“من أجل القضية”.. هدية السينما المغربية إلى فلسطين

على جسر ذي مناظر خلابة يقود إلى نقطة الحدود، ينشب حوار قوي ومتشنج بين صديقين متجهين إلى الضفة الأخرى من الحدود حول قضية كونية إنسانية وجب رد الاعتبار لها والاهتمام بها، لإعطائها ما تستحق من قيمة ومكانة، رغم اختلاف الدين واللغة والأحلام.

تصرخ البطلة بشدة وتكاد تبكي، فيما يحاول البطل بشعره الكث المتجعد إقناعها بأن أصولها تشفع لها بعبور الحدود بسهولة، بينما هو لعين وضحية ومشبوه، وتواجهه الكثير من الصعوبات والعراقيل.

هذا جزء قصير من إحدى مشاهد الفيلم المغربي الجديد “من أجل قضية” لمخرجه “حسن بنجلون”، الذي عرض بداية يناير/كانون الثاني 2020 بالقاعات السينمائية، ويرصد بأسلوب فني خفيف بعيد من الخطابات الأكاديمية، واقع وحال القضية الفلسطينية، بعد ما سمي “بالربيع العربي”، وكيف يتعامل الناس مع هذا الموضوع، بعيدا عن التعامل الرسمي.

جسر الحدود.. عبور سينمائي

يعد هذا الفيلم -ومدته 92 دقيقة- تجربة جديدة لحسن بنجلون الذي أخرج العديد من الأفلام الروائية الطويلة، وحازت جوائز عدة وتوجت في الكثير من المهرجانات، فضلا عن ترشيح واحد منها لجائزة أوسكار لأحسن فيلم أجنبي لسنة 2016، وهو فيلم “القمر الأحمر” الذي أُعد تكريما للموسيقار المغربي عبد السلام عامر.

شارك في الفيلم الذي ألّفه المخرج نفسه رفقة الممثل الفلسطيني “رمزي مقدسي”، والفرنسية “دجولي ضاري”؛ نخبة من الفنانين المغاربة أبرزهم الممثلة المقتدرة عائشة ماهماه التي كُرمت مؤخرا بملتقى “مشرع بلقصيري” السينمائي، بالإضافة إلى حسن باديدة وفدوى الطالب ومحمد حميمصة وساندية تاج الدين وعبد الرحيم المنياري وغيرهم.

تدور أحداث الفيلم حول فنان عازف للعود من فلسطين يعيش في إسبانيا، وذات مرة وهو يعزف بأحد النوادي، فتعجب به إحدى الفرق الموسيقية، ليتفقا على الانضمام لها من أجل القيام بجولة موسيقية تشمل المغرب وتونس والجزائر.

مع توالي مشاهد الفيلم يتغير مسار الرحلة، بعد أن عرضت سيرين الفرنسية، على الفنان الفلسطيني المقدسي، مرافقتها إلى مدينة فاس المغربية لاستذكار بيت والديْها القديم، ويتأخرا عن باقي أعضاء الفرقة، ليقررا اللحاق بالفرقة عبر الحدود، لكن أحداثا وقعت، ومياها كثيرة مرت تحت الجسر.

فضّل المخرج أن يكون جسر الحدود بين المغرب والجزائر فضاء لأغلب مشاهد الفيلم التي جعلت الفنانين يعيشان ظروفا صعبة، للحاق بباقي زملائهم الفنانين، لتتفجر حلقات فنية كوميدية وتراجيدية في الآن ذاته، بحثا عن مخرج لهذا المأزق الذي شكل عنصر سخرية واستغراب من الواقع والزمان والمكان والبشر.

عنصر الموسيقى.. رشاقة وخفة في السيناريو

يبدو في الخفاء، وفي مِخيال المخرج ووعيه الفني، وجود ارتباط جمالي وإبداعي، وإحساس بأهمية توظيف عنصر الموسيقى في تجاربه السينمائية، لإضفاء نوع من الخفة والرشاقة على قصة الفيلم برمتها، على اعتبار أن الموسيقى تشكل حدثا مركزيا يساهم في إنتاج باقي التمثلات الجمالية والفنية في الفيلم.

