“لا يوجد إثم”.. حكايات من عالم الإعدام في إيران
د. أمــل الجمل
“لا يوجد إثم” (There Is No Evil) هو أحدث أفلام المخرج الإيراني” محمد رسولوف”، وقد عُرض ضمن 18 فيلما آخر بالمسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السبعين، وفاز بجائزة “الدب الذهبي” التي تُعتبر أعلى وأهم جوائز المهرجان.
إنه عمل سينمائي مُكوّن من أربعة فصول، ولا رابط بين الأبطال في الفصول الأربعة سوى القضية التي يتناولها الفيلم، إنها قضية أخلاقية تتعلق بتنفيذ عقوبة الإعدام في إيران، حيث يُفرض على المجندين خلال مدة تجنيدهم التي تستمر 21 شهرا؛ أن يقوم كل منهم بتنفيذ عقوبة إعدام واحدة على الأقل، ويقبل البعض بها راضخا من دون أن يشعر بتأنيب ضمير معتقدا أن جميع المحكوم عليهم مجرمون ويستحقون الإعدام، لذلك فلا إثم على المجنّد، ومن هنا يأتي عنوان الفيلم، وأما البعض الآخر فيقبل مضطرا لإنقاذ حياته وحياة عائلته، بينما يأبى آخرون ذلك فتخرب حياتهم.
صمت الأموات.. ما وراء هدوء رجل العائلة البسيط
يدور الفصل الأول بالفيلم عن أسرة إيرانية بسيطة مكافحة مُكوّنة من زوجين عاملين، إضافة لابنتهما وأمّ الزوج المرأة المسنة المريضة والمُقعدة، هنا يبدو الرجل رحيما وهادئا جدا، يضحك مع زوجته المتوترة ويُهدئها، كما يضحك مع ابنته، وهو متعاون مع زوجته لأقصى الحدود، لدرجة أنه لا يكتفي بمساعدتها في شراء الأغراض من البقالة ومساعدة أمه المريضة، بل يُساعدها أيضا في شؤون المطبخ وتنظيف البيت، كما يساعدها في اختيار لون الصبغة المناسبة لشعرها، ثم يقوم بوضع الصبغة بنفسه على شعرها في مشهد جميل.
نلاحظ أن البطل يتناول أقراصا ثلاثة من الأدوية لا نعرف لأيّ غرض، لكن اللافت أن زوجته كانت حريصة على أن تسأله: هل تناولت أقراصك؟ يستيقظ هذا الزوج في الثالثة صباحا ويقود سيارته ويدخل مقر عمله، ويُشعل النار لإعداد الشاي، ثم نراه يجلس طويلا بصمت تام لا يتحرك حتى يبدو مثل إنسان ميت، أو كأنه موجود بجسده فقط في المكان، ثم بعد ذلك نرى لوحة للمفاتيح معلقة على الحائط مكونة من صفوف حمراء ثم صفوف خضراء تبدأ في العمل، فيقوم للنظر من نافذة زجاجية لا نرى ما ورائها.
عندما تُضيء المفاتيح الخضراء يضغط الرجل على أحد المفاتيح، فنسمع صوت قطع أو هبوط آلة حادة ثقيلة، وكأن هناك أشياء معلقة قد سقطت بقوة، لكنها لا تزال معلقة في الهواء. بعدها تنتقل الكاميرا في قطع صريح سريع على أجسام بشرية نرى فقط أطرافها المُدلّاة، بينما سيقان بعضها وأقدامهم تنتفض بقوة مثل انتفاضة الديك الذبيح في رقصة الموت. هناك بنطالات يتساقط منها البول بقوة، ثم بنطالات أخرى يسقط البول منها متأخرا بعض الشيء. وذلك في مشهد مفزع يقبض الروح.
أن تَقتل أو تُقتل بألوان أخرى.. “هل تعتقد أنك ستنجو؟”
يأتي الفصل الثاني من فيلم رسولوف تحت عنوان “أنت قادر على أن تفعلها”، حيث يبدأ الفصل من شاب متوتر يروح ويجيء ليلا بارتباك كلما جاءه اتصال هاتفي من خطيبته، مما أيقