“30 مليون”.. دراما كوميدية من وحي السجون
المصطفى الصوفي
تسود حاليا موجة على ضفاف السينما المغربية التي تقذف بتوظيف العديد من المخرجين السينمائيين، سواء الجدد أو القدامى، حيث ثيمة الكوميديا في أعمالهم تمثل مغامرة منهم في تغيير الكثير من الصور النمطية لبعض التجارب التي تُقدّم أعمالا صعبة الفهم، وتحتاج إلى جمهور مُثقّف ليتماهى معها، فلكل مخرج طريقته في اختيار المواضيع والقضايا التي يطرحها سينمائيا على طاولة نقاش المتلقي والنُقّاد وتناولها فنيا وتقنيا، وهو ما يجعل المجال السينمائي المغربي يفيض بالكثير من التجارب الناجحة والفاشلة في الوقت ذاته.
الفيلم المغربي منه ما يتوجه إلى الجمهور المحلي، وهناك أفلام تراهن على المهرجانات الوطنية والدولية للظفر ببعض الجوائز إن كانت مُستحقة، وأفلام أخرى تراهن على شُبّاك التذاكر، وهناك من صناع السينما من يعشق السينما ولا يهمه ما يريده الجمهور ولا يعبأ بالسير مع التيار، وبالتالي يُقدّم نوعا من السينما التي تُعبّر عن نفسه، وقد يحقق معها الكثير من المكتسبات، عكس الإخفاقات التي تهدر الكثير من الجهد والمال.
سيجارة تشعل الأحداث.. الكوميديا الجوفاء
تبقى الأفلام الكوميدية أو ذات الحسّ الهزلي هي السائدة حاليا، لكنها جوفاء من الداخل، وربما هي التي تستقطب أكبر عدد ممكن من الجمهور في ظلّ العزوف البيّن عن ارتياد صالات السينما، وهي الظاهرة التي أصبحت تتزايد عاما بعد عام.
تأملوا معي هنا ثلّة من الشبان اليافعين الذين يصنعون كثيرا من الفرجة في هذه المشاهد التي تتناسل واحدة تلو الأخرى -من فيلم جديد يُعرض حاليا في قاعات العرض- بحثا عن مبلغ مالي مهم لإعادة الحرية لصديق تورّط في قضية سترميه في غياهب السجون لعقد ونصف.
“30 مليون” هو عنوان الفيلم الجديد للمخرج الواعد ربيع سجيد، ومن تأليف وسيناريو بشرى ملاك، وبطولة عدد من نجوم السينما والموسيقى مثل ربيع القاطي وفاطمة بوشان ورفيق بو بكر ويسار المغاري والمغنية ابتسام تسكت وكريمة غيت وغاني القباج وفاتي جمالي، والثنائي إدريس والمهدي اللذين ساهما في كتابة السيناريو.
في الفيلم يستمتع الشباب بسحر لفافة من السجائر، لكن حين رميها في الشارع العام تتسبّب في إشعال النار في سيارة، وهو ما يجرّ عليهم الكثير من الويلات تنتهي باعتقال أحد الأصدقاء المشاغبين، وهم ثلاثة “هشام وسامي وزهير”.
يقبع سامي في السجن إلى أجل غير مسمّى، وذلك بسبب تهوّر هؤلاء الرفقاء الذين لم يكونوا يعتقدون أنهم سيقعون في هذه الورطة، فتتعقد الحبكة، مما يخلق نوعا من الصدمة النفسية لدى زملاء سامي، وينتج حلقات أخرى قوّت من تسلسل الأحداث لحلّ إشكال الاعتقال.
بنية فنية ومغامرات طريفة.. الكنز الفارغ
سيكون على زملاء سامي السجين توفير مبلغ 30 مليون سنتيم لدفعها ككفالة لإخراج سامي من السجن، حيث عاش فيه الكثير من المواقف الطريفة والصعبة، بعد أن تعرّف على سجين ضخم كان يُشكّل له حماية ضد كل اعتداء.
المشهد العام لـ”30 مليون” يتأسس على كنز بنية فنية، يمكن القول إنها عادية وفارغة من الداخل، ولا تُقدّم في الأساس إضافة قوية للفرجة السينمائية، انطلاقا من كثير من المشاهد التي كان هاجسها فقط هو دغدغة مشاعر المتلقي والإضحاك المجاني في كثير من الأحيان.
اعتماد المخرج على الكثير من الوجوه الفنية الجديدة التي ليست لها تجارب كافية وباع طويل في المجال؛ ربما أسقط الفيلم في هوّة الهواية، وبالتالي كان حضور أسماء معروفة في الساحة كرفيق بوبكر مثلا وربيع القاطي فعّالا ومنقذا من كارثة “30 مليون”.
