تازة.. حصن المغرب القديم الذي بات عاصمة النسيان

“بلد امتناع وكشف قناع ومحل ريع وإيناع، ووطن طاب ماؤه، وصح هواؤه، وجلت فيه مواهب الله وآلاؤه”[1].

المتحدّث هنا هو محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، والمقصود بالحديث ليس سوى المدينة المتوسطة النائمة إلى الشرق من مدينة فاس، العاصمة التاريخية للمغرب. بل إن الخطيب خلّف مقولة شهيرة تردّدها الألسن حتى الآن، وهي عبارة من “مدينة تازة إلى قرية فاس” التي مهّد بها لانتقاله من وصف مدينة تازة إلى نظيرتها فاس، مما يعني أن المدينة المنسية اليوم، لم تكن تقلّ شأنا ولا بهاء عن العاصمة التاريخية للمغرب.

هي الآن مدينة صغيرة تعيش التهميش في العقود الأخيرة، لكنها تكتنز عراقة تاريخية وأهمية استراتيجية وحضارية كبيرة، حيث تعتبر بفضل موقعها الجغرافي الواقع بين سلسلتي جبال الريف شمال المغرب وجبال الأطلس غربه، الممر الحتمي بين غرب المغرب وشرقه، وهو ما يشير إليه الأصل الأمازيغي لاسمها (تيزي=الممر).

يعيد البعض تأسيس المدينة إلى العهد الروماني، وتتفق جميع المصادر التاريخية على طابعها العسكري، وهو ما تؤكده المصادر الموثقة لمراحل إخضاع المغرب للاستعمار الفرنسي، حيث كانت تازة آخر المدن التي سيطر المستعمر عليها بالقوة العسكرية.

وتتسم المدينة بطابع روحاني وديني خاص، حيث كانت موطنا لكثير من الطرق الصوفية، كما تنافس حولها السلاطين والشرفاء بحثا عن الشرعية الدينية في بعض المراحل التاريخية، كما كانت معقلا لآخر تمرّد سياسي كبير عرفه المغرب قبيل استعماره بداية القرن 20، حيث عسكر فيها أحد إخوة السلطان وقتها، محاولا الزحف على فاس لانتزاع الحكم.

ابنة العصر الروماني.. قبلة الزعامات السياسية والدينية منذ القدم

تستقر مدينة تازة فوق تلّ يرتفع بنحو 600 متر عن مستوى سطح البحر، محتضنة ما يناهز 150 ألف نسمة في مدينتيها العليا والسفلى، إلى جانب عشرات الآلاف من أبناء القبائل الكبرى التي شكّلت محيط المدينة تاريخيا، ويتوزعون على مساحات شاسعة، وهي أساسا ثلاث قبائل كبرى: “التسول” و”غياثة” و”البرانس”، كما تخترق هذا المجال الجغرافي الحيوي امتدادات قبائل أخرى مجاورة، كقبيلة “اجزناية” المستقرة في جنوب منطقة الريف، وقبائل “هوارة” و”بني وراين”… وهو ما يجعل تازة رمزا من رموز التعايش والتنوع، لأن هذه القبائل تنحدر من انتماءات عرقية ولغوية شديدة الاختلاف[2].

يعيد البعض تاريخ تأسيس مدينة تازة إلى الحقبة الرومانية، دون أن يتوفّر ما يكفي من الزاد العلمي والمعرفي لتوثيق ذلك، لكون مخزون المدينة من الآثار والحفريات استنزف خلال الفترات الأولى من الاستعمار الفرنسي، وجرى نقلها إلى مناطق مثل تلمسان الجزائرية. والثابت حتى الآن في خزانات وكتب التاريخ، هو أن المدينة برزت بقوة في القرن العاشر الميلادي، كواحد من الرباطات الكبرى للزوايا الصوفية التي كانت القبائل الأمازيغية تقيمها لتحصين الجبهة الروحية من محاولات الاختراق.

