“حياة على كوكبنا”.. كوارث الأرض بعيون المخرج الوثائقي “ديفيد أتينبورو”

قيس قاسم
ينطلق معد ومقدم البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية الخاصة بالحياة البرية، السير “ديفيد أتينبورو”، وهو في عامه الـ٩٣، من منطقة بريبيات الأوكرانية المهجورة والمدمرة، نتيجة تعرض سكانها ومبانيها لكميات كبيرة من الإشعاعات النووية أثناء حدوث انفجار مفاعلات “تشيرنوبل” بالقرب منها.
ينطلق “أتينبورو” ليقدم شهادته على العصر الذي عاش فيه ورؤيته لمستقبل كوكب الأرض الذي تابع خلال ما يزيد عن ستة عقود التَغيُّرات المناخية الدراماتيكية التي شهدها وما زالت تهدد بدماره.
انفجار تشيرنوبيل.. “الخسارة الأكبر قادمة”
بالرغم من اعتقاد كثير من الناس بأن انفجار “تشيرنوبل” في عام 1986، يمثل الخسارة الأكبر في تاريخ البشرية، فإن “أتينبورو” لا يتفق مع هذا الرأي، ويؤكد من خلال تجربته الطويلة أن الخسارة الأكبر لم تحدث بعد، وهي في طريقها للحدوث، إذا لم يتوقف الإنسان عن تخريب كوكب الأرض بأكمله.
إذ يعتبر أن الخسارة البشرية الأكبر تكمن في فقدان كوكبنا مناطقه البرية وتخريب تنوعها البيولوجي، ويبني تحذيره هذا على خبرة مهنية يوجزها وثائقي بريطاني يعرض على منصة “نتفليكس” ويحمل عنوانا دالا: “ديفيد أتينبورو.. حياة على كوكبنا” (David Attenborough: A Life on Our Planet).
يجمع الوثائقي بين السيرة الذاتية والمهنية للسير “أتينبورو”، وبين الكم الهائل من الخامات الفيلمية والأشرطة الوثائقية التي أنجزها خلال حياته، لتتكون لدى المشاهد فكرة واضحة عن التغيّرات المناخية التي شهدها كوكب الأرض، يضاف إليها تعليقاته الشخصية عليها، وتعزز المعطيات الإحصائية المرافقة لها وجهات نظره الموضوعية.

هيئة الإذاعة البريطانية.. كاميرا تجوب أرجاء العالم
يعترف “أتينبورو” بأنه عاش حياة غنية، بحكم عمله كمعد ومنتج للكثير من برامج الطبيعة والحياة البرية في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) منذ بداية خمسينيات القرن المنصرم، وقد جاب قارات العالم وسافر كثيرا إلى مناطق مختلفة التضاريس والبيئات، وركب البحر وصور أعماقه، ونقل أدق تفاصيل الحياة الطبيعية في الغابات، ووثق عيش الحيوانات في البراري والصحاري.
لم يأبه “أتينبورو” لبرد القطب، ولم تعِقه ارتفاعات الجبال من معرفة ما يجري في قممها، فلقد تعلم كثيرا من تجربته، وقد زاده عمقها شعورا بالمسؤولية والعمل للمحافظة على سلامة كوكب عاش على سطحه وعرف الكثير عنه.

عصارة التجربة الوثائقية.. رحلة في عالم الطبيعة والتاريخ
بدأ ولع “أتينبورو” بالطبيعة والتاريخ منذ الطفولة، فكثيرة هي الصور الفوتوغرافية الشخصية التي يظهر فيها وهو يتجول في الطبيعية، فقد كان شغوفا بالمتحجرات القديمة في منطقة تيلتون البريطانية مما قاده إلى التاريخ؛ تاريخ الطبيعة.
فسبره خفايا الحياة على الأرض، كانت دليله إلى عالم البرية، وقد أعانته كثيرا على توثيقها بطريقة فريدة بنقله وتوثيق زياراته إلى المناطق المجهولة من الكرة الأرضية.
أدى عرضه بأسلوب صحفي أساليب عيش سكان الأرض إلى الشاشة لعمل تغيير في الوعي الجمعي لقطاعات كبيرة من الناس، ربما للمرة الأولى، وبفضله جاء العالم الخارجي البعيد إلى منازل الناس في كل بقاع الأرض.
على أساس تلك التجربة وما رافقها من رصد لمتغيّرات وتحولات شهدها بنفسه ستكتسب شهادته معناها الكبير في منجز المخرج “ألاستر فوذرغيل” ومساعديه “جوناثان هيجيز” و”كيث شولي” الذي بين أيدينا.

