“ابن عمي الإنجليزي”.. أثقال مغترب جزائري يعود إلى الوطن
عبد الكريم قادري
يُعاني “فهد” بطل الفيلم الوثائقي “ابن عمي الإنجليزي” (2019) للمخرج الجزائري كريم صياد؛ من أزمة نفسية حادّة تعكسها أحد الجُمل التي قالها في متن الفيلم جاءت على شكل سؤال لا ينتظر من خلال طرحه إجابة من أحد، بل يُسائل به نفسه فقط، أو يؤانس به روحه ليُجامل بها حاضره حتى لا يتفاجأ مما يحمله المستقبل؛ “هل سأقضي حياتي كلها في المنفى؟”.
من خلال هذه الجملة تتجلى فكرة الفيلم الذي يبحث في مشكلة تفكك الهوية وبداية محاسبة النفس على ما تحقق وما لم يتحقق بمنطق الربح والخسارة، الفرح والحزن، الوحدة والأنس، الابتعاد والاقتراب. هذه الثنائيات سكنت حياة فهد صياد الذي يعيش في بريطانيا، حيث منفاه الاختياري الذي عاش فيه 17 سنة، كانت بدايته بالمبيت في الشوارع وتحت الجسور في ليالي بريطانيا الباردة. ولأنه شخص منضبط استطاع أن يتحصل على وثائق الإقامة بشكل نظامي، لينتهي به المطاف في منزل مشترك وعمل في محل مأكولات خفيفة.
ليالي بريطانيا الباردة.. وحدة وكآبة
في هذه اللحظة الحاسمة من حياة فهد المضطربة تبدأ معاناته النفسية، إذ تقدّم به العمر ووجد نفسه وحيدا في بيت مشترك، بعد أن فشلت علاقته مع زوجته البريطانية، ليجد وقتها أنه يعيش بضمير الفرد في هذا البلد منذ 17 سنة، حيث لا زواج ولا أسرة، فهو بعيد عن بلده وأهله وأسرته وأمه التي يريد أن يقضي معها ما تبقى من عمرها المفترض. فهو يؤنس وحدته في ليالي بريطانيا الباردة بمكالمات فيديو هاتفية يجريها مع من تربطه بهم علاقات في بلده الأم، ليسمع لهجاتهم وانفعالاتهم وضحكاتهم وأنين أشواقهم.
هذه العواطف المختلفة يُحاول أن يطرد بها ما علق في ذاكرته من أحداث سيئة، ويواجه بها بوادر كآبة بدأت علاماتها في الظهور، لهذا بدأ جديا في البحث عن حلول عملية لها قبل أن تتطور وتصبح مرضا نفسيا سيقضي عليه لا محالة إن طال. فمن هنا قرّر العودة إلى الجزائر للبحث عن زوجة، وإنشاء مشروع يضمن له دخلا ماديا لقضاء ما بقي من عمره مع أسرته وفي بلده الأم.
“أكثر مما يعرف نفسه”.. حفر في الذات
استطاع المخرج كريم صياد في هذا الفيلم أن يقترب من بطل فيلمه “ابن عمي الإنجليزي” ليحفر عميقا في ذاته، وينجح في استخراج العديد من المخاوف التي ترسمها تشظيات الهجرة التي تطغى على المهاجر، بحكم أن بطل العمل فهد هو ابن عم المخرج كريم صياد.
من هنا كانت المُلازمة التي حدثت بينهما مثمرة إلى حد كبير، فقد تصيّد بها المخرج لحظات مهمة صنع بها هذا العمل، سواء من خلال مرافقته بالكاميرا في بريطانيا، أو أثناء عودته إلى الجزائر، هذه القرابة جعلت المخرج يقترب أكثر من العائلة، ويفسر العلاقة التي تجمع فهد العائد حديثا إلى الجزائر مع أسرته الكبيرة والصغيرة، بعد أن تسللّت عدسة الكاميرا إلى غرفة نومه ومطبخ العائلة ورواق البيت وسطح المنزل، وحتى في الفضاءات التي يزورها فهد.
وقد اكتشف المُشاهد بسهولة تامة الروابط المهمة التي تجمع فهد بخالته، إذ تعرف كل تفاصيل حياته وتقلباته النفسية والحياتية، تعرف خبايا نفسه، وتستخرج منه ما يود أن يقوله أو يفكر فيه، وبعبارة أشمل خالته التي تعرفه أكثر مما يعرف نفسه.
“هجرة مضادة”.. البحث عن زوجة في الوطن
استخرج المخرج بواسطة العلاقة بين فهد وخالته وعلى لسان الخالة بالذات العديد من المعطيات المهمة حول حياة فهد في الجزائر، خاصة إحساسه بالغربة داخل وطنه، حتى أنه فشل عدة مرات في الارتباط بجزائرية، بعد أن طُرحت فكرة ما إن كانت المرأة الجزائرية تبحث من خلال الموافقة على الزواج بفهد على وثائق الإقامة في بريطانيا، وفي المقابل طرح فهد مبدئيا فكرة الاستقرار في الجزائر وتأسيس مشروع يدرّ عليه دخلا ما، لكن العديد من النسوة يبحثن عن مساحة جديدة في فضاء مغاير خارج الجزائر، وهذا ما لا يوفره لهن هذا الزواج.
