تطبيق “العد التنازلي”.. هروب عبثي من الأجل المحتوم

يُراهن المخرج الأمريكي “جاستن دِيك” في فيلم “العدّ التنازلي” على قدرته الفذّة في إقناع المُتلقين، حتى وإن كانت موضوعات الفيلم الرئيسية والثانوية تدور في إطار الخرافات والأساطير التي صنعتها الذاكرة الشعبية للناس في مختلف أرجاء العالم.
لو تأملنا المُقاربات التي اعتمدها المُخرج وكاتب السيناريو معًا، لوجدناها ذكيّة ومنطقية لأنها تسعى إلى تحقيق القناعات والتصورات الذهنية، دون أن تنحاز إلى هذا الطرف أو ذاك، وحُجّة المُخرج في ذلك أنَّ “الناس أجناس ومذاهب شتّى”، فيهم من يضع ثقتهُ الكاملة في العلم، وفيهم من يعوّل على الأساطير رغم أجوائها العجيبة الغريبة، وفيهم من يركن إلى الدين كليا، ولا يجد حرجا في الإيمان المطلق بالقوى الميتافيزيقية القادمة من وراء الغيب.
يصنف النقاد فيلم “العد التنازلي” بأنه فيلم إثارة ورعب، لكنه في حقيقة الأمر درامي وديني وأسطوري أيضا، والأهم من ذلك أنه ينتمي إلى الثورة الرقمية ويتخذ من الهواتف النقّالة موضوعًا لتطبيقات تلامس الخرافة، وتحاكيها، وتتماهى معها إلى حدٍ كبير.
كما أنه فيلم ميتاسردي (ما ورائيات السرد) بامتياز لأنه يوظّف قصصًا من الإصحاحات الإنجيلية مثل قصة “المرأة الغجرية” وقصة “سمعان المجوسي”، وقصة “أبو كريفا”، وما إلى ذلك من إحالات وترابطات تغّذي الفكرة الرئيسية، وتعاضدها للوصول إلى الهدف المنشود.
هوليود.. توثيق سينمائي لكل جديد
لا يعرف الإنسان متى وأين يموت تحديدا، فالله هو العليم الخبير، هذا ما نُقرُّ به كمسلمين لكن أبناء الديانات الأخرى الذين يثقون بالعلم كثيرا يعتقدون أن بعض الأجهزة العلمية المتطورة تستطيع أن تحدّد أجَل الإنسان وتعرف اللحظة التي ستفارق فيها روحه جسده، وهذه هي الفكرة الرئيسية والعمود الفقري لهذا الفيلم الذي يتنقّل بسلاسة بين الأزمنة والأمكنة والأحداث.
ومن المعروف عن السينما الأمريكية أنها ترصد الاكتشافات العلمية الجديدة، وما من آلة جديدة أو جهاز حديث يفلت من التوثيق سواء في الأفلام الروائية أو التسجيلية، فالتوثيق هاجس مُلحّ للمخرج الأمريكي، والصورة السينمائية هي قرينة للكلمة ونِدٌّ لها، ولهذا تراهم يدوّنون بالصوت والصورة وبليغ الكلام.
وبما أنّ الثورة الرقمية كبيرة وهائلة، فقد تنادى المخرجون السينمائيون والتلفازيون باستثمار هذه الأجهزة الحديثة وتوظيفها في أفلامهم، وكان الهاتف النقّال أو “تطبيق العدّ التنازلي” تحديدًا هو الفكرة الرئيسية التي يدور حولها هذا الفيلم الروائي، ويكشف عن الدور الخطير للتقنيات الحديثة على حياة المواطنين الأمريكيين، وخاصة شريحة الشباب التي تريد أن تجرّب كل شيء مهما كلّف الأمر.