يُطرح هنا سؤال جوهري هو هل استطاعت الرنة الموسيقية في فيلم “من أجل القضية” إنهاض ما خمد في روح البطلة رفقة صديقها، بعد أن تعرضا لمواقف محرجة للغاية وهما يرغبان في عبور الحدود باتجاه وهران الجزائرية.

لقطة من الفيلم للشابة الفرنسية سيرين التي عرضت على الفنان الفلسطيني مرافقتها إلى فاس المغربية

شخصية البطل مرحة مفعمة بعنفوان الشباب، يتوق رفقة صديقته إلى بلوغ أعلى درجات الحرية والاستقلالية، وتحقيق ما تصبو إليه النفس عبر الموسيقى، لتكون الموسيقى بذلك في مفصل الفيلم عنصرا للسخرية من الواقع، وملمحا فنيا إيجابيا للتخفيف عما حصل لهم من مواقف، وصعوبات في الحدود.

أحلام تتجاوز مطبات الواقع.. كوميديا سوداء

بطل الفيلم الذي يطمح لإحياء حفلات موسيقية رفقة صديقته عبر رحلة سفر غير مضمونة باتجاه الجزائر من المغرب، صورة تحمل تأويلات عدة، لعل أقربها إلى الواقع هو أحلام الشباب لتجاوز الحدود الشكلية والأحكام البالية والصور النمطية القديمة وبناء مستقبل مبني على لغة العصر وطموح شباب اليوم الراغب في حياة تعايش وتسامح وسلام بلا حدود.

في هذا الإطار هل يمكن وضع بعض الإسقاطات من خلال ما حدث لبطلي الفيلم، على ما يقع في عدد من الحدود والمعابر العربية والدولية، والتعامل مع إكراهاتها وصعوباتها بنوع من الكوميديا السوداء التي تسخر من الواقع المعقد والإشكاليات التي غالبا ما ترتبط بالسياسة والمساطر الإدارية المُجحفة والجنس والعقيدة والنظرة الدونية للآخر.

ويبدو أن بنجلون الذي وظف نوعا من الكوميديا الخفيفة قد يريد تجريب هذا الإيقاع الكوميدي الخفيف، والذي جربه مخرجون آخرون لاستقطاب الجمهور في أفلامهم، ومن أبرزها فيلم “كامبوديا” لطه محمد بن سليمان، و”الحاجات” لمحمد أشور، و”لحنش”، لإدريس المريني، و”مسعود سعيدة وسعدان” لإبراهيم شكيري، بحثا عن الجمهور الذي أصبح يمل من الأفلام التي تخاطب الفكر والعقل بأسلوب غاية في التعقيد والغرابة.

المخرج حسن بنجلون رفقة الممثل رمزي المقدسي أثناء عرض الفيلم بالدار البيضاء

ولعل بنجلون المعروف بأفلامه التي تعالج قضايا حقوق الإنسان، ومنها “درب مولاي الشريف”، و”فين ماشي يا موشي”، و”محاكمة امرأة”، و”المنسيون”، و”أصدقاء الأمس”؛ قد نجح في هذا المسعى، على اعتبار أن الفعل السينمائي في نهاية المطاف، هو تجريب في الموضوع وطرح قضايا إنسانية قريبة من المجتمع، وجس نبض المتلقي.

ظل بنجلون هنا وفيا لطرحه الفني، لتكريس البُعد الحقوقي في السينما، من خلال العمل على موضوعات ارتبطت بما سمي “سنوات الرصاص”، وهجرة اليهود المغاربة، وكذا الهجرة غير الشرعية، وبالتالي يكون من حق موسيقي حالم وصديقته الطموحة أن يعبرا الحدود البرية، مهما كانت عراقيلهم واختلافاتهم اللغوية والعقائدية، وهي الحبكة التي طرحت الكثير الأسئلة في نفس الوقت، حول هذا الإشكال الكوني العميق.

القضايا الحية.. حرية العبور للضفة الأخرى

إن الفيلم الذي شارك ضن مسابقة آفاق عربية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (الذي عقد ما بين 20 و29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي)؛ هو في بُعده الكوني محاولة ذكية من المخرج لإعادة طرح إشكالية معاناة الشعب الفلسطيني، سواء من داخل الأراضي المحتلة أو من خارجها في التنقل، وتحقيق بعض طموحاتهم وأحلامهم.

وإذا كان حسن بنجلون قد حاول طرح إشكالية الفن والهجرة وحرية التنقل بين الحدود وأحلام الشباب وشعب مضطهد يبحث له عن متنفس للحياة والوجود عبر الفن الذي يجمع بني البشر حول قيمه النبيلة والسامية؛ فإن فيلمه الجديد هو تعبير عن قصة سابقة عاشها بين النمسا إلى تشيكوسلوفاكيا أيام الشباب خلال الصراع بين الشيوعية والرأسمالية آنذاك.

إن بنجلون يريد من خلال هذا الطرح السينمائي البسيط والعميق في الوقت ذاته إعادة التاريخ وأحلام الذات التي هي في الأساس جزء من أحلام المجتمع والعالم، ويسعى إلى تقديمها بطريقة مغايرة، مع ربطها بموضوع القضية الفلسطينية، ولو من جانب الحرية في العبور إلى الضفة الأخرى، التي هي في المطاف ضفة الخلاص وتحقيق الأماني والوحدة والسلام.

إن المتأمل في الحس السياسي والوعي الجماعي في تجربة بنجلون السينمائية، يجد فيها الكثير من الإسقاطات والشخصيات برموزها ودلالتها، مثل رمز المرأة العجوز والقيثارة التي كسرت لغة شخصيات الحدود، فضلا عن بطل الفيلم الممثل المقدسي وغيرهما، وهي إسقاطات تحيل إلى عوالم وقضايا حية في عالمنا اليوم.

مشاعر الحب.. قاسم مشترك بين المتناقضين

وفي مقابل ذلك نجد شخصية سيرين الفرنسية اليهودية وليست الصهيونية، التي تحيل إلى عالم الغرب، فعلى الرغم من احتجاجها القوي في معبر الحدود لا يمكن اعتقالها أو الإساءة إليها، أو إلحاق الضرر بها، وهو طرح فيه نوع من التناقض الذي يحاكي الكثير من المواقف في الواقع.

بطلان مُختلفان في العقيدة والتاريخ واللغة لكنهما مجتمعان في علاقة حب وجدانية

ومن أجل منح الفيلم نوعا من الخصوصية، والإبهار بين شخصيتين متناقضتين، فلسطيني وفرنسية، أقحم المخرج عنصر علاقة وجدانية تنشأ بين كل من الشاب المقدسي الآتي من برشلونة والفتاة الفرنسية، لكي يوجد قاسم مشترك، ألا وهو الحب.

إن استحضار موضوع الحب وإشراقة العشق والمودة في الفيلم هو عمل مقصود من قبل كاتب الفيلم، وليس وليد الصدفة بل يحمل الكثير من الإشارات الدالة، فرغم الاختلافات الموجودة بين البطلين، لكن تفاهمهما وإدراكهما لكثير من الحقائق، أوصلهما إلى أن لغة الأحلام والسلام والتعايش مطلب إنساني ووجداني، والحياة تستمر وتستحق أن تعاش، رغم اختلاف العقيدة والتاريخ والجذور واللغة.

ترى إلى أي حد استطاع الفيلم أن يؤثر في الجمهور بهذه الطريقة، وإلى أي حد وُفق في طرح إشكالية سياسية وإنسانية معقدة، وهل الفيلم موجه لفئة معينة من الجمهور بمسحة فنية جمعت بين الكوميديا والدراما، وهل نجح في تجسيد قيم الهوية والعالمية، متجاوزا كل ما هو محلي، وهل كان الفيلم حقا نابضا بالحياة ومحققا تلك الفرجة السينمائية التي يبتغيها المتلقي؟

رداء التفاؤل.. رؤية إخراجية

كثيرة هي الأسئلة والأفكار التي تتوارد مع كل مشهد من مشاهد الفيلم التي يقع مُجملها على جسر الحدود، وهي أفكار تعبر عن رؤية إخراجية متفائلة للمستقبل، مطروحة بطريقة موضوعية وخفيفة، في خضم ما تعج به القضية الفلسطينية من معطيات وإشكالات تتطور بشكل يومي.

