فيلم “أبو ليلى”.. صفحة أخرى من كتاب العشرية السوداء

عبد الكريم قادري

لا تزال الفترة الزمنية المعروفة لدى الجزائريين بـ”العشرية السوداء” أو “عشرية الدم”، محطة مهمة لدى فئة واسعة من المخرجين الجزائريين، حيث يقتبسون أو يستلهمون منها القصص والأحداث، ويسقطونها في أفلامهم، نظرا لأهمية هذه المرحلة في الوجدان الفردي والجماعي، وذلك بسبب الألم الكبير الذي عاشه المواطنون في كل منطقة من ولايات الجزائر الشاسعة التي كانت مسرحا لأحداث دامية راح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل، إضافة إلى مئات الآلاف من الجرحى وخسائر مادية قُدّرت بمليارات الدولارات، مما جعل البلاد تسبح في بحر من الخوف والهلع والتخلّف والخراب.

بقي هذا الأثر الكبير عالقا في ذاكرة المخرج الجزائري الذي عاش هذه المرحلة سواء من قريب أو بعيد، من الداخل أو الخارج، أو حتى من الجيل الجديد الذي قرأ عنها من المراجع العديدة، لذلك أعادوا تجسيدها في عشرات الأفلام، ولا تمر سنة دون أن نقف فيها على أحداث فيلم طويل أو قصير، يُجسّد هذه المرحلة أو تأثيراتها الجانبية رغم مرور أكثر من 18 سنة على انتهائها.

والدليل على هذا الطرح ما وقفنا عليه سنة 2019، من خلال فيلم “بابيشا” لمونيه مدور الذي يتعرض بشكل مباشر إلى هذه المرحلة، والفيلم الوثائقي “143 طريق الصحراء” لحسان فرحاني الذي أشار لها سريعا في عمله، كما في فيلم “أبو ليلى” 2019 لأمين سيدي بومدين الذي نُسّلط عليه الضوء في هذه المراجعة.

ومن خلال إجراء عملية مقارنة بسيطة في السينما الجزائرية وتاريخها، سنجد بأن موضوع الثورة الجزائرية احتلّ حصة الأسد من مجموع ما أنتج، وتليه مباشرة مواضيع “العشرية السوداء”، وحسب وتيرة ما يصدر كل سنة فإنها ستتجاوز الإنتاج الثوري قريبا، إن لم تكن تجاوزته حاليا حسب تقديراتنا الشخصية في ظلّ غياب إحصاء رسمي من المؤسسات الرسمية.

 

بين العنف والعنف المُضاد.. مخلفات الطفولة

جاء فيلم “أبو ليلى” للمخرج الشاب أمين سيدي بومدين مُحمّلا بالعنف والعنف المضاد الذي عكسته وصنعته قصة وشخصيات العمل، خاصة سمير (الممثل سليمان بنّواري) الذي استطاع أن يؤدي دور الفرد المأزوم الذي أثّرت على حياته أحداث الماضي البعيد، من خلال القسوة التي استقاها من والده وأثّرت على حياته بشكل كبير، وزادت عليه تفاصيل الماضي القريب بعد أن عاش تجربة مواجهة مُسلّحة مباشرة مع شخص مُسلّح في زمن الإرهاب، شهد من خلالها على قتل زميله الشرطي، لينتهي به المطاف في الحاضر الذي يستذكر به المرحلتين السابقتين المذكورتين.

وفي الوقت نفسه كانت مرحلة الحاضر حاسمة وقاسية جدا، لأنه أراد من خلالها أن يصلح العطب الذي أصاب ذاكرته، وأن يُزيح الألم بعد أن يواجه عدوّه المادي الذي يعكسه الإرهابي “أبو ليلى”، وعدوّه المعنوي الذي تعكسه بعض الهلاوس التي ساهمت في صناعتها الأحداث الدامية التي أفرزتها صراعات المجتمع حول السلطة والتمكن، والتربية القاسية التي تلقّاها من والده وكانت سببا في زرع أولى بذرات العنف ومظاهره.