الحشو الكوميدي.. مغامرة سينمائية خاسرة
مغامرات شخوص الفيلم المليئة بمواقف كوميدية طريفة بحثا عن المبلغ المطلوب لتحرير سامي المدرب في نادي رياضي، أو مواجهة عقوبة 15 سنة في السجن؛ كانت مقصودة في السيناريو للتأثير على المتلقي وتشويقه إلى النهاية. هذه الطريقة الفنية لم تكن طريقة متقنة بما فيه الكفاية، وهو ما فطن إليه الجمهور في كثير من المشاهد الزائدة، والكثير منهم خرج ساخرا دون أن يُكمل الفرجة الخاسرة لتلك الملايين.
ويقدم الفيلم بالإضافة إلى العديد من المواضيع التي تطرق إليها كانحراف الشباب وما يترتب عليه من مشاكل؛ جانبا من الحياة بمدينة الدار البيضاء كفضاء عام، والتي تُعتبر من بين أكبر المدن العربية، وتتسم بالليل بالصخب والبذخ والإقبال على الحياة بما لها وعليها، وما يقع فيها من أحداث وحكايات.
وكمحاولة بسيطة للفهم أكثر ورفع الكثير من اللبس، سنعمل على قراءة أولية لملصق الفيلم، وهو عمل عادي لا تتوفر فيه شروط الفرجة الراقية مقارنة بأفلام كوميدية سابقة.
صدارة الهواة.. صور تتكلم بصمت
يتضح أن مُصمم الصورة حاول إظهار الممثلين في حالة حركة وانبهار، وهو ما يجعل الصور تتكلم بصمت، وهي طريقة ماكرة ومُشوّقة لجذب عقل المتلقي لطرح السؤال عمّا يقع في الكواليس. واعتمد المصمم على ألوان ساخنة مثل الأصفر والبرتقالي وألوان النار والحرارة، وفي ذلك إشارة إلى وجود دفئ زائد وحركية وصراع وتداخل في المشاهد، وحبكة متشابكة يخلقها الشخوص بحسّ كوميدي، بحثا عن خلاص سامي الذي خلق له عالما متسارعا وهو داخل السجن.
بالرغم من طريقة عرض الصور التي قزّمت الممثلين المشهورين ووضعت الهواة والمبتدئين في الواجهة، فضلا عن إيماءات باقي الممثلين وحديثهم الصاخب الصامت، فإنها تفصح عن الكثير من الدلالات، لكنها في الأساس كانت شبه فوضى مُنظّمة هدفها الإضحاك، دون فرض القيم الفنية والجمالية القوية التي يجب أن يقدمها العمل السينمائي.
على مستوى المونتاج كعملية أساسية في البناء العام تباينت بين تركيب المشاهد القصيرة والطويلة، وإن كانت المشاهد القصيرة هي المهيمنة، مما أعطى إيقاعا سريعا للأحداث، وهو الأمر الذي ضيّع على المتلقي الاستمتاع بكثير من المشاهد الجميلة وإن كانت قليلة.
برز هذا المعطى الذي أخلّ كثيرا بالعديد من مشاهد “الأكشن”، حيث كان انتقال المخرج من مشهد إلى مشهد، وكأنه يريد أن يصنع نوعا من الإيقاع السريع الهدف منه هو الإبهار، علما بأن تلك المشاهد لم تكن واقعية كفاية، بل كانت مصنوعة خاصة على مستوى الصوت والإيقاع.
الدار البيضاء.. شاعرية المكان
إن اختيار مدينة الدار البيضاء بعوالمها السحرية كموقع أساسي للتصوير من زوايا وفضاءات مختلفة؛ كان له الأثر الكبير في اكتشاف عالم هذه المدينة الكبيرة، وما تحمل في جعبتها من ظواهر اجتماعية وطقوس وصراعات، وفي ذلك صورة توثيقية لفضاء يحتاج من المخرجين إلى مزيد من الجهد لاكتشاف عوالمه.
ومن الظواهر التي حاول المخرج الإشارة إليها -وهي كثيرة ومتعددة- التوسل والاستغلال والظلم والاعتداد، مثل ما وقع لسامي وهو في السجن، إضافة إلى عوامل أخرى مثل الانحلال والانحراف، وظهرت تلك الصور الرديئة عبر موضوع المخدرات والعصابات، وأوشام البنات وطريقة لباسهن، والرهان والقمار ولعنة التدخين.
