مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة.. سينما باللون الوردي في مهد الفراعنة
د. أمــل الجمل
يُعد مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة المهرجان الثالث في مصر الذي يتخذ من قضايا النساء موضوعا لفعالياته، فقد أسس المهرجان الأول على أيدي الناقد السينمائي الراحل سمير فريد عام 2005، واستمر لمدة دورتين ثم توقف، وفي عام 2008 قامت المخرجة المصرية أمل رمسيس بتأسيس مهرجان سينما المرأة، وكانت تلك التظاهرة في الأساس مبادرة أطلقتها مجموعة نساء لطرح الأفلام المستقلة التي صنعتها نساء من مصر ومختلف دول العالم. واستمر حتى العام 2018 ثم توقف بسبب نقص الدعم.
مع ذلك تعود خصوصية مهرجان رمسيس إلى كونها جعلته مُكرِسا لعرض إنتاج المرأة المبدعة ومناقشة كافة قضاياها أيا كان إنتاجها، سواء كان يتناول قضايا النساء أو حتى إشكاليات بعيدة عن شؤون المرأة كأمور سياسية أو اقتصادية، المهم أن يكون العمل من توقيع المرأة.
ثم وُلدت التجربة الثالثة قبل أربع سنوات، إذ ظهر للنور مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، الذي تأتي خصوصيته من وجوده في جنوب مصر، وتحديدا أسوان المتميزة بتراثها وآثارها الفرعونية وطقسها الخلّاب طوال شهري يناير وفبراير. إنه خطوة تعمل على دعم الجانب الثقافي والتوعوي عند أهل المدينة إن سار المهرجان في الطريق الصحيح، فتلك المحافظة لا يوجد بها سوى اثنتين من دور العرض السينمائي فقط، وتحتاج إلى مزيد من التنمية ودعم الأنشطة الثقافية ومساندة المرأة هناك.
وقد نجح منظمو المهرجان في استقطاب جهات حكومية داعمة لنشاطهم، مثل المجلس القومي للمرأة ومؤسسة “منتدى نوت” لقضايا المرأة، وكذلك الحصول على دعم من الاتحاد الأوروبي عبر تقديم جائزة لأحد الأفلام الروائية أو الوثائقية الطويلة المشاركة بمسابقات المهرجان. مع ذلك لا تزال الميزانية ضئيلة، فهل سيصمد ويستمر أم أنه سيلقى مصير سابقيه؟ إنه سؤال ستُجيب عنه السنوات القادمة.
بلسان عربي مبين.. زمام المبادرة
تميزت دورة هذا العام التي استمرت من 10 وحتى 15 فبراير/شباط الجاري بأن جميع الأفلام ترجمت إلى اللغة العربية للمرة الأولى، وهو أمر شديد الأهمية، خصوصا عندما نتحدث عن ارتفاع نسبة الأمية في أرض الكنانة، إضافة إلى مأزق اللغات الأخرى التي لا يُجيدها الكثير من البسطاء الذين يدخلون القاعات السينمائية لمشاهدة الأفلام. وهو أمر شائع دوليا، لذلك تقوم المهرجانات الكبرى بترجمة جميع الأفلام إلى لغتها الأم، كما يحدث في برلين وكان وفينيسيا (البندقية). فلا أحد يتعالى على لغته الأم، ولا أحد منهم يكتفي بشريط الترجمة إلى اللغة الإنجليزية.
كذلك جاءت الأفلام المشاركة مرتفعة المستوى الفني، فربما يلعب هذا دورا في إعادة تشكيل وعي جمهور تعوّد أغلبه على دخول السينما لأجل التسلية والترفيه، وربما مشاهدته لتلك الاختيارات تؤثر في وجدانه، خصوصا أنها اختيارات تميزت بوجود نماذج قوية من النساء تُثير النقاش، نساء قادرات على الصمود في وجه الصعاب والمعوقات.
كذلك تنوعت القضايا التي تمسّ واقع المرأة وعالمها بتلك الأفلام من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، من الهند وأمريكا وأفريقيا وأوروبا والصين، من البرازيل وإسبانيا وفرنسا وكوسوفو وكرواتيا والمغرب وهولندا والمجر ومصر.