يقدّر الجيولوجيون فترة تكوّن ممر تازة بآلاف السنين، ولم يتردد الباحثون الفرنسيون الذين مسحوا الجغرافيا المغربية تمهيدا للاحتلال في نعته رسميا بـ”ممر تازة”. وتقول أبحاث الجيولوجيين بأن هذا الممر تشكل قبل الممر البحري الذي يعرف حاليا بمضيق جبل طارق، حيث كانت مياه البحر الأبيض المتوسط تمر بهذا الممر الذي بات بريا في الوقت الحالي، بينما كانت منطقة الريف شمال المغرب متصلة بالقارة الأوروبية، وهو ما يدلّ عليه التشابه الكبير بين جبال الريف المغربية وجبال الأندلس جنوب إسبانيا. وقد انسحبت المياه تدريجيا نحو الشمال، وانتقل البحر المتوسط من ممر “إيناون” الذي بنيت تازة على ضفته، وأصبحت المدينة تحرس ممرا بريا بعدما كان ممرا بحريا[3].

قلعة ملوك البربر.. أم قرى قبيلة مكناسة في العصور القديمة

يعيد الأكاديمي عبد الرحمن المودن في أطروحته حول قبائل “حوض ايناون”، ظهور مدينة تازة كتجمّع سكني أمازيغي إلى ما قبل الاحتلال الروماني للمغرب، مرجحا أن يكون هذا الموقع قد انتقل مبكرا من مرتبة الحصن البسيط إلى درجة القلعة المنيعة في الفترة التي كان فيها ملوك البربر يملكون من القوة ما كان يسمح لهم بمواجهة روما.

ويعزّز المودن -الذي ألّف واحدا من أهم المراجع الخاصة بتاريخ منطقة تازة- دفاعه عن الأصول القديمة للمدينة بكون أقدم الحضارات البشرية قامت أولا على أحواض الأنهار كالرافدين في العراق والنيل في مصر وأنهار لبنان وسوريا القديمة ثم انتقلت بعد ذلك إلى البحر خلال العصور الوسطى، وهو ينطبق على حوض “ايناون”، وعلى تازة التي تستقر بين واديين كبيرين.

الرومان استعانوا بممر تازة لصد هجمات القبائل المحلية على الحصون الرومانية القريبة من المنطقة

متخصص آخر شغل مهمة “مؤرخ المملكة”، هو الراحل عبد الوهاب بن منصور، يقول في أحد كتبه إن مدينة تازة من تأسيس البربر في القديم، فقد “كانت في الأصل أم قرى قبيلة مكناسة الشهيرة، وعليها كان مرور الذاهب والآيب من المغرب وإليه، ولا يعرف أن دولة أجنبية عن المغرب بسطت عليها سيطرتها قبل مجيء الإسلام”[4].

لكن ورغم هذه العراقة المؤكدة لا يوجد أي دليل علمي على أي سيطرة رومانية فعلية على مدينة تازة، ويشير الأكاديمي المغربي عبد الرحمن المودن إلى أن الرومان استعانوا بممر تازة فقط لصد هجمات القبائل المحلية على الحصون الرومانية القريبة من المنطقة، كما يدل على ذلك سور “الليمس” الذي توجد بقاياه في منطقة قبيلة البرانس شمالي المدينة[5].

تازة الإسلامية.. حصن عسكري من بناء الطبيعة

تازة هي في حقيقة الأمر مدينتان وليست مدينة واحدة، أما الأولى فهي الأصلية والعريقة المعروفة بلقب “تازة العليا”، وأما الثانية فهي الامتداد الحديث للمدينة، وقد شيدت أساسا في الفترة الاستعمارية، وتسمى “تازة السفلى”. ويربط بين “المدينتين” منحدر مدرّج ينتهي في قمته إلى “باب الريح” التاريخي[6].

اتسمت المدينة علاوة على تحصيناتها الطبيعية، بخصائصها العسكرية التي جعلت كثيرا من الحضارات والدول المتعاقبة تشيّد فيها الحصون والأبراج والخنادق ومخازن السلاح.. وعاشت المدينة مراحل أوجها في عهد الدول الكبرى التي حكمت المغرب، خاصة منها الموحدين والمرينيين ثم العلويين، حيث كانت أول عاصمة لحكم الدولة القائمة حتى الآن في المغرب، كما كانت آخر المناطق خضوعا للاستعمار الفرنسي في بدايات القرن العشرين.

