“الأمازون من غير حماية”.. سوسة تنخر أسوار حصن العالم

قيس قاسم

يختلف الفيلم الوثائقي “الأمازون من غير حماية” للمخرج البرازيلي “أستِافاو تشيافاتا” عن بقية الأفلام الأخرى التي اهتمت بالحياة الطبيعية في غابات الأمازون المطيرة، وذلك لتناوله جانبا خاصا يتعلق بالعلاقة المتوترة بين سكانها الأصليين والحكومة المركزية في العاصمة برازيليا، التي فشلت في حمايتهم وحماية أراضيهم وأنهارهم وظلت تماطل في الشروع بوضع خارطة تفصيلية تُبيّن حدود المناطق المأهولة بالسكان والمورثات الثقافية، وذلك لمنع أصحاب المشاريع التجارية من التجاوز عليها بحجة عدم وجود مخطط واضح لها.

لم تستجب الحكومة للمطلب العادل لسكانها، لهذا شرعوا بتشكيل اتحاد من القبائل الأمازونية بقيادة الزعيم “خواريز ساو موندوروكو” لمواجهة المافيات المستولية على أراضيهم، ولمنع عمليات اقتلاع أشجار غاباتهم بطرق غير قانونية قاموا بتشكيل فرق تطوعية من عندهم، ليتولى المنضمون إليها تثبيت حدود مناطقهم بأنفسهم، والدفاع عنها عند الضرورة.

لرصد “الحراك” الشعبي الذي بدأ بالتبلور منذ عام 2014، احتاج صانع الوثائقي إلى البقاء طويلا داخل الغابات لملاحقة تطورات القضية التي بدأت بالتصاعد مع إصرار الشركات التجارية على تنفيذ مشاريعها، رغم رفض أصحاب الأرض لها.

أشجار غابات الأمازون التي يعتبرها سكانها بمثابة شريان الحياة بالنسبة لهم

 

“أوايديب”.. شريان الحياة

قادت الملازمة الطويلة للسكان الأصليين في منطقة بارا شمال البرازيل؛ مُخرِج الفيلم للتفكير في فتح عدسات كاميراته على عالم الأمازون الواسع والتعرف على ثقافة سكانه من خلال مجالستهم والاستماع إلى قصصهم، بموازاة استمراره برصد تطورات فكرة “الدفاع الذاتي”، ومُنطلقها الأساس وضع حد لاقتلاع أشجار الغابات، بطرق غير شرعية وإيقاف بناء المشاريع الصناعية على ضفاف الأنهار.

يقدم الوثائقي في مُفتتحه معلومات تساعد على فهم أسباب الحراك، ومن بينها أن 20% من أشجار الغابات، التي سكنها الإنسان منذ أكثر من 14 ألف سنة، قد اقتلعت من جذورها، وأن الحرائق الكثيرة بفعل الإنسان الدخيل عليها، قد تسبب في موت 20% أخرى من مساحاتها. ويؤكد العلماء استحالة إعادة الـ40% المفقودة، في ظل تواطؤ الحكومة البرازيلية مع أصحاب الشركات الكبيرة، وبالتزامن مع المتغيرات المناخية الكونية فإن نسبة دمارها مرشحة للتصاعد، لا العكس.

اقتلاع أشجار الأمازون وتسميم أنهارها يعني لسكانها الموت المؤكد لهم ولأرضهم. يسمع الوثائقي كلاما من شيخ قبيلة يصف فيه “أوايديب” (الكلمة تعني الغابات بكل أنواعها في لغتهم الأصلية) بأنها هي الحياة، وأن موتها يعني موتهم، فهي مصدر طعامهم وشرابهم وهي الهواء الذي يستنشقونه، وهي كل ما يملكون ولهذا فإن الدفاع عنها هو دفاع عن الحياة نفسها قبل كل شيء.

 

جنرالات الاحتلال.. حلف اللصوص

رغم برازيليتهم التي يعتزون بها فإنهم يسمون حكوماتها “بالمحتلة”، وقد ترافقت التسمية مع انطلاق الانقلابيين العسكريين في سبعينيات القرن المنصرم بغزو الأمازون عنوة، وعبر اتفاقهم مع رأسماليّي البلد على استيطانها قام الجنرالات بمنح الأثرياء الراغبين في تحويل الغابات إلى مزارع ماشية وحقول لزراعة فول الصويا بكميات تجارية، برخص ملكية مزورة.