ساعة الرحيل.. الهاجس الجماعي
في حفل لمجموعة من الصديقات توافق “كورتني” على تحميل برنامج “العدّ التنازلي”، وهو تطبيق يتنبأ بالوقت الباقي للمستخدِم قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويرحل إلى عالمه الأبدي المجهول لنا كبشرٍ أحياء، لكن “كورتني” تُصاب بالصدمة والذهول حينما تكتشف أنّ أمامها ثلاث ساعات فقط للبقاء على قيد الحياة! فكيف تتصرف؟ وما هو الظرف المميت الذي ستواجهه في اللحظات الأخيرة المُربكة التي تقطع الأنفاس بكل تأكيد، خاصة إذا كانت الضحية شابة في مقتبل العمر، وحينما تخرج من الحفل ترفض أن تركب سيارة صديقها المخمور “إيفان” خشية أن تلقى حتفها، لكنها تتسلّم إخطارًا هاتفيًا يفيد بأنها خرقت “اتفاقية المُستخدِم”، وتسارع في العودة إلى المنزل الذي تشعر فيه بالأمان، لكنها بخلاف توقعاتها، تتعرّض إلى هجوم مُباغت من كائنٍ غير مرئي، وتُقتَل عندما يصل توقيتها في التطبيق إلى الصفر، تُرى هل صدقت نبوءة هذا التطبيق الذي أعدّه شخص ما بكل تأكيد، بغض النظر عن ملَكَته العلمية؟
وبالتزامن مع مقتل “كورتني” يتسبّب “إيفان” بحادث سير يصدم فيه بجذع شجرة ضخمة، لكن اللافت للنظر في هذه الحادثة أن غصنا كبيرا من تلك الشجرة يسقط على المقعد الذي كانت تجلس فيه كورتني، وهذا ما نعنيه بقدرة المُخرج وكاتب السيناريو على إقناع المتلقّين بأنّ ما يحدث ليس مجرد مصادفة عابرة، وإنما هو قدر مدبَّر أو مرسوم سلفا.
وبما أنّ هاجس الموت جماعي لا يقتصر على أناس محدّدين فإن خبر موت “كورتني”، وإصابة “إيفان” ينتشران كانتشار العطر في الهواء، وتعرف به الحلقة المُحتفلة برمّتها، فيُصاب الجميع بالذعر والهلع اللذيْن ترتعد لهما الفرائص.

شبح “كورتني”.. نظرية الصدق الفنّي
اعتمد المخرج أسلوب الصدق الفنيّ في إيهام المتلقّي بأنّ تطبيق “العدّ التنازلي” صحيح، كي لا ينكر ما حدث “لكورتني” و”إيفان”، ويؤمن بأن الحادثتين لا تقعان في إطار المُصادفات المحضة، وإنما تذهبان باتجاه النُبوءة العلمية الدامغة.
لكي يثبت المُخرج صحة مزاعمه لا بدّ أن يقدّم لنا نماذج أخرى، تعزّز نظرية الصدق الفني فقد لجأ إلى تقديم الممرضة “كوين هاريس” (إليزابيث لايال) التي تعمل في المستشفى الذي جُلب إليه المُصاب “إيفان”، ولكي يُفاقم المُخرج من درامية الحدث، وضع الممرضة “كوين” في مواجهة المضايقات الجنسية التي تتعرّض لها من قِبل الدكتور “سوليفان” (بيتر فانسيلي)، لكنها تخشى التحدث عن هذا التحرش علنا، لأنها انتهت للتو من اختبارها لتُصبح ممرضة رسمية.
تلتقي “كوين” بـ”إيفان” في المستشفى، ويُخبرها عن مخاوفه الجديّة من إجراء العملية الجراحية خشية أن يموت، فيحثّها بطريقة غير مباشرة على تحميل البرنامج، لكنها تشعر بالهلع الشديد عندما تكتشف أنها تقف على حافة الهاوية، ولم يبقَ لها سوى ثلاثة أيام كي تموت وهي في ريعان شبابها.
وتعزيزا لمبدأ الصدق الفني يُقتَل “إيفان” بعد أن تخطّى العملية الجراحية، ويظهر شبح “كورتني” بنسخة شيطانية تَنتقم من المتسبِّب في القتل، وسوف تثير الأشباح والشياطين والأبالسة أسئلة كثيرة لدى “كوين” وصديقها “مات مونرو”، وبقية أفراد أسرتها والشخصيات ذات العلاقة بموضوع “الكائنات غير المرئية”.