حصن ” البستيون ” الذي بناه السلطان أحمد المنصور لمراقبة الممر من مدخله الشرقي

وفي مقابل غموض فترة ما قبل الفتح الإسلامي، تؤكد المصادر التاريخية ما كان لتازة وقبائلها من حضور قوي وفعال في الأحداث السياسية الكبرى للمغرب منذ دخوله تحت راية الإسلام.

وبرز دور هذه المدينة في العهد الإسلامي بشكل مبكر، ومع الإرهاصات الأولى لتأسيس دولة إسلامية في المغرب مستقلة عن الدولة العباسية على عهد هارون الرشيد، إذ كان المولى إدريس الأكبر -المنحدر من السلالة النبوية- قد فرّ إثر هزيمة جيشه في معاركه ضد العباسيين ولجأ إلى المغرب، وقد تشكل من حوله تحالف قبلي قدّم له البيعة، وهو ما جعل الدولة العباسية تقرر اغتياله كي تعدم مشروع الدولة المستقلة في مهده.

عهد المرينيين.. حقبة الازدهار العلمي والاقتصادي

تتحدث المصادر التاريخية عن تازة كممر حتمي كان على يوسف بن تاشفين أن يعبره أولا قبل الوصول إلى تلمسان، حيث تمكن من السيطرة على المدينة عام 467 للهجرة، واستغرق إخضاع القبائل المحيطة بها ست سنوات.

فقد كانت تازة موقعا حيويا في هذا الصراع المبكّر، خاصة بين الفاطميين الذين حكموا قسما كبيرا من شمال أفريقيا وقتها، وبين الأدارسة. وبعد انهيار الدولة الإسلامية الأولى التي وحدت المغرب في دولة مستقلة عن المشرق، كان وصول المرابطين إلى تازة وسيطرتهم عليها عنوانا لافتكاك البلاد من جديد من يد الأطماع الخارجية، سواء منها القادم من المشرق العربي أو من الشمال الأوروبي.

يقول المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي الذي يشدد على براءة تازة من أي تحالف أو موالاة للدولة الفاطمية الشيعية، مفسرا مهادنتها لهم بالاضطرار إثر سقوط دولة الأدارسة في المغرب: لقد تحرك المرابطون من صحراء المغرب، واتجهوا نحو تازة لأنهم يعرفون أنها البوغاز البري الوحيد الذي سيوقف زحف الطامعين في التسلط على البلاد[7].

أما مؤسس الدولة الموحدية عبد المومن، فقد توجه مباشرة من تينمل مهد الدولة الموحدية إلى تازة سنة 529 للهجرة، ومنها انطلق نحو فاس والمغربين الأوسط والأقصى، كما لم يتمكن المرينيون من السيطرة على فاس ومنطقة الريف إلا بعد دخولهم تازة واستقرارهم بها.

تتميز تازة بجبالها وارتفاعاتها التي جعلت منها عصية على الغزو

وتوجه المرينيون إلى تازة بنفس العناية والحماس الذي توجهوا به إلى عاصمتهم فاس، بل إنهم اتخذوا من تازة مدرسة لفلذات أكبادهم وقاعدة للأمراء وكبار رجال الدولة، وبلغت المدينة في عهد المرينيين ما لم تبلغه أي من المدن المغربية من اهتمام وعناية، حيث أصبحت مركز إشعاع علمي وثقافي وقطبا اقتصاديا كبيرا بما احتوته من صناعات كالدباغة والصباغة وسبك النحاس والزجاج والورق، وهو ما يفسّر استمرار عبارة دارجة في لغة المغاربة، تضرب المثل بصابون “تازة” بالنظر إلى جودته وتميّزه[8].

شهدت مدينة تازة ازدهارا ثقافيا كبيرا في عهد الدولة المرينية، حيث بنيت ثلاث مدارس علمية كبرى داخل أسوارها، وهي “المدرسة اليوسفية” التي بناها السلطان المريني أبو يعقوب، و”المدرسة الحسنية” التي بناها السلطان أبو الحسن علي، و”المدرسة العنانية” التي بناها السلطان أبو فارس عنان المريني[9].