“منزل آجا”.. مأساة من حكايات الحرب الصربية
حصد فيلم “منزل آجا” حصة الأسد من الجوائز، فإلى جانب جائزة جمعية النقاد المصريين التي تحمل اسم سمير فريد؛ فقد نال الفيلم أيضا في مسابقة الأفلام الطويلة جائزة “أحسن فيلم” و”أحسن إخراج” و”أحسن تمثيل”. الفيلم من إنتاج أربع دول هي كوسوفو وألبانيا وكرواتيا وفرنسا، ومن سيناريو وإخراج لينديتا زيتشيراي.
يدور الفيلم حول مجموعة من النساء جمعت بينهن ظروف قاسية، إنهن ضحايا الحرب وضحايا الاعتداءات الجنسية المتكررة عليهن من جنود الصرب، بعضهن هربن باعتقاد أن المكوث في هذا البيت سيكون لفترة قصيرة، تنتهي بانتهاء الحمل والولادة والتخلص من الجنين بأي وسيلة، حتى لو كانت البيع، ثم يخرجن للعالم، لكن هذا لم يحدث أبدا.
يبدأ الفيلم من أحاديث النساء المتحلقات حول أوعية مملوءة بالفلفل الذي يقمن بإعداده للبيع، فلا أحد يعيلهن، حياتهن شاقة ويعتمدن على أنفسهن. لكننا الآن نراهن يضحكن، يُطلقن نكات بذيئة ويثرثرن طويلا، لا يتحدثن في شيء سوى العلاقات الجنسية فقط. إنهن عنيفات عدوانيات في تعاملهن مع بعضهن. ومع ذلك فعندما نتأمل تفاصيل حياتهن وشخصياتهن؛ نكتشف أن هذا ليس إلا النتيجة الحتمية للحرب التي خربت أرواحهن وعقولهن، ودمرت ما بقي من جزء إنساني فيهن.
إحداهن تحكي عن الفقر المدقع الذي هربت منه، وكيف باعها أهلها مقابل حصان للزواج من رجل، لكنها هربت للعمل في مكان يشبه الملهى الليلي، ثم اتضح أنه ليس مجرد ملهى، لكنه وكر لتجارة الجنس يُديره رجال أشبه بالمافيا للترفيه عن رجال الحرب.
المأساة الكبرى في هذا الفيلم هو الصبي ابن إحدى هؤلاء النساء، إنه لا يعرف حقيقة هويته، حيث أوهمته الأم أن والده رجل وطني محارب شجاع، وحكت طويلا عن بسالته، وصنعت منه أسطورة صدّقها الصبي، وعندما سألها عن مكانه أخبرته أنه مُعتقل في السجون الصربية، لكن الصبي في خاتمة الفيلم سيعرف قصته الحقيقية عندما يعود إلى البيت خلسة، ويستمع صدفة إلى حديث أمه أمام كاميرا التلفزيون، واعترافها بالاعتداء الجنسي الذي تعرضت له على أيدي الجنود الصرب الذين تناوبوا عليها كالذبيحة بالعشرات، إنها صدمة مُروّعة للصبي الذي كان يحلم بالبحث عن أبيه البطل في كافة سجون الصرب حتى يعثر عليه.
“بكاريته”.. راقصة الباليه الحالمة
رغم استحواذ “منزل آجا” على العديد من الجوائز، فقد كان هناك العديد من الأفلام الروائية الأخرى الجيدة في المسابقة، مثل فيلم “بكاريته” القادم من البرازيل، الذي شهد عرضه الأفريقي والعربي الأول بالمهرجان، وهو من إخراج “ألان ديبرتون”، وبطولة “مارسيليا كارتاكسو” و”جواو ميجيل”.
إنه عمل فيه شيء من روح وأجواء زوربا اليوناني، وذلك رغم اختلاف الأبطال وهويتها وملامحها. فهنا البطلة سيدة متقدمة في العمر كانت راقصة باليه، وعملت على مرّ السنين كمُدرّسة للرقص والباليه الكلاسيكي في فورتاليز، وبعد التقاعد وبعد أن صارت عجوزا تعود إلى مسقط رأسها، لكنها لا تستطيع التخلّي عن حلم الرقص، فتقرر تقديم عرض راقص هدية لسُكّان البلدة، لكن لا أحد يقبل ولا أحد يُساعدها، بل يصفها الجميع بالمجنونة، والأطفال يرمون نافذتها وباب بيتها بالحجارة.
