية إذا استمرت في الاعتماد على الأساليب الزراعية السائدة اليوم فإنها ستُواجه مجاعات كبيرة نتيجة تصحر التربة، وستؤدي المشاكل الزراعية إلى مزيد من هجرة الملايين لأراضيهم، والبحث عن بدائل قد لا تتوفر بسهولة لهم.

يدرك ذلك الخطر المحدق بعض المزارعين الأمريكيين الذين بدؤوا باستخدام أساليب جديدة تعتمد على مبدأ توارث الأجيال الزراعية وإنعاش التربة، عبر تخليصها من السموم وزيادة فعالية الأحياء الدقيقة التي تعيش في داخلها.

على يمين الصورة مساحة زراعية في كالفورنيا تم قلب التربة فيها طبيعيا، وعلى يسارها استخدم الفلاح الكيميائيات التي تسببت في تصحر التربة

 

إعادة تدوير التربة.. فصل من حرب الفلاحين مع السماد الكيميائي

في كاليفورنيا تعتمد عائلة تملك مساحات كبيرة من الأرض على إعادة تدوير التربة بطرق بسيطة، فقد قسمت العائلة أراضيها إلى مربعات، وجعلت المواشي تتنقل من مربع إلى آخر حسب جدول زمني، والمراد بهذه العملية قلب التربة طبيعيا، وتزويدها بالسماد المفيد الخالي من السموم الكيميائية، وقد كانت النتائج مبهرة، وزاد المحصول بشكل غير متوقع.

وفي المنطقة نفسها يجرب فلاح آخر تجنبا تاما للأسمدة الكيميائية، ويقارن بعد عدة مواسم بين نتائج عمله مع جيرانه الذين استمروا في استخدام الكيميائيات التي تسببت في تصحر تربة حقولهم وتقليص حجم إنتاجهم.

بينما يأخذ آخرون بمبدأ تنويع محاصيل الحقل الواحد تخلصا من إرث أمريكي سيء، فمنذ عقود طويلة اتجه المزارعون -بتشجيع من الحكومات الأمريكية- لزراعة بعض الحبوب مثل الذرة والشعير دون غيرها، لأن الضرائب قليلة على إنتاجها.

ترك ذلك التوجه آثاره السيئة على الأرض والإنسان، لكن رغم ذلك حاول آخرون غيرهم تجريب أساليب أوصى بها علماء الزراعة الطبيعية، وحققت لهم نتائج مرضية على المستويين البيئي والاقتصادي.

أحد الفلاحين الذين قاموا بتجربة قلب التربة واستغنوا عن السماد الكيميائي وتنويع المحاصيل في حقوله

 

إعادة تدوير الفضلات.. حلول مبتكرة تصل إلى مطابخ السياسة

قام الفلاحون الذين استخدموا تجربة قلب التربة والاستغناء عن السماد الكيميائي وتنويع المحاصيل بنقل محاولاتهم إلى غيرهم، وفي اجتماع موسّع عقد في باريس من أجل حماية البيئة؛ قدموا تجاربهم الناجحة أمام الحاضرين، وقد وجد بعض السياسيين في هذه التجربة مثالا يحتذى، فعملوا على تقديم توصيات لبلدانهم للأخذ بالمبدأ المُطالب باستعادة كميات من الكربون المتحرر في الجو إلى التربة ثانية، والتشجيع على زراعة الأشجار، وعدم الاكتفاء بنوع واحد من المزروعات.

ينتقل الوثائقي بعيدا عن الولايات المتحدة إلى دول وقارات أخرى تُجرب فيها أساليب طبيعية لتوريث التربة وتنويع المنتجات الزراعية، ففي زمبابوي يشرف علماء على تجربة تدوير فضلات الحيوانات والإنسان عبر التربة، ويشجعون الفلاحين على استخدامها كسماد طبيعي بدلا من تركها تتسرب إلى مجاري المياه فتلوثها، وتسبب أمراضا كثيرة عند شربها.

وفي هايتي يشجع مسؤولو مشروع تسميد التربة الطبيعي طلاب المدارس والأطفال على جمع كل النفايات الغذائية وفضلات الإنسان، وتحويلها إلى سماد كيميائي يقوّي التربة ولا يضر بصحتهم.

سماد من بقايا الطعام.. إعادة الاعتبار إلى الأرض الأم

حققت تجربة تحويل النفايات الغذائية إلى سماد كيميائي نجاحا لافتا، مما شجع على نقلها إلى الولايات المتحدة بمشروعات أوسع.

في ولايات أمريكية عدة يجري جمع فضلات الطعام من المطاعم والبيوت ونقلها إلى حاويات خشبية تبقى فيها حتى تتحول إلى مواد عضوية تُستخدم لاحقا كسماد زراعي طبيعي، ففي مدينة سان فرانسيسكو وحدها يجمع أكثر من 70 ألف طن من الفضلات يوميا، وتعالج كمية كبيرة منها كسماد زراعي.

تلك التجارب يكثفها الوثائقي في ختام زمنه بصور ومشاهد منوعة من العالم، يظهر فيها بشر يعلنون عن مواقفهم وتوجهاتهم لحماية البيئة بشعارات تدعو إلى إعادة الاعتبار لتربة الأرض، فهي الأم للبشرية جمعاء، وهي الموطن الأساس للإنسان منذ الأزل.


إعلان