عصر السرعة.. اختلال التوازن القائم منذ مليارات السنين
بأسلوب تعليمي يقرن “أتينبورو” تجربته الشخصية بالمتغيّرات البيئية والسكانية التي حدثت في كل مرحلة من عمره، فهو يوجزها بأرقام تتمحور حول عدد سكان الأرض وقتها، وكم كانت نسبة الكربون المتحرر في الفضاء إلى جانب المساحة البرية الكلية الباقية من سطح الأرض لم تستغل لأعراض إنتاجية ربحية.
ينتبه “أتينبورو” في مسار حياته المهنية إلى سرعة المُتغيّرات السلبية الجارية في الأرض، مقارنة بتاريخ طويل من عمرها لم تشهد فيه تحولات دراماتيكية كالتي تحدث الآن.
مرد ذلك برأيه هو احتفاظ كوكب الأرض بتنوعه البيئي المعقد، فهذا التوازن لم يختل خلال مليارات السنين، حتى عند حدوث “الانقراضات الجماعية الخمسة الكبرى”، وكلها كانت بفعل العوامل الطبيعية لا البشرية، لذلك استطاعت الأرض استعادة وجودها عقب كل انقراض، وكان آخر تلك الانقراضات قد حدث قبل 66 مليون سنة وشهد نهاية عصر الديناصورات، لتعود الأرض بعد ذلك إلى ما كانت عليه.
كان كل ذلك بفضل التوازن القائم بين الأنواع، فكل نوع يكمل الآخر ويساعده على التطور والمضي، إلا التطور الأخير الذي تدخل فيه الإنسان خرب بسبب أنانيته وجشعه توازنا لا يمكن للحياة الدوام من دونه.

إتلاف الغابات الكبرى.. جريمة بحق الطبيعة والكائنات الحية
يقر “أتينبورو” بحقيقة تطور الإنسان وتفوقه على بقية الكائنات بفضل قدرته على التفكير والخلق، ويعتبر منتصف القرن المنصرم وتحديدا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نقطة التحول التاريخية في مسار الكوكب، إذ ازدهرت خلال تلك الفترة الاختراعات وتطورت العلوم ودخلت التكنولوجيا إلى البيوت.
لكن هذا التطور المقرون بتطور ذهنية الإنسان وقدرته على الإبداع جلب معه الكثير من الخراب. ذلك ما يرصده الوثائقي من خلال شهادات “أتينبورو” المدعومة بالصور الموثقة والوقائع.
يستعرض مُقدِم ومُعِد الكثير من البرامج الوثائقية الرائعة مثل “الكوكب الأزرق” و”كوكب الأرض” و”الكوكب المتجمد” وغيرها، وبحكم التجربة أمثلة حيّة على تلك الفترة وما سبقها.
فعندما زار قارة آسيا لأول مرة في أوائل الخمسينيات، كان ثلثا مساحة غابات “بورنيو” المطيرة مغطاة بالنباتات والأشجار. وفي نهاية القرن المنصرم لم يبقَ منها إلا النصف، فقد أباد الإنسان جزءا كبيرا من أشجار الغابات لأغراض تجارية، ونصف الأنواع الحية فيها انقرضت لنفس السبب.
وبزراعة الإنسان لأشجار زيت النخيل بديلا عن الأشجار التقليدية، خرب توازنا بيئيا عمره مليارات السنين، من عينات نتائجها هجرة القرود البرتقالية النادرة المنطقة، وهي في طريقها للاندثار، وبقية أخرى من الحيوانات لم تنجح في التأقلم مع الوضع الجديد فكان مصيرها الموت.
“الانقراض الكوني السادس”.. كارثة وشيكة
يحدث الخراب نفسه الذي سببه الإنسان في البحار التي أبحر فيها “أتينبورو” أيام شبابه وكانت الشعب المرجانية فيها تتمتع بجمال خارق والأسماك تتكاثر طبيعيا، وبعد سنوات من الصيد التجاري بشباك عملاقة. لم تنج منها الأسماك الثديية كالحيتان، فكان مصيرها الهلاك.
ارتفعت حموضة المياه فماتت الشُعب المرجانية، وأخذت ثلوج القطب بالذوبان بمعدلات كبيرة نتيجة لارتفاع حرارة الأرض، واختفت ثلوج الصيف، مما سيؤدي إلى كوارث بيئية منها عواصف وفيضانات مدمرة وهجرة بشرية واسعة.
يصف الوثائقي ما يفعله الإنسان بالأرض بأنه تمهيد لـ”الانقراض الكوني السادس”.