لطفي يؤدي دور الشخصية الصلبة، في حين صديقه سمير يُمثل الهشاشة، وهذا ما ينسج التكامل بينهما

 

لطفي وسمير.. معادلة التوتر والصراع

أما شخصية لطفي (الممثل إلياس سالم) فهي الشخصية التي تقتسم دور البطولة مع سمير، لكنه في المقابل كان الرافد لها ومولّد الأحداث، وهو من يؤدي دور الشخصية الصلبة على خلاف الهشاشة التي تمثلها شخصية سمير، وهي المعادلة الشخصانية التي تنسج التكامل بينهما، وفي الوقت نفسه ولّدت التوتر والصراع وتوالي الأحداث وتطورها مع التقدم الزمني في الفيلم.

شخصية سمير في الفيلم لم يكن فقط ذلك الشرطي الذي وقف على العنف وعايشه وأراد الانتقام، بل هو القيمة المجتمعية الناتجة عن الفعل والفعل المضاد، وهو المرض الذي يصيب المجتمع بشكل عام، لأن الأمراض النفسية التي أصابته بسبب المعطيات المذكورة؛ جعلته يعيش في رواق بين الواقع والخيال، وبين الأحلام والكوابيس، وبين العنف الذي يسكنه وبين العنف الذي يسكن الآخر.

حتى أن المُشاهد بات من الصعب عليه أن يقف على المساحة الحقيقية التي يقبض بها على التأويل الصحيح في الفيلم، لأن بعض المشاهد التي جاءت ككوابيس، من الصعب على المشاهد العادي أن ينسبها لشخصية معينة في الفيلم، ومن الممكن أن ينسبها إلى قالب سردي مستقل عن الشخصيتين، لكنها تعينه على فهم الأحداث والوقوف على آلامها الكبيرة.

 

جريمة قتل في الفندق.. إنما الأعمال بالنيات

اختار المخرج أمين سيدي بومدين الصحراء لتكون فضاء ممتدا لأحداث عمله، وهو معادل موضوعي للصفاء والاسترخاء والبوح والمصالحة مع النفس والوقوف على الأفعال، لاتساعها ونقائها وامتداد أفقها وبُعدها على سلوك البشر وقُبح أفعالهم.

لقد مكّن المخرج وبرّر لهذا الفضاء حتى يكون ملائما لبطليه، من خلال الجريمة التي ارتكبها المسلح “أبو ليلى” في العاصمة بعد أن قتل الشرطي وفرّ إلى الصحراء، لهذا لحق به سمير برفقة صديق طفولته لطفي.

قيل للطفي إن صديقه يُعاني من الجنون ولا يعرف نتائج أفعاله، لكن لطفي قرر أن يخدم صديقه ويذهب معه إلى أبعد نقطة حتى يساعده في الانتقام لنفسه، وفي الطريق وقف على العديد من  المُعطيات التي جعلته يعرف جيدا صديقه ويقف على الأمراض النفسية التي أصابته بسبب تراكمات الماضي، أهمها حين نزلا سويا بأحد الفنادق الصحراوية، حيث استفاق سمير في الليل، وذهب إلى غرفة عائلة أخرى تقيم في الفندق، وقام بتقطيعها بمديته، لكنه لم ينظر لما ارتكبه كجريمة، حيث كان يتخيل كل فرد من هذه العائلة كمعزاة تأكل جزءا من جسد ميت، لهذا قام بقتلهم، حتى يتوقفوا عن أكل أعضاء صديقه، وكل هذا انطلاقا من هلاوسه ومرضه النفسي، وعندما يسمع صياح عاملة النظافة بعد أن اكتشفت المجزرة أحس بما ارتكبه، لهذا فر من الفندق إلى عمق الصحراء بعد أن طاردته عناصر الدرك الوطني.

وهناك تبدأ قصة ثانوية أخرى بعد أن وجد مصورة برفقة دليلين يتعقبان نمرا من أجل صيده وتصويره، ليبدأ فصل جديد من الفيلم الذي تُقدّر مدته الزمنية بـ140 دقيقة، حيث يقوم الدليل بمطاردة النمر داخل الكهوف، بينما يُطارد سمير كوابسه وتخيلاته، لينتهي الأمر بهجوم النمر على الدليل، ويبدأ في افتراسه، لكن سمير تدخل واقترب من هذا الحيوان المفترس الذي كان ينظر له على أساس أنه الإرهابي أبو ليلى، لهذا قام بمصارعته وقتله، وبعد لحظة مات سميرا أيضا متأثرا بجراحه التي سببها لها النمر.