على مستوى فضاءات الفيلم توزع تركيز الكاميرا، بالإضافة إلى مدينة الدار البيضاء كفضاء كبير عام بين فضاءات صغيرة مغلقة ومفتوحة، منها المزرعة والنادي الليلي والمدرسة والنادي الرياضي، فضلا عن المنزل والشركة وعيادة التجميل.
إن شاعرية المكان في الدار البيضاء ساهم في بناء المشهد العام للفيلم، إضافة إلى كثير من التوليفات التي اهتمّت بباقي الأمكنة، خاصة الداخلية منها، ورمزية الصوت والمؤثرات والموسيقى والإيقاع العام للفيلم وإن كان سريعا في بعض الأحيان، لكنه ظلّ بطيئا في إنتاج فرجة عالمة ذات معنى، تترك أثرا إيجابيا في المجتمع ولدى الانسان.
ثنائية الإثارة والجرأة.. تقنية مغايرة
إلى هنا يُطرح السؤال حول قيمة هذا الفيلم التربوية والواقعية والعقلانية، وقيمته الفنية والجمالية والفرجوية التي حققها، علما بأنه ركّز على الفكاهة لإخراج متورط في قضية ليست فرجوية.
إن إضرام النار في سيارة لجهاز حسّاس قضية كان من الأجدر أن يتعامل معها المخرج بطريقة حازمة وصارمة، لا بطريقة هزلية فيها الكثير من المواقف التي تشبه إلى حدّ ما إسكتشات متقطعة في حلقات سوق هنا وهناك. فهذا التوجه الفكاهي ضمن طريقة متقنة في التصوير بفنية عالية؛ ضيّع على فريق الفيلم عملا ممتازا، لو كان اعتمد على ممثلين محترفين يتقمصون أدوارا بطولية بعيدا عن نزق الشباب وبنات الليل.
في جانب آخر من هذه التجربة الجديدة، يبرز أسلوب المخرج في تناول الموضوع المتسم برؤية خاصة وتقنية مغايرة، يريد بها أن يكون مميزا عن الآخرين، فهو يعتمد على أسلوب الإثارة بالدرجة الأولى، وجرأة الممثلين في مواجهة الأصعب، وتوظيف المؤثرات لاستكمال محاسن العمل السينمائي.
كما أن الاعتماد على المشاهد الكبرى من زوايا مختلفة، واختيار الأزياء خاصة للبنات، وحركية الممثلين داخل المشهد نفسه، وانتقال الكاميرا من زوايا ومواقع متعددة، إضافة إلى تناسق الإيقاع الموسيقي مع المشهد العام للفيلم؛ أعطى رونقا عاما على مستوى الصورة، فجاءت أكثر بهجة وشاعرية.
جماليات المبنى والمعنى.. مستقبل فني واعد
شكّل مشهد الفيلم العام للمتلقي في كثير من المشاهد نوعا من التشويق وهو يتابع تسلسل الأحداث بحثا عن توفير مبلغ الكفالة كثمن لحرية سامي الذي يعاني داخل السجن. وجرّب أبطال الفيلم ثلاث وصفات، الأولى من خلال بيع ثعبان، وهو اقتراح الداهية رفيق بو بكر، والثانية الدخول في رهان رياضة الصراع الحُرّ، ثم الثالثة التي كانت أصعب، وهي الانخراط في عصابة خطيرة يتزعمها ربيع القاطي.
هذه الأحداث التي صيغت نوعا ما في قالب كوميدي متناقض ضمن توليفات موسيقية تخللتها إيقاعات صاخبة لموسيقى الروك، ومؤثرات صوتية مُصاحبة لبعض المشاهد؛ لعبت إلى حد ما دورا أساسيا في بعث الكثير من الرسائل التي تنخر المجتمع وتُهدّد الشباب، منها طقوس الأوشام، وظاهرة الاستغلال داخل السجن وخارجه.
ولم تعط العلاقات الوجدانية التي جمعت بين أبطال الفيلم من خلال علاقة المهدي بابتسام وإدريس بكريمة؛ إلى حد كبير إيقاعا رتيبا للفيلم، لكنها علاقات ظلّت متذبذبة ومتشنجة أحيانا، وواضحة في أحيان أخرى من خلال رمزية التفاحة والموسيقى والأضواء والسهرات والألبسة والأوشام، والكثير من الإكسسوارات.
عموما، كان الفيلم وفيا في نهاية المطاف لروح الصداقة بعد الانفجار بسبب اللفافة اللعينة، إنه فيلم لامس ظواهر اجتماعية كثيرة في قالب كوميدي مُبالغ فيه، وهو ما قد يجعله من خلال تصورات أخرى مميزا في المعنى والمبنى، بحثا عن جماليات تجربة شبابية جديدة ينتظرها مستقبل واعد في عالم السينما.