وافق الجنرالات على فتح الطرق السريعة عبر غاباتها، وعلى إقامة مشاريع مربحة بالقرب من ضفاف أنهارها، ويصور الوثائقي المشهد الخارجي للمناطق القريبة من نهر “تاباخوس” وكيف تحولت إلى أراضي خالية من الأشجار والحياة، ويقدر العلماء المساحات المقلوعة أشجارها من الأمازون بحوالي 100 مليون هيكتار، أي بقدر مساحة فرنسا وألمانيا مجتمعتين.

خرائط توضح الإرث الثقافي والتاريخي للسكان الأصليين، وذلك لإيقاف سرقة الأرض من قبل الحكومة

 

في خدمة اللصوص الأثرياء.. ألاعيب الحكومة

لمعرفة ما يعني حصول المستثمر الخارجي على تصاريح حكومية تخوله الاستيلاء على الأراضي، يذهب الوثائقي مع وحدة عسكرية من وحدات حماية الغابات في منطقة “إيباما”، ورغم قلة فعاليتها فإن رجالها يحاولون قدر المستطاع؛ تحجيم واحدة من أكبر عمليات الاستيطان والتزوير في التاريخ.

يُفهم من كلام بعض الضباط أن أصحاب الشركات غالبا ما يقدمون أثناء التفتيش أوراقا رسمية صادرة من العاصمة تؤيد امتلاكهم لأرض غير تابعة لأحد، وأنهم يقومون بعمل شرعي لا غبار عليه. ويشرح عدد من العلماء الأنثروبولوجيين المرافقين للوحدات والقريبين من السكان الأصليين ألاعيب الحكومة، عبر توضيح حقيقة أن سكان الغابات الأصليين لا يملكون سندات ملكية للمناطق المقيمين فيها، فهم عاشوا هكذا مع الطبيعة ولا يجدون حاجة لورقة تثبت انتمائهم إليها.

من بين الحقائق المفزعة أن أغلب الأراضي التي يحصل أصحاب الشركات على حق إقامة مشاريع فوقها هي في الأساس مناطق أُفرغت من السكان الأصليين بالقوة، وفي بعض الأحيان بفعل الحرائق التي يتعمدون إحداثها لتُجبِر الناس على الابتعاد عنها بمسافة، فاللصوص الأثرياء يأتون عادة بمهندسين ومسّاحين ليقوموا برسم وتحديد الأراضي المراد سرقتها، ويحصلوا بموجبها على قرار حكومي يمنحهم حق الاستثمار فوقها.

من هنا جاءت أهمية دعوة السكان الأصليين للحكومة بضرورة وضع مخطط وخرائط واضحة تحدد المناطق المسكونة وتلك التي لهم فيها إرث ثقافي وتاريخي لا يحق لأحد الاستحواذ عليه.

جرائم منظمة لإبادة الغابات، حيث يُقدّر خبراء أن حجم عمليات قطع الأشجار وبيعها يتم بمليارات الدولارات

 

مماطلة متعمدة.. جرائم الإبادة البطيئة

قُدم مشروع تخطيط الغابات الماطرة إلى الحكومة عام2013، وبعد مرور ست سنوات عليه يرافق الوثائقي وفدا من سكان الأمازون بصحبة نشطاء بيئيين وعلماء أنثروبولوجيين إلى العاصمة لملاحقة الطلب ومعرفة مآلاته.

يقدم ممثلو الحكومة أسبابا واهية لتبرير تأخر إقراره، بينما يعرض سكان الأمازون حقائق دامغة تؤكد مضي الشركات في مشاريعها، كما يقدمون وثائق تُبيَّن قيام الدولة ببناء مشاريع خطيرة لتوليد الطاقة الكهربائية بالقرب من مساقط وضفاف الأنهار، وأن عمليات قلع الأشجار ما زالت مستمرة وفي تزايد.

يُسهم الوثائقي في الكشف عن الجرائم المنظمة لإبادة الغابات، من خلال عرضه لتسجيلات ومكالمات هاتفية جرت بين وسيط لبيع الأراضي وبين أصحاب شركات ومزارع، وهذه المكالمات -التي حصل عليها سرا- كل واحدة منها هي عبارة عن صفقة مشبوهة بملايين الدولارات، يحصل الوسيط على نسبة منها مقابل تحديده الأراضي التي تمكن سرقتها، وأيضا تهيئته للأوراق الرسمية التي تؤكد عدم ملكيتها لأحد، عبر تقديمه رشاوى لموظفين حكوميين في العاصمة.