هذا العنف المجتمعي الضاغط نرى كيف يستبدل روح الشخصية، حيث يقهرها وإن كانت لا تستسلم، لكن الفارق كبير بين حيويتها وإقبالها على الحياة ببهجة كبيرة في المشاهد الأولى، وبين الانكسار والهزيمة في المشاهد الأخيرة، وذلك رغم العناد ورغم تقديم الرقصة التي حلمت بها في النهاية على المسرح، لكننا نكتشف أنه كان خاليا تماما من الجمهور.
“بعلم الوصول”.. البحث عن خلاص المخلِّص
شارك بالمسابقة الفيلم الروائي المصري “بعلم الوصول”، وهو من سيناريو وإخراج هشام صقر، وبطولة الفنانة بسمة ومحمد سرحان وبسنت شوقي. كان فيلم افتتاح المهرجان يحكي عن زوجة وأم تحاول مواجهة أفكارها الانتحارية، ويحاول الزوج مساعدتها، لكن عدم تركيزه وانشغال ذهنه يجعله يرتكب خطأ في عمله يُعرّضه للحبس على ذمة القضية لعدة أشهر.
يطرح الفيلم جوانب أخرى لضغوط المجتمع على النساء، فإحداهن تتزوج عُرفيا بينما ترعى والدها المريض، والصبية أخت البطلة تواجه بعنف من والدتها بسبب حبها للرسم، بينما أهل الحارة يصفون البطلة بالمجنونة، لكنها لا تستسلم وتحرر نفسها بالكتابة في نهاية المشوار، مثلما تساعد زوجها في محنته، وتنجح في إبراز براءته.
فيلم جيد وإن كان لا يترك أثرا عظيما أو مؤثرا، لكن السيناريو كان بحاجة للمزيد من التفاصيل والشخصيات، فجاء أداء بسمة متقنا للشخصية، وربما يشهد عودتها المكثفة للتمثيل بعد الانفصال عن زوجها والعودة للاستقرار في مصر.
المرأة المصرية.. كلما اختلفت الحكايات تشابهت
شاركت من مصر أيضا ثلاثة أفلام أخرى، لكنها لم تكن ضمن المسابقة الرسمية الطويلة، وإنما داخل مسابقة الفيلم المصري، وقد نال اثنان منهما جائزة الاتحاد الأوروبي مناصفة، فقد قررت لجنة التحكيم بقيادة الناقد اللبناني إبراهيم العريس والمنتجة التونسية درة بوشوشة خرق ضوابط وشروط منح الجائزة، وجعلها مناصفة لأهمية العملين وفق كلمتهما. وهما فيلم “تأتون من بعيد” لأمل رمسيس، وفيلم ماريان خوري “إحكيلي” التي تمنحنا الفرصة كي نسمع الحكايات شديدة الخصوصية عن النساء في عائلتها من أربعة أجيال، وأثناء ذلك نرى ونسمع آراء يوسف شاهين وشهادته عن هؤلاء النساء ومديحه فيهن خصوصا أخته والدة ماريان، وكذلك يفعل المنتج جابي خوري أخوها. أثناء شهادات الأقارب تحاول ماريان أن تصنع صورة عن تلك النساء متساءلة: لماذا لم تصبحن في شهرة ونجاح رجال الأسرة رغم أنهن كن الأكثر ذكاء؟
في حين يتناول فيلم المخرجة أمل رمسيس “تأتون من بعيد” سيرة المناضل الفلسطيني نجاتي صدقي، وآثار النضال الأممي على أسرته التي أصابها الشتات، فإحدى بناته عاشت غريبة في الاتحاد السوفيتي، وحُرمت من والديها وصحبة أخويها، وعندما كبرت وأصبح بإمكانها العودة، أصبح من المستحيل أن تعود إليهم أو تعيش معهم، فقد كبرت ونشأت في ثقافة مختلفة مغايرة، كما أنها تتحدث لغة تمنعها من التواصل.
على صعيد آخر، حصل فيلم “أسماء الزهور” على تنويه من لجنة التحكيم. إنه إنتاج بوليفي أمريكي كندي، ومن سيناريو وإخراج “بهمن تافوسي”. تبدأ أحداثه منذ لحظة استعداد بوليفيا للاحتفال بالذكرى الخمسين لمقتل “إرنستو تشي غيفارا”. فهنا نرى شخصية امرأة مُسنّة تُدعى جوليا، تُصرّ بانتظام على حمل الزهور والحساء إلى مقر إحدى المدارس، حيث أُعدم جيفارا هناك قبل خمسين عاما. إنها معلمة ريفية يُقال إنها شاركت في تلك القصة التاريخية مع العالم، لكن الأمن يهددها بالتوقف عن الحضور، ومع ذلك فإنها لا تستسلم.