“لقد فضلنا أنفسنا على الكوكب”.. جشع الإنسان
“لقد فضلنا أنفسنا على الكوكب وأخضعناه لمشيئتنا وأطماعنا” هذه محصلة تجربة حياتية، يفصلها الشاهد “أتينبورو” بلغته الجميلة وتعابيره الخاصة، وفي كل مقطع منها يعرض للبرهنة عليها تسجيلات فيلمية رائعة، بعضها نادر جدا.
يقول بألم: “أخذنا أسماكا من البحر أكثر من حصتنا بكثير، وقطعنا وما زلنا نقطع كل سنة ما يقارب 15 مليار شجرة. خفضنا نسبة المياه العذبة وزدنا حموضة مياه المحيطات كثيرا، وحولنا نصف أراضي البرية إلى مزارع إنتاجية، وأكثر محصولاتها هي الذُرَة وفول الصويا.
واليوم ها نحن نأكل لحوم دواجن 70٪ منها لا تخرج من أقفاصها، وأكثر من 60٪ من الماشية نربيها للحصول على لحومها، ولا نستغل حركتها الطبيعية وتنقلاتها المكانية الضرورية لتعافي التربة، ولهذا تزداد درجات حرارة الأرض ويحدث الجفاف. هذا الكوكب الأزرق الآن ليس كوكبا طبيعيا، بل هو كوكب من صنع الإنسان. ثرواته مكرسة لخدمته وحده تقريبا. لا يعطي من عطايا الأرض الغنية شيئا لبقية الكائنات التي تعيش معه”.

مشهد الأرض المعتم.. صورة افتراضية مخيفة
يقدم السير “أتينبورو” مشهدا معتما لواقع الكوكب اليوم، وقد شهد هو فصولا منه بأم عينيه، وعليه يبني تصورا مستقبليا متشائما. يفترض لو أنه ولد في عام 2020 فما الذي سيكون عليه حال الكوكب الذي لطالما أحبه وكرس له حياته المهنية كلها بعد تسعين عاما. الصورة الافتراضية النهائية مخيفة ولكنها قابلة للتحسن لو أحسن الإنسان التصرف، وهذا ما يتمنى حدوثه في القريب العاجل.
رؤيته للمستقبل وتصوراته للحل يدعّمها بأمثلة تفتح نافذة الأمل على خلاص ممكن، فمن التاريخ نتعلم ومن الطبيعة نفسها التي لا تبخل بالاستجابة والتعاون، رغم جراحها العميقة.
وها هو يقترح –من وجهة نظره- على البشرية تقليل الولادات، فزيادة سكان الأرض يثقل كاهلها، ويحمل الكوكب أعباء مضاعفة، ويقدم تجربة اليابان مثالا، فبعد الحرب العالمية الثانية كان معدل أفراد العائلة الواحدة بين 3 إلى 4 أو أكثر، وفي التسعينات ومع الازدهار الاقتصادي صار المعدل 2 فقط، وبفضل ذلك توفرت فرص تعليم أحسن للأطفال وبشكل خاص للفتيات، وتوفرت إمكانية لتأمين حياة متوافقة مع الإمكانيات الطبيعية ولا تضر بها.

حقل الطاقة الشمسية البديلة.. ثورة المغرب
في حقل الطاقة يجد “أتينبورو” في التجربة المغربية ما يشجع، فالبلد الأفريقي الذي كان لفترة طويلة معتمدا في طاقته على البترول ومشتقاته، توجه اليوم نحو الطاقة البديلة، طاقة الشمس والمراكز الجديدة لتخزينها ربما ستجعل منه بعد سنوات قليلة واحدا من البلدان المصدرة للطاقة.
وأما تقليص مساحات الأرض المزروعة لأغراض توفير الغذاء فيجدها في التجربة الهولندية، فقد تمكنوا بأقل المساحات والبيوت الزجاجية من إنتاج محاصيل زراعية وضعت البلد في المركز الثاني من حيث جحم الإنتاج العالمي.

“الأمل موجود”.. محاولة أخيرة لإصلاح الكوكب
يستعرض “أتينبورو” ما يمكن فعله للبحار من خلال التوجه نحو الصيد اليدوي بشباك صغيرة الحجم.
ويذكر أننا لو قللنا ثلث ما نصطاده اليوم من أسماك، يمكن للبحار والمحيطات استعادة عافيتها وتوازنها المفقود بسرعة.
أما قطع الأشجار فيجب إيقافه، حفاظا على ما تبقى من غابات، وفي حال وقع عكس ذلك كما يقول “أتينبورو” في نهاية الوثائقي: فإننا سنواجه نفس مصير المناطق المخربة المحيطة بمفاعل “تشيرنوبل”، ستغدو الأرض مثلها خرابا، وعلينا الآن إعادة التوازن البيئي والتنوع البيولوجي للأرض قبل أن نفقدها إلى الأبد.
“الأمل موجود” هذا ما يخبرنا به الرجل الذي عرف الطبيعة جيدا ونقلها لنا في بيوتنا.