ويقدر خبراء قانونيون للوثائقي الاستقصائي حجم عمليات قطع الأشجار وبيعها مع بقية مشاريع زراعية أخرى بمليارات الدولارات.

وحدة خاصة من وحدات حماية البيئة خلال توثيقها ما يقوم به قاطعو الأشجار على الأرض

 

فوارق الطبقية.. لصوص الواقع المُزري

يمضي الوثائقي في توثيق ما يجري على الأرض، عبر مرافقته وحدة خاصة من وحدات حماية البيئة أثناء دهمها أحد أوكار قاطعي الأشجار، بعد إلقاء القبض على عدد منهم، ليتضح أنهم يحصلون على مبالغ مقابل عمل يعرفون مسبقا بأنه غير شرعي، ويبررون ذلك بالبطالة المنتشرة بين الهنود الأصليين.

يتوقف الوثائقي عند نقطة أشار إليها أحدهم تُعبر عن الفوارق الطبقية والمجتمعية في البرازيل اليوم، فالفقراء وسكان المناطق البعيدة لا يحصلون على تعليم جيد، وبالتالي فإن فرصهم في نيل الوظائف المهمة والجيدة معدومة تقريبا، ولا يبقى أمامهم سوى العمل مع اللصوص الأثرياء.

يستخدم قاطعوا الأشجار آلات متطورة في عملهم يوفرها لهم أصحاب المشاريع، أما المشرفون المباشرون عليهم فلديهم أجهزة اتصال متطورة والكثير من السلاح الممنوع. ينقل ضابط لمعد الوثائقي تفاصيل مواجهة مسلحة جرت بين كبار لصوص الأشجار، ووحدة تابعه له انتهت بمقتل أحد جنودها.

المخرج البرازيلي “أستِافاو تشيافاتا” مع سكان الأمازون وحماتها

 

قتل بالورق.. الدفاع الذاتي

يثمن سكان المنطقة جهود وحدة حماية الغابات، ولكنهم يعتبرونها غير كافية لإيقاف الدمار الذي يحل بمناطقهم، لهذا شرعوا هم بتأليف وحدات مواجهة خاصة، أسلحتهم بدائية لكن عزيمتهم قوية. يصور الوثائقي إحدى المواجهات تنتهي بهروب اللصوص المسلحين أمام مجموعة من المتطوعين الشباب، وعلى مستوى التخطيط يجري عمل منظم ومثمر، إذ يقوم المشاركون فيه بزيارة المناطق البعيدة وتثقيف أهلها بضرورة الانخراط في عمليات الدفاع الذاتي.

للدلالة على فعالية عملهم يرافق صناع الوثائقي مجموعتين انطلقتا في وقت واحد من مكانيين مختلفين، والتقتا في نقطة واحدة، بعد أن خرقتا الغابة وسجلتا كل موقع فيها ولأي قبيلة يعود، مع وضع علامات دالة على عائدية الأرض لأصحابها الشرعيين، ويخطط سكان الأمازون لاستخدام الخرائط الطبيعية والسكانية كوثيقة يشهرونها في وجه الحكومة وأصحاب الشركات، بعدما تأكد لهم أن قاتليهم يستخدمون أساليب غير تقليدية لإبادتهم.

يصف أحد زعماء السكان الأصليين فعل القتل بالشكل التالي: عندما وصل الرجل الأبيض المحتل إلى هنا، قام بقتل الهنود الأصليين بالبنادق النارية، أما اليوم فهو يقتلنا بالأوراق المزورة، يقتلنا بأخذ ما نملك، وبالتواطؤ مع حكومة لا تهتم بمصيرنا ولا بمصير الأمازون.

رقصات تراثية.. جمالية لا تقدر بثمن

ما يملكه الأمازونيون لا يقدر بثمن، لهذا راح الوثائقي يصور جمالياته وثراءه، فصور الأنهار الرائعة والغابات المذهلة، ووثق رقصات القبائل وعاداتهم، مرفقا ذلك الجمال الطبيعي والبسيط بكلام لزعماء قبائل يتحدثون عنه بعبارات شاعرية مؤثرة، تستمد معانيها العميقة من ثقافة أصيلة وحضارة إنسانية موتها هو خسارة للأرض وكل ما عليها.


إعلان