على جانب آخر نسمع قصص النساء والرجال المطحونين عن اعتقال أفراد من أسرهم، حيث نرى الشاب الذي يبيع المياه المقدسة، ونرى محاولات رجال الأمن في الوصول إلى عنوان المُدرسة. ومن ناحية المستوى الفني فإن الفيلم تصطبغ روحه بأسلوبية المخرج الروسي العظيم “أندريه تاركوفسكي”، حيث الكلمات القليلة جدا والمشاهد الطويلة الخالية من الكلام، لكنها تنطق بالمشاعر والأحاسيس وسط الطبيعة العاصفة. فيلم أشبه بالقصيدة السينمائية.
“ذئب بالولي الذهبي”.. ليس كل ما يلمع ذهبا
من أجمل الأفلام الوثائقية المعروضة بالمهرجان فيلم “ذئب بالولي الذهبي” أو “بالولي.. الذئب الذهبي”. إنه عمل سينمائي بديع به تشكيل بصري رائع، خصوصا في المشاهد التي صورت بالمحاجر، وكذلك في محيط البيوت الفقيرة، حيث الحياة المفعمة بالنشاط والعمل. وهناك مؤثرات صوتية مميزة شديدة الخصوصية تصنع موسيقى الفيلم رغم موضوعه شديدة القسوة، حيث يدور حول حياة عمال المناجم، تلك المجموعة المنسية التي تعيش في ظروف غير إنسانية ولا آدمية.
تدور أحداث الفيلم في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، حيث يقوم حوالي 2500 رجل وامرأة وطفل بتكسير الحجارة طوال اليوم، إنه عمل مرهق شديد القسوة، ومع فإن مقابله أجر ضئيل بشكل مخيف، والسبب وراء ذلك هم الوسطاء الذين يستحوذون على معظم الأرباح.
قامت المخرجة الشابة عائشة بورو بزيارة تلك المنطقة لتتحدث معهم وتكشف لنا وجوها أخرى لهم بعيدة عن البؤس الكبير الذي يحاصرهم، فنرى أشياء عن أفراحهم القليلة، عن الزواج والولادة والحياة الأسرية، فنجد أن هؤلاء البشر أناس يتمتعون بالكرامة والحب وروح الفكاهة الساخرة، ويمتلكون قدرا من الوعي الفطري، كما اتضح تضامنهم مع بعضهم، فالشاب المسؤول الذي ساعدهم في تنظيم أنفسهم أُصيب بالمرض لفترة طويلة، وكان غير قادر على الحركة أو العمل، لكنه التزم بنصيحة الطبيب حتى شُفي، ومع ذلك فلولا تضامن زملائه وزميلاته معه، ومساعدتهم له لما خرج من تلك الوعكة الصحية الشديدة.
على جانب آخر ينجح العمال في الاتحاد سويا، مما يجعلهم يفلتون رويدا رويدا من سيطرة الوسطاء، فأصبح العمال يحصلون على المزيد من المال مقابل عملهم، وأصبحت هناك فرصة لأن يلتحق أبناءهم بالمدرسة، حيث صار لديهم ما يكفي من المال لشراء المعدات والمستلزمات التي يحتاجون إليها، وربما حتى لتوفير المراحيض. صحيح أنه ليس كل ما يلمع ذهبيا في “بالولي.. الذئب الذهبي”، لكن مع ذلك يسود التفاؤل المعدي في هذه الصورة الواضحة للأشخاص الذين يرفضون تهميشهم وسرقة عرقهم.
“الحلم الكونفوشيوسي”.. فلسفة امرأة تضحي بابنها
حصد الفيلم الوثائقي الصيني “الحلم الكونفوشيوسي” (85 دقيقة) جائزة لجنة التحكيم. إنه إنتاج أمريكي صيني من إخراج وتصوير “ميغي لي”. يبدو ظاهريا أن مأزق بطلة الفيلم ينبع من إصرارها على تعلّم وتعليم ابنها الفلسفة الكونفوشيوسية، حيث اتجهت ملايين العائلات صوب هذه الطرق التعليمية القديمة مجددا كأحد سبل مواجهة الحداثة الضاغطة.