فكلما تطورت مشاهد الفيلم تطورت معها المعاني والدلالات التي يمكن استنباطها عبر الصور الكثيفة وحركات الكاميرا في زوايا متعددة في مقابل التقليل من عنصر الحوار، وتلك من حسنات جمالية الفيلم التي شكلت مصدر قوته الفرجوية الممتعة المتجسدة في محطات التشخيص للممثلين، خاصة منهم الوجوه الجديدة.

لقطة من الفيلم الذي يطرح مشكلة الحدود والتنقل، حيث تتباحث إدارة الحدود إمكانية أن يمر الشاب الفلسطيني من هنا

في جانب من مشاهد الفيلم يبلغ التوافق الروحي أدناه بين البطلين الرمزين، من خلال قصيدة “ريتا” للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهي القصيدة التي تسكن وجدان كل عربي ومتذوق للفن الجميل خارج الحدود، لما لها من إحساس بالدفء والتعبير الإنساني المفعم بأنبل إحساس في الوجود.

إلى هنا حاولنا من خلال هذه القراءة النقدية المبسطة تفكيك وتحليل بعض أيقونات ومكونات هذا الفيلم، بهدف فهم بعض مقاصده الجمالية والفنية في علاقتها بالإنسان والمكان والزمان، وتقريبها إلى الملتقي، وإن كانت رؤية المخرج ولغته السينمائية تظل غير نسبية في معانيها، ودلالتها وتأويلاتها.

ويبقى خطاب الفيلم رغم وضوحه متشعبا مرتبطا بخطابات أخرى ذات صلة بالواقع والتاريخ والحقوق والسياسة والمجتمع وكل ما له علاقة بروح التسامح والتعايش بين بني البشر.

سينمائية بنجلون.. جمالية عابرة لحدود المتعة البصرية

تعد السخرية والكوميديا السوداء مكمنا من مكامن سحر السينما لدى بنجلون من ناحية تناسق المعنى والمضمون، حيث إن مكون الحكي الفيلمي له بنية درامية خفيفة الظل، من خلال طرح نوع من الكوميديا والسخرية الجميلة من الواقع والأشياء، حتى يفهم المتلقي الموضوع بشكل جيد بعيدا عن الخطابات الرسمية.

شاهدنا كيف أن هذه المكونات ساهمت في تطوير الحبكة السينمائية لدى البطلين، وهما يسعيان إلى تحقيق مراميهما للالتحاق بباقي أعضاء الفرقة ما بين الحدود، كفضاء خارجي بين الأوقات المختلفة التي وقعت فيها أغلب مشاهد العنف والانتقام والتحدي والسجال والتشويق.

الممثل الفلسطيني بطل الفيلم رمزي المقدسي مع الممثلة عائشة ماه ماه

إن إشكالية الشخصيات في الفيلم بملامحهم وأزيائهم وحواراتهم وتعبيراتهم المختلفة من خلال ظهورهم في كل مشهد على حدة؛ ساهموا بشكل كبير في إضفاء نوع من التأثير والتأثر على الملتقي، في العديد من الفضاءات التي اختارها المخرج، خاصة فضاء الجسر والحدود الذي شكل علامة فارقة لإيصال الكثير من الرسائل.

على العموم يمكن التأكيد على أن فيلم بنجلون -وفق سياقات فنية وجمالية عديدة شملت بناء السيناريو والإحالات التاريخية والمجتمعية والإنسانية ومضامين القص والعلامات المشهدية المُوحية وغيرها من أنساق الصورة برمزية ألوانها وإضاءاتها وحركات ممثليها- يظل حدثا فنيا جماليا قابلا لكثير من القراءات والتأويلات لاستكشاف عوالمه، وإن كانت في الظاهر مكشوفة ومنسجمة ومؤثرة، وهو ما جعل من الفيلم لحظة سينمائية شاعرية وإنسانية عابرة لحدود المتعة البصرية البهية بدون تأشيرات.


إعلان