شبح الطفل الميت.. تفاقم الأزمة
يُصنّف “العدّ التنازلي” بأنه من أفلام الإثارة والرعب، وقد نجح المُخرج في تجسيد هذه الخصائص التي يلمسها المُشاهد، ويتفاعل معها منذ بداية القصة السينمائية حتى نهايتها.
أراد المخرج “جاستن دِيك” في هذا الفيلم أن يطلّ على بعض الأُسَر الأمريكية من بينها أُسرة “كوين هاريس” التي تضم أباها وشقيقتها “جوردن”، أما الأم “جيمي هاريس” فقد راحت ضحية سائق ثمل قتلها في حادثة دهس مروّعة، لكن “كوين” كانت تشعر بالذنب لاعتقادها بأنها كانت السبب في موتها، حينما تركت البيت وتأخرت في العودة إليه، فخرجت الأم تبحث عنها ولاقت مصيرها المحتوم.
أما عائلة “مات مونرو” فلا نعرف عنها الكثير سوى الطفل “جيف” الذي مات مبكرا، وسيعود بهيئة شبحية مفزعة يخيف بها شقيقه الأكبر الذي سرق لعبته الصغيرة ولم يُعدها إليه.
حين تسمع “كوين” بموت “إيفان” تذهب لتوضيب جثته في الجناح الذي يرقد فيه في المستشفى، وبينما هي تلتقط صورا لعينيه اللتين فتحتهما بأصابع يديها، يمد “إيفان” يده فتصاب بذعر شديد وتغادر الغرفة على عجل، وفي تلك اللحظة تكتشف “جوردن” أن “كوين” قد حمّلت التطبيق على هاتفها، ولم يبقَ لها سوى يوم واحد كي تغادر عالمنا الفاني.
تتفاقم أزمة “كوين” فتذهب لشراء هاتف جديد، لكنها تكتشف أن تطبيق “العدّ التنازلي” قد ثبّت نفسه على الهاتف الجديد، وما إن تدخل في جوف سيارتها حتى تهاجمها شخصية شيطانية، ونتيجة لفزعها وارتباكها تخدش سيارة مجاورة لها فيتدخل “مات مونرو” وينقذها في الوقت المناسب، ثم نكتشف أنه يعاني أيضا من مشكلة تطبيق “العدّ التنازلي” وأنه يُحصي الساعات الأخيرة الباقية لديه. يخدع الدكتور “سوليفان” إدارة المستشفى ويدّعي بأن “كوين” تراوده عن نفسه، وتحاول أن تقبّله في أثناء الدوام الرسمي، الأمر الذي يفضي إلى تعليق عملها، فتتحامل عليه كثيرا، وتحاول أن تشفي غليلها منه.

إصحاحات الإنجيل.. نافذة على العالم الميتاسردي
تتعمّق العلاقة بين “كوين” و”مات مونرو” الذي ساعدها أثناء حادث خدش السيارة، فيقرّران الذهاب معا إلى كاهن يُدعى الأب “جون” ويوجهان له أسئلة حسّاسة، من بينها إن كان يؤمن بالشياطين أم لا؟ فيأتي الجواب صريحًا بأنه من الصعب تصديق وجود هذه الكائنات غير المرئية، لكنها من جهة أخرى هي التي جعلتهُ يرتدي هذا اللباس الديني، ويلفت انتباههما إلى أن الشياطين قد ذُكروا في الإصحاحين التاسع عشر والسابع والعشرين.
وبواسطة هذا الكاهن ينقلنا المخرج إلى الجانب الميتاسردي في هذا الفيلم، حينما يتحدث عن الإنجيل بوصفه قصصًا مُصورة للعديد من الأحداث والوقائع التاريخية، منها قصة الأمير الشاب وابن الملك العجوز الذي كان محبوبًا من قبل المواطنين، لكنه كان يقف على حافة الموت، الأمر الذي يضطر الأمير الشاب لأن يقود المعركة بنفسه، لكنه قبل أن يلج إلى ساحة الوغى يسأل العجوز الغجرية، إن كان سينجو من هذه المعركة أم لا؟ فتعطيه لفيفة فيها رقم يشير إلى اللحظة الحتمية لموته، لكنها تحذّره من استعمال هذا الرقم لإنقاذ نفسه وتغيير مصيره.
ما حدث أنّ الأمير فتح اللفيفة وأرسل شقيقه الصغير إلى الحرب بدلا عنه، وقاد الجيش إلى النصر، ثم عاد الأمير الجبان إلى المرأة الغجرية، وأقسم لها بأنّ ملاك الموت قادم نحوه، لكنها أكدّت له بأنّ ما هو آتٍ إليه ليس الموت وإنما هو الشيطان “أوزين” جاء بنفسه ليعذّبه حتى الموت، ثم يواصل الكاهن حديثه قائلا: لستُ متيقنا تمامًا لكن هذا التطبيق يبدو نسخة حديثة مما قامت المرأة الغجرية به، ولو استطعت أن أرى الشيفرة لقطعت الشكّ باليقين.
يطلب منهما خرق هذا التطبيق بواسطة شخص خبير، ولم يجدا غير “ديريك”، صاحب محل الهواتف المحمولة الذي قام بخرق التطبيق مقابل 2300 دولار، وأدخل الأسماء والمعلومات المطلوبة لكوين وصديقها “مات مونرو”، فاكتشف أنهما محظوظان لأنها ستعيش حتى السادسة والثمانين، بينما سيصل عمر صديقها إلى سنّ التسعين.
يُعيدنا المُخرج عبر الحوار السردي بين “كوين” و”مات مونرو” إلى الماضي البعيد، حيث يسترجعان أحداثا معيّنة من طفولتهما تُشعرهما بالذنب، لكن أحدهما يواسي الآخر، وتنمو بينهما بذرة محبة سرعان ما يكبحها “مات مونرو” بحجة أنّ اللقاء الذي جمعهما كان عابرا، لذلك اختار النوم على الأرض بدل أن يشاركها السرير في الليلة التي دعته لمنزلها إثر مساعدتها في الحادث المروري، والضرر البسيط الذي ألحقتهُ بسيارة مجاورة لها.