هذا الحلم في تعلّم الكونفوشيوسية قد يجعل البعض يحكم على الفيلم بأنه شديد المحلية، ولكن هذا الحكم غير منصف إطلاقا للفيلم، لأن الرغبة في تعلّم تلك الفلسفة ما هي إلا مادة درامية يتكئ عليها هذا العمل الوثائقي، فتكشف الخلافات والاختلافات بين الزوجين، بين الزوجة وحماتها، والصراع بين المرأتين حول الحفيد. إنه عمل فيه الكثير من التشابه بين ظروف النساء في مجتمعات ريفية مصرية أو عربية، فهو يكشف عن مدى التعنّت الذي تواجهه المرأة عندما ترغب في الاستقلال، وفي اتخاذ قرارات مصيرية تخصها أو تخص ابنها.
الفيلم مليء بمشاهد التوتر الدرامي. فالبطلة امرأة شابة لديها طفل صغير، تبدأ في دراسة الفلسفة الكونفوشيوسية رغبة في مساعدة ابنها في تعلمها، لكن الزوج غير مُقتنع، فهو يكاد يتجاهلها أحيانا لئلا يتناقشا في الأمر، لكن سرعان ما تتفجر المُشاحنات بينها وبين الزوج، وتبدأ في لومه بأسلوب جافّ غاضب آمر، فتلومه لأن والديه يعيشان معهما، فليس لها بيتها الخاص، ثم تقرر الانفصال.
أثناء ذلك تتقدم للمحكمة بطلب الطلاق، لكن المحكمة ترفض بحجة الضرر الواقع على الأسرة، لكن الزوجة لا تستسلم، فتوافق على التخلّي عن ابنها وتقول: لأنني فكرت فيه عندما سيكبر، عندما سأُخبره أنني ضحيت بسعادتي ورغباتي من أجله، سيكون رده: ومن قال لك أن تفعلي ذلك، لم يطلب منك أحد فعل هذا، أنا على الأقل لم أفعل.
ثم تواصل الزوجة حديثها الاستبطاني: عندما فكرت وتأملت في نفسي، اكتشفت أنني كنت أفكر في نفسي وفي راحتي، أنني فعلت ذلك من أجل نفسي، واكتشفت أيضا أنني لم أكن جيدة بالقدر الكافي، أنني كان لا بد من أن أُغير نفسي أولا، وكان لا بد أن أجتهد على نفسي.
“مواسم العطش”.. إرادة المرأة وخيالها
أُثير الجدل عقب عرض الفيلم المغربي “مواسم العطش” للمخرج حميد الزوغي، خصوصا بين عدد من النقاد المصريين، لأنه يكاد يتشابه في البناء الهيكلي للفيلم المصري “عرق البلح” للمخرج الراحل رضوان الكاشف، فبعيدا عن قضية هجرة الرجال عن القرية، فإن هناك تماسا واضحا وخيوطا أساسية تربط بين الاثنين، مثل شخصية الصبي والرجل المقعد، ولقطة توظيف الحيوان الحسيّة، والمرأة المُسنّة التي تقود النساء وتقهرهم، والمرأة التي تمارس غوايتها للصبي الوحيد الباقي بالقرية. هناك تشابه واضح بين العملين المصري والمغربي مهما اختلفت التفاصيل في امتدادها.
يحكي الفيلم عن فترة الستينيات من القرن العشرين داخل قرية مغربية، عندما أرسل المستعمر مَنْ ينوب عنهم لانتقاء خيرة رجال القرية من حيث البنية الجسدية القوية، بينما كان يستبعد اليافعين والعاجزين. ستترتب على ذلك الترحيل أضرار اجتماعية جسيمة، فعندما أُرغم الرجال على مغادرة القرية لأجل العمل في الحقول ومناجم الفحم الفرنسية، كانوا بذلك يتركون وراءهم نساءهم لمدة ثلاث سنوات. فهنا تتمحور المعالجة حول الحرمان الجنسي للمرأة في تلك البيئة القروية، ومن هنا يأتي عنوان الفيلم، إنها سنوات العطش للرجال بسبب غيابهم عن حياة تلك النسوة.