وبعدما مني السعديون بالهزيمة أمام العثمانيين في القرن العاشر للميلاد، وقتل السلطان محمد الشيخ المهدي على يدهم غير بعيد عنها، سارع ابنه السلطان أحمد المنصور إلى بناء حصن “البستيون” لمراقبة الممر من مدخله الشرقي[10].

ثريا المسجد الأعظم.. “يا ناظِراً في جَمالي حقق النّظَرا”

تعج بالمدينة بكثير من شواهد التاريخ، لكن أبرز المعالم التاريخية للمدينة هو بدون منازع مسجدها الأكبر الذي يحمل اسم المسجد الأعظم، وقد شيّده الموحدون واعتنى بزخرفته وتزيينه المرينيون من بعدهم، ولا يمكن ذكر هذا المسجد دون الحديث عن الثريا التي تتوسّطه، وتعتبر ثاني أكبر ثريا في أفريقيا بوزن يفوق ثلاثة أطنان من النحاس، ويزيّنها أكثر من 500 مصباح. ويعود صنع هذه الثريا وتعليقها إلى العهد المريني، وتحديدا عهد السلطان يوسف أبو يعقوب، وذلك في أواخر القرن الـ13 للميلاد والسابع للهجرة.

المسجد الأعظم الذي شيّده الموحدون وتتوسطه الثريا التي تعتبر ثاني أكبر ثريا في أفريقيا

وتكفي الزائرين لهذا المسجد التاريخي، قراءة الأبيات الشعرية التي نقشت فوق الثريا، للاطلاع على تاريخها بشكل مختصر، حيث تقول:

يا ناظِراً في جَمالي حقق النّظَرا

ومتّعِ الطَّرْف في حُسْني الذي بَهَرا

أنا الثُّرَيـا التي تازا بــي افتخرت

على البلاد، فما مثلي الزمانَ يُـــرى

أُفرِغتُ في قالب الحُسن البديع كما

شاء الأمير أبو يعقوب إذ أمَـــرا

في مسجد جامعٍ للناس أبدَعهُ

مَلْكٌ أقام بعون الله منتصِـــــرا

بينما شهدت المدينة في العهد الموحدي أول عملية تحصين شاملة عبر بناء سور يحيط بها ويمنع القبائل المجاورة من الهجوم عليها. وشكّل هذا السور الموحدي الحدود التي ستبقى عليها المدينة العتيقة لتازة، مع ما يتخلله من أبواب سبعة، هي كل من باب الرّيح وباب الجُمعة وباب الشريعة وباب الزيتونة وباب طيطي وباب أحرّاش وباب القبور[11].

إجهاض أول مشروع لإقامة وطن لليهود.. مهد الدولة العلوية الأول

يجزم المتخصص في تاريخ مدينة تازة، عبد الإله بسكمار، بوجود إجماع لدى المصادر التاريخية على أن منطقة تازة شهدت اللحظات التاريخية الأولى لتأسيس الدولة العلوية القائمة في المغرب منذ أكثر من أربعة قرون، في سياق إنهاك عام عرفته البلاد طيلة النصف الأول من القرن 17، مع الاحتضار النهائي للدولة السعدية التي اقتصر نفوذها على مراكش وأحوازها[12].

في تازة، تم تأسيس الدولة العلوية على يد المولى الرشيد

ويوضح بسكمار سياق تأسيس الدولة العلوية فعليا على يد المولى الرشيد، بعدما تأسست رمزيا على يد مولاي علي الشريف، بمرحلة اتسمت باجتماع كثير من المصائب على المغرب، منها أزمات اقتصادية وحروب من كل الجهات ومجاعات.. وصادف كل ذلك تراجع نشاط طرق القوافل التجارية الصحراوية التي كانت تمثل المورد الرئيس للمغرب، لحساب حركة الجهاد البحري التي تقوت نتيجة وفود المهاجرين الأندلسيين إلى المغرب بداية القرن 17، حيث استقر قسم كبير منهم بمدينة تازة، وفيها اتخذ المولى الرشيد عاصمة حكمه.