بوستر فيلم “أبو ليلى” للمخرج الجزائري أمين سيدي بومدين

 

“سأذبحك”.. هشاشة وبرودة في جسد الفيلم

يعود سبب العنف الذي سكن سمير بدرجة أولى إلى مراحل طفولته، وهذا عندما أراد والده ذبح كبش عيد الأضحى، إذ أمره بأن يحرسه قبل أن يدخل إلى المطبخ ليحضر سكّينا، لكن عند العودة وجد بأن الكبش هرب، وهذا ما جعل الأب يُعاقب ابنه، حيث طرحه أرضا ووضع السكين على رقبته، وقال له: سأذبحك لأنك سمحت للكبش بأن يهرب.

هذا المشهد الذي أسست عقدة الفيلم عليه لم يستطع المخرج وكاتب السيناريو أمين سيدي بومدين أن ينفذه كما ينبغي؛ فجاء باردا جدا ولا يعكس حجم العنف الذي فيه، مثلا كان الأجدر بالوالد عندما يعود ويرى بأن الكبش هرب من الباب أن يلحق به، بدل أن يقول بأن ثمنه غالي، لكن ردة الفعل تلك كانت مباشرة جدا، حتى حواره كان عبارة عن كليشيهات، مثل: سأريك عملية الذبح كي تصبح رجلا، لا تخف.

هذه البرودة يشترك فيها أيضا مشهد الأفراد الذين كانوا يلعبون الورق، إذ جاء الحوار على ألسنتهم بسبب ما تمرّ به البلاد وقتها متكلفا إلى أبعد حد، ولا يعكس أيّ قوة فنية، كما أن هناك مشاهد أخرى بنفس هذه الضحالة، وكان بإمكان المخرج أن يتخلّى عنها ولا تؤثر بأي شكل على الفيلم ولا موضوعه، بل ستزيده متانة وصلابة، كما أن هناك مشاهد لبعض الممثلين وإن كانت قصيرة، لكنها قدمت دفعا للفيلم، مثل مشهد الممثل سمير الحكيم، أو مشهد نادل المقهى.

سمير ولطفي في سيارتهما على قارعة الطريق، حيث أن هذا النوع من الأفلام يُسمى تيار “سينما الطريق”

 

سينما الطريق.. براعة التلاعب بالزمن

مرجعية المخرج وثقافته السينمائية ووعيه بمدارسها المختلفة تظهر بشكل كبير في هذا الفيلم، إذ نلاحظ كيف يتلاعب بالزمن ويقدمه ويؤخره كما يشاء، مثل المكالمة الهاتفية التي أجراها في الفندق، والتي عاد إلى تفاصيلها بعد أن وقفا على حادث انقلاب السيارة، بحكم أن معطيات تفسير شخصية سمير يحتاجها في ذلك المشهد.

مثل هذا التلاعب نراه في الهلاوس التي قلّصت المسافة التي تفصلها عن الواقع، وأصبحت مع مرور الزمن في الفيلم ضرورية تفسيرية تساعد في الوقوف أيضا على شخصية سمير المرضية، هذا الأمر يُظهر أيضا مرجعية كاتب السيناريو والمخرج في مجال علم النفس، وخاصة المدرسة الفرويدية (نسبة إلى سيغموند فرويد) التي شخّص بها عِلّة البطل، ووقف على المُسببات والدوافع المُكوّنة لها، لهذا مزج هذه المعارف في الفيلم الذي جاء محمّلا بالخيارات الجمالية والفلسفية وتشظيات النفسية البشرية، وقد جمع هذه التراكيب تيار “سينما الطريق”، وهو نوع سينمائي يُشير إلى الأفلام التي تجري أحداثها على قارعة الطريق.

فيلم “أبو ليلى” للمخرج أمين سيدي بومدين هو إنتاج جزائري فرنسي قطري مشترك، حيث شارك في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية، أهمها مشاركته في “أسبوع النُقّاد” بمهرجان كان السينمائي، كما شارك في أسبوع النقاد بالدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي انعقدت من 20 وحتى 29 نوفمبر/تشرين الأول 2019.


إعلان