ظاهريا يبدو الفيلم في مستواه الأول يعالج قضية الحرمان الجنسي عند المرأة، لكن أبعاده الأعمق تكشف أمورا أخرى، منها إرادة المرأة وخيالها، فالمخرج عمل سينمائيا على معاني ودلالات بصرية تُعبّر عن قسوة الحياة في ظلّ غياب الرجل، وكيف يُمكن للمرأة أن تتصرف لتحطيم أسوار سجنها، ولخلق عوالم أوسع وأرحب من الجدران المحيطة بها.
ينحاز الفيلم لفكرة أن السجن ليس بالجدران، بل إن الإنسان إذا حطّم جدران نفسه يمكنه فعل المستحيل، ومن هنا تكمن أهمية الفيلم. أما إذا نظرنا إلى الفيلم على أنه مجرد فعل خيانة، وأنه مجرد إشباع المرأة لرغباتها بأي وسيلة كانت، فهنا يتم تسطيح العمل السينمائي ويتم قصره فقط على جوانبه الحسية والجنسية.
إن للأفلام -في رأيي- أبعادا وطبقات أعمق من المستوى الأول للصورة، إنه يستحق أن نتخلّى عن تحيزاتنا وعن أفكارنا المسبقة وعن النظرة الأخلاقية المباشرة في الحكم على الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، علينا أن نبحث في الأسباب، لماذا يتصرف الرجل والمرأة على هذا النحو؟
“أليس”.. قوانين فرنسية بنكهة عربية
في الفيلم الأسترالي الفرنسي “أليس” نكتشف التناقض في القوانين الفرنسية عند تعاملها مع المرأة والرجل، فالرجل عندما يمارس الرذيلة لا يمنعه ذلك من حضانة أطفاله، بينما المرأة لو فعلت ذلك تُصبح غير أمينة على رعاية أطفالها، كما تُمنع من حضانتهم.
إذن رغم كل الأحاديث عن التحرر والليبرالية وقوانين حقوق الإنسان والدفاع عن المرأة في فرنسا المتقدمة، فإن قانونها بتلك الصيغة يكاد يتشابه بدرجة ما مع القوانين المصرية، وربما العربية بشكل عام، إنه تناقض وازدواجية وتمييز جنسي واضح، فهذا أبرز ما يتضمنه فيلم “أليس”.
يحمل العنوان اسم بطلته، فهي امرأة شابة تكتشف فجأة أن البيت الذي تملكه والذي وضعت فيه كل مدخراتها وما ورثته عن والدها؛ سيُباع في المزاد العلني لتسديد الديون، فالزوج استغل توكيل زوجته وأنهى رصيدهم البنكي، واستلف قروضا تبلغ قيمتها نحو 77 ألف يورو، لكنه أنفقها على نزواته الجنسية وعلى “الرفقة الأنيقة” (ألقاب تُطلق على فتيات الليل من الطبقة الراقية اللائي تعملن مع شركات مقننة).
يختفي الزوج بعد اندلاع الكارثة وقبل أن تكتشف زوجته، لتجد “أليس” نفسها مُهددة بالطرد، لكنها تتمسك ببيتها، وأثناء بحثها في أوراقه تكتشف ماضي زوجها، فتتواصل مع هذه الشركة، وتتورط في البداية في العمل معها، حيث تكتشف أن العمل يُساعدها ماديا، مما يمنحها المقدرة على استعادة بيتها، ومع ذلك فإنها لا تشعر أنها تحط من نفسها، وهذا هو الجانب الجديد من المعالجة.
إن الفيلم لا يلجأ إلى إعادة إنتاج النظرة التقليدية للمرأة المومس، ولا يجعل بطلته تدّعي أنها ناقمة على عملها أو كارهة لجسدها، أو تشعر بالانحطاط، بل على العكس، يقدمها وكأنها صارت قادرة على إنقاذ نفسها بأن صار لديها الوقت للتواصل مع الطبيعة وتأمل الوجود، لذلك عندما يعود إليها الزوج ويحاول أخذ الطفل منها بقوة القانون، نجدها تمتلك من الإرادة والدهاء ما يحميها من التنازل عن ابنها، حيث ستمارس الخديعة لإنقاذ فلذة كبدها، حتى لو كان ذلك يعني أن تتخلى عن كل ما صارت تملكه وأن تبدأ من جديد.