وقد شرع المولى الرشيد في التأسيس لحكمه مستفيدا من دعم زاوية الشيخ عبد الله اللواتي التي يقول المؤرخ بسكمار إنها حمته من تحرشات أخيه المولى محمد الأول، إذ كان يخوض معاركه في المغرب الشرقي ضد العثمانيين.

ويذهب كثير من المؤرخين -ومنهم المؤرخ الراحل عبد الهادي التازي- إلى أن المولى الرشيد أجهض خلال وجوده في تازة ما تصفه المصادر بأول مشروع صهيوني لإقامة دولة لليهود، وكان يقوده شخص يدعى هارون بن مشعل، حيث قضى عليه المولى الرشيد وصادر أمواله، وهو ما سمح له بشراء الأسلحة اللازمة لحسم المعركة ضد جيش أخيه محمد، ومواصلة الزحف على الحكم، بعدما استقبل في المدينة مبعوث الملك الفرنسي “لويس الرابع عشر”، وثبّت أسس حكمه لينتقل إلى فاس كعاصمة تاريخية للمملكة.

قصة هذا المبعوث الخاص للملك الفرنسي “رولان فريجسون” الذي حلّ بها في جبة التاجر، يحكيها بنفسه في بعض المصادر، حيث يصف مدينة تازة بكونها تقع فوق صخرة كبيرة، كما يصف طريقة دخوله إلى المدينة، حيث اجتمعت من حوله حشود “الأهالي” كما وصفهم، مما تطلّب تسخير عدد من عبيد السلطان ليفسحوا له الطريق[13].

ثورة بوحمارة.. عاصمة السنوات السبع التي تمزق فيها شرق المغرب

شهدت مدينة تازة في مطلع القرن العشرين محاولة لأحد إخوة السلطان العلوي الشرعي المولى عبد العزيز للسيطرة على الحكم على طريقة مؤسس الدولة المولى الرشيد. وقد قاد القائد العسكري الجيلالي الزرهوني -الذي يعرف في المغرب بألقاب مثل “بوحمارة” و”الروكي”- تمردا ضخما على السلطان انطلاقا من المجال الشرقي للمملكة، حيث زحف في اتجاه الغرب إلى أن استقر في منطقة تازة، جاعلا منها معسكرا لجيشه، قبل أن يشرع في التخطيط للزحف على فاس والاستيلاء على الحكم.

عاشت تازة عصرا من الثورات والانقلابات ومن بعد ذلك اختلالها من قبل فرنسا بعد حرب دامت عشرين عاما

دام هذا الوضع سبع سنوات، حيث كانت تازة عاصمة لمنطقة خارجة عن حكم السلطان الشرعي، ولم ينته هذا الوضع إلا بعد اجتماع تحالف قبلي كبير تحركه مشاعر دينية باعتبار السلطان العلوي في المغرب ينحدر من آل البيت، ليتم القضاء على “ثورة بوحمارة”.

“تازة أولا”.. مدينة الصخرة العصية على الاستعمار الفرنسي

رغم حصول فرنسا على حق بسط حمايتها على المغرب رسميا في سنة 1912 بناء على معاهدة مع السلطان، فإن دخول السلطة الفرنسية إلى تازة بقي مؤجلا إلى غاية العام 1914، حيث تطلب الأمر مجهودا عسكريا خاصا لاختراق تحصينات المدينة، ورغم الدخول الفرنسي الرسمي إلى تازة، فإن إخضاع قبائلها تطلب أكثر من عشرين عاما من الحرب الطاحنة.

فبعدما احتلت مناطق استراتيجية من المغرب بالقوة العسكرية، خاصة منها مناطق وجدة (شرق المغرب في الحدود مع الجزائر) وما يحيط بها، ومدينة الدار البيضاء وجوارها في غربه، كانت أولى مهام قوة الاحتلال بعد حصولها على استسلام السلطان مولاي عبد الحفيظ، هو القضاء على الحصار الذي فرضته القبائل على مدينة فاس نقمة منها على تخاذل السلطان في مقاومة التغلغل الاستعماري.