لعنة الشيطان.. الخرافات النائمة
تتكرّر الكوابيس والأحلام المزعجة لـ”كوين” وبقية ضحايا التطبيق الهاتفي، فنشعر بالرعب والعنف على مدار الفيلم، خاصة عندما يعيد برنامج “العدّ التنازلي” تحديث نفسه على هواتف الشخصيات الرئيسية والمساندة، وما إن يعثر الثنائي “مات مونرو” و”كوين” على الشيفرة بمساعدة الخبير “ديريك”، حتى يضع الكاهن “جون” أصبعه على الجرح، ويُمسك باللعنة التي سبّبت كل هذه الكوارث، ويخبرهما بأنّ اللعنات تأتي من الشيطان وعبيده ولكن ثمة حلّ لأن اللعنات يمكن إبطالها، وأنّ الشيطان هو سيد الأكاذيب، وأنّ اللعبة قائمة على التلاعب بالتوقيت وخِداع الساعة، فإمّا أن يموت أحدهم قبل موعده، أو أن يبقى على قيد الحياة أطول من المدة الزمنية المُفتَرضة.
يستعين المُخرج مرة أخرى بالسحر والخرافات الراقدة في أعماق الكتب الدينية، فيرسم أشكالا هندسية بالملح من بينها دائرة لا تخترقها الأرواح الشريرة، ثم يبارك الملح والنور الذي يكبح الشياطين التي تحاول الدخول إلى هذه الدائرة المحمية.
لم يبق من “العدّ التنازلي” لموت “مات مونرو” سوى دقيقتين و31 ثانية، فأخذته “كوين” في حضنها وقبّلته بقوة على شفتيه، وفي تلك اللحظة الحاسمة ظهر شبح شقيقه الصغير “جيف” يقاصصه ويسأله عن سبب سرقته لعبة الديناصور، فيضربه ضربة عنيفة جدا، يفارق على إثرها “مات مونرو” الحياة، ثم تُصاب “جوردن” وتُنقل على وجه السرعة إلى المستشفى، لنلتقي بالدكتور “سوليفان” فتشكره “كوين” لعلاج شقيقتها، ثم تأخذ في استدراجه إلى تقبيلها، لكنه يشعر بالمكيدة التي تدبّرها، فيحترز للأمر كثيرا.
دعت “كوين” الدكتور “سوليفان” إلى الجناح المغلق، لتبدأ المواجهة الحقيقية بين الغريمين حيث يتبادلان الضربات العنيفة، ويسقط كلاهما غير مرة، ثم تحقن “كوين” نفسها بإبرة ترتفع إثرها، وحين يلامسها الشيطان المتوحش الذي ينفجر إلى شظايا متناثرة، تقترب منها شقيقتها “جوردن”، وتحقنها بمادة “الثالوكسون” التي يظهر مفعولها بسرعة، فتنهض “كوين” من غيبوبتها، وتعود إلى الحياة رغم الضربات العنيفة التي تعرّضت لها.

العد التنازلي.. لا مفر من المحتوم
يختم المخرج “جاستن دِيك” قصته السينمائية باللقاء الأسري بين “كوين” وشقيقتها “جوردن” وأبيها، وهم يزورون قبر أمهما “جيمي هاريس” التي غادرت الحياة مبكرا، لكن ذكراها لم تزل راسخة في قلوب المُحبّين.
أما غريمها الدكتور “سوليفان” فقد اعتدى على فتيات أُخريات في المستشفى ودفع الثمن غاليا، ولن يخرج من السجن إلاّ بعد سنوات طويلة، تُشذّب أظافره التي طالت كثيرا تحت قفّازات الحرير التي كان يخدع بها إدارة المستشفى وبقية الموظفين طيلة سنوات الخدمة.
يلوي كاتب السيناريو عنق القصة السينمائية حين يعود بنا إلى “ديريك” صاحب محل الهواتف النقالة الذي دعا صديقته إلى أحد المطاعم، وبينما تذهب هي لقضاء حاجتها في الحمّام تنطفئ الأضواء، ويسمع صوتا في هاتفه، ثم يتعرّض لهجوم غامض يُوحي بأنه قُتل على يد شيطان غير مرئي، لندرك أن لا أحد ينجو من الموت، وكلنا نمسك بهذا التطبيق الذي يعد في أعمارنا عدا تنازليا شئنا أم أبينا.