طوفان التكريمات.. البحث عن الألق السينمائي
قام منظمو المهرجان بتكريم عدد كبير من النساء، من أبرزهن المونتيرة وأستاذة فن المونتاج رحمة منتصر، التي لها تجربة ممتدة ثرية ومهمة في عالم توليف الأفلام، حيث تزداد أهمية تجربة رحمة منتصر لأنها عاصرت مجموعة من عمالقة وصُنّاع السينما المصرية، وفي مقدمتهم شادي عبد السلام، صاحب التحفة البصرية والأنشودة السينمائية “المومياء.. يوم أن تُحصى السنين”. كما عملت معه بفيلمه “جيوش الشمس”، وقامت أيضا بمونتاج أفلام لداوود عبد السيد وصلاح أبو سيف وخيري بشارة ويسري نصر الله، من دون أن ننسى حياتها المشتركة مع زوجها فنان الديكور والإنسان النبيل صلاح مرعي.
كذلك كرمت مونتيرة النيغاتيف ليلى السايس، التي تعد من أهم مونتيري النيغاتيف في السينما المصرية، حيث قدمت ما يزيد على 250 فيلما روائيا طويلا. إضافة إلى تكريم نجمة السينما الإسبانية العالمية “فيكتوريا أبرِل”، الحائزة على جائزتين من مهرجان برلين، وهما جائزة الدب الفضي لأفضل ممثلة، ثم جائزة كاميرا البرليناله.
لم يُفوّت منظمو المهرجان فرصة تكريم المنتجة المصرية ناهد فريد شوقي، حيث تزامن ذلك مع مرور مئة عام على مولد والدها ملك الترسو النجم فريد شوقي، إنه تكريم مزدوج لفريد شوقي في شخص ابنته، خصوصا أن ناهد كانت لها مكانة خاصة عند الملك بحكم أنها ابنته الكبرى، وأنها عاصرت مرحلة انفصاله عن زوجته الفنانة القديرة هدى سلطان. كما أن ناهد عملت مع والدها طويلا واكتسبت منه خبرات عديدة، إلى جانب أعمالها الشخصية.
وقد أهديت هذه الدورة من المهرجان إلى روح الفنانتين نادية لطفي وماجدة الصباحي، مثلما كرمت نيللي كريم ورجاء الجداوي، أي أننا أمام مجموعة من التكريمات التي تبدو من ناحية ليست في صالح المهرجان، لأن الكثرة العددية تأخذ من القيمة في مثل تلك الحالات. ومن ناحية ثانية قد نبرر ذلك بأنه محاولة من المنظمين -الكاتب الصحفي حسن أبو العلا مدير المهرجان، والسيناريست محمد عبد الخالق رئيس المهرجان- لجذب النجمات للمهرجان، وذلك لإضفاء البريق وجذب الأضواء التي ربما تُساهم في جذب اهتمام الجمهور.
ندوات وورشات.. خطوة في الطريق نحو العالمية
وختاما، تُعد الندوات والنقاشات والورش أحد أبرز الأنشطة الموازية لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، وإن كان مستوى نتاج الورش متواضعا، حيث الموسيقى الصاخبة والافتعال، فهذا مرجعه أنها ورش خُصصت للمبتدئين في أغلبها، حيث تقدَم لها ألف شاب، بينما دُرّب نحو 210 منهم على طرق صناعة الفيلم. إنها خطوة أولى على الطريق.
كما أُقيمت عدة ندوات للمُكرمين والمُحتفى بهن، وتطرقت المناقشات السينمائية من خلال منتدى نوت للتركيز على ظاهرة زواج القاصرات، مثلما خُصصت حلقة نقاش للمعوقات والصعاب التي تواجه المرأة المبدعة، وصدر تقرير عن صورة المرأة في السينما العربية، حيث اعتمد التقرير على كتابات صحفيين ونُقّاد من بلدان عربية مختلفة. إنه خطوة مهمة، لكن ليست كل المقالات التي به جيدة، فبعضها أشبه بالتقرير الصحفي الضعيف، والقليل منها فقط كُتب بتحليل عميق، كما في دراسة الناقدة المصرية خيرية البشلاوي المعنون بـ “كلهن عزة”.
رغم ذلك يظل الطموح في أن يستمر المهرجان ولا يتوقف عند محطة معينة، وربما يتحقق الحلم ويصبح المهرجان في مستوى المهرجانات الدولية كما وعد محافظ أسوان في حفل الختام.