بعد تأمينها للعاصمة ومحيطها كانت أول وجهة للقوات الفرنسية هي مدينة تازة لما تشكله من ممر استراتيجي لربط فاس بوجدة المحتلة أصلا وما بعدها من أراضي الجزائر المستعمرة منذ 80 عاما. وتكاد هذه المرحلة تلخصها العبارة المنسوبة إلى الجنرال الفرنسي “هوبير ليوتي” التي تقول “تازة أولا”. وقد حرص هذا الجنرال -الذي كان يقود مهمة إخضاع مناطق المغرب الرافضة للحماية الفرنسية بالقوة- على قيادة معركة اقتحام تازة بنفسه، موجها قوات الجنرالين الفرنسيين اللذين توليا قيادة فكي الكماشة العسكرية التي خصصت لفتح “الممر”، واحدة قادمة من الشرق المحتل، وأخرى أتت من الغرب[14].

استمرت المقاومة بممر تازة حوالي 18 سنة، ولما نجحت التهدئة وقع تغيير الخط السككي الصغير بالخط العادي عن طريق أعمال السخرة القاسية، وذلك عبر ممر تازة البالغ طوله 40 كلم، حيث حفرت وبنت السلطات الفرنسية عن طريق العمال المغاربة نفقين كبيرين يعدان من أطول أنفاق شمال أفريقيا[15].

لعنة الثورات والسياسة.. من ماضي الأمجاد إلى حاضر النسيان

رغم هذا الماضي الحافل الذي صنعته مدينة تازة التاريخية، فإنها تشكو في العقود الأخيرة من تهميش يقول أبناؤها إنه يطالها على جميع المستويات. ويستقر في الخلفية الذهنية لهذا الإحساس، تفسير يتمثل في ارتباط اسم المدينة بسلسلة من التمردات والأحداث التي جعلتها تدفع ثمنا باهظا، وهو ما زاد من تفاقمه إغلاق الحدود المغربية الجزائرية منذ العام 1994، إثر اتهام المغرب للجزائر بالوقوف وراء هجوم إرهابي ضرب أحد فنادق مراكش، حيث فقدت وظيفة “الممر” أي معنى لها، بما أن حركة تنقل الأشخاص باتت تتوقف عمليا عند مدينة فاس.

“بو حمارة” أمير دحر جيوش السلطان وانتهى به الحال مسجونا في قفص

فمنذ “ثورة بوحمارة” الشهيرة التي كادت تعصف بحكم السلطان الشرعي للمغرب في بداية القرن العشرين، وبعد تحوّلها إلى واحدة من أشد مناطق المغرب مقاومة للمد الاستعماري الفرنسي الذي كان يتحرك بتحالف مع السلطان الشرعي للمغرب وبناء على معاهدة موقعة معه.

ثم ما تلا استقلال المغرب من أحداث مثل المواجهات الدامية التي عرفها الريف القريب من تازة مع السلطات المركزية، ومشاركة بعض أبناء المدينة ومحيطها في محاولات انقلابية ضد ملك المغرب، كل ذلك جعل تازة تغوص في بركة عميقة من النسيان.

 

المصادر:

[1] لسان الدين بن الخطيب، “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار”، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1423هـ
[2] shorturl.at/rCGPT

[3] shorturl.at/agGO4

[4] عبد الوهاب بنمنصور، “مع جلالة الملك الحسن الثاني في فاس وتازةووجدة وتلمسان، 21-27 مايو 1970″، المطبعة الملكية، الرباط 1970

[5] عبد الرحمن المودن “البوادي المغربية قبل الاستعمار: قبائل إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر”، منشورات جامعة محمد الخامس بالرباط، كلية الآداب،, 1995

[6] shorturl.at/qwCT2

[7] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/6284

[8] http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/6284

[9] امحمد العلوي الباهي، “علماء تازة ومجالسهم العلمية”، 2018، الطبعة الثانية

[10] shorturl.at/hotN2

[11] shorturl.at/fltAQ

[12] https://www.maghress.com/tazatoday/18634

[13] https://www.hespress.com/histoire/473907.html

[14] https://www.maghress.com/tazatoday/24313

[15] shorturl.at/kIZ19


إعلان