من هنا تسقط فكرة الزواج من أجل المصلحة والوثائق، بمعنى بأن هناك “هجرة مضادة” بطلها فهد الذي سئم العيش وحيدا في بريطانيا، لكن الناس في الجزائر ينظرون إلى قراره هذا بعين ريبة، أو أنه جنون وطيش مؤقت، خاصة من الخالة التي كانت مُحقة في طرح العديد من الآراء الصحيحة حول فهد، إذ قالت إنه تعوّد على نمط حياة معين في المنفى، وهذا ما لا يقدر أن يُسقطه على حياته في الجزائر، والعكس صحيح. لتكون الخالة مُحقة في الكثير من المسائل، وطرفا مهما في مسار هذا الفيلم الوثائقي.
استطاع الفيلم من خلال الخالة تفكيك مفهوم الهجرة وتجلياتها عبر العديد من المواقف، أهمها حين سألت ابنها الذي يبلغ من العمر عشر سنوات عن نظرته إلى النساء، حيث قال لها بأنه لن يكون مثل فهد، فقط يلتزم بزوجته وعلاقة واحدة، كما قال إنه يفكر في الهجرة مستقبلا عندما يكبر، وذلك من أجل البحث عن حياة أفضل وإيجاد فرصة أحسن، هذه الحياة التي تركها فهد خلفه بعد أن قرر العودة إلى الجزائر.
بين وطنين.. أسئلة الفراغ والكساد
عبّر المخرج كريم صياد في عدة مشاهد من فيلمه عن الفراغ المعنوي الكبير الذي يعيشه فهد في بريطانيا، وذلك بواسطة تكرار المشاهد التي يكون فيها جالسا على أريكة البيت يتناول الطعام أمام التلفزيون، وهذه إحالة ذكية على الملل والكآبة والفراغ الداخلي الذي يعيشه.
أما الفراغ الخارجي المادي فتعكسه المدينة الخالية من المارة التي يعيش فيها، خاصة وأنها مدينة حدودية مُطلة على البحر، إضافة إلى أن هناك العديد من المحلات المغلقة وحتى المصانع والبنايات التي تهدم بسبب انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو القرار الذي انعكس سلبا عليها، وقد تزامن وقت قرار فهد بتركها مع توقيت تصويت الشعب البريطاني على ترك أوروبا.
هو ربط ذكي للمخرج يُلخص الوضع العام ومدى تأثير هذا الأمر على الشعب والمهاجرين بشكل خاص، فهو إحالة على الكساد والعجز في العمل وهجر المدينة، لكن وبعد أن عاد فهد إلى وطنه الجزائر ووقف بنفسه على بعض المسائل وجد نفسه غريبا، لذلك عاد من جديد. غير بريطانيا لا يبدو أنها ستعود إلى حضن الاتحاد الأوروبي من جديد، خاصة بعد الخروج النهائي، من هنا وجب طرح السؤال الذي من المؤكد بأنه جال بطريقة ما في ذهن بطل الفيلم، وهو هل سيبقى هذا الكساد بعد أن زالت مسبباته أم أنه سيطول أكثر، وفي الوقت نفسه هل ستزول الأسباب التي قررّ من خلالها فهد العودة إلى الجزائر؟ أو أنها أزمة منتصف عمر ومرحلة وستمضي؟
ومن جهة أخرى وامتدادا لذكاء المخرج كريم صياد في ربط الأحداث النفسية المعنوية بوقائع ميدانية، فإن قرار فهد بالعودة إلى بريطانيا جاء تزامنا مع خروج الشعب الجزائري في مظاهرات يوم 22 فبراير/شباط 2019، غير أن فهد لم يكن بين المتظاهرين، وكأن هذا الأمر لا يعنيه، خاصة وأنه أصبح مواطنا بريطانيا، وعندما عاد إلى الجزائر لم يحسّ بمواطنته فيها، لكن في المقابل قريبه الطفل ذو السنوات العشر خرج متحمسا لها وشارك فيها بعد أن رفع صوته عاليا كي يسقط النظام السياسي الذي حتّم على فهد الهجرة، وفي الوقت نفسه يساهم في رسم مستقبل جديد لنفسه سيجده جاهزا حين يكبر.
حيث سار المهاجر.. رحلة في الاغتراب
استطاع فيلم “ابن عمي الإنجليزي” (82 دقيقة) لكريم صياد أن يقترب من الذات ويحفر فيها عميقا، ويكشف قلق فهد الإنسان وما يجول في أحلامه وكوابيسه، ومشى على الدرب الذي سار فيه ليفهم أكثر هموم المهاجر وخوفه المستمر من المستقبل الذي بات هاجسا يؤرقه، بسبب الوحدة الروحية والاغتراب عن الوطن. واستطاع المخرج أن ينقل كل ذلك إلى الجمهور المتلقي، ويوصل لهم هذه الأحاسيس المبعثرة التي لا يقف على تفاصيلها إلا مُهاجر مُغترب.
شارك الفيلم الوثائقي “ابن عمي الإنجليزي” الذي ساهمت في إنتاجه جهات مختلفة من الجزائر وسويسرا وفرنسا وقطر عن طريق برنامج المنح من مؤسسة الدوحة للأفلام في العديد من المهرجانات المهمة، أبرزها الدورة الـ44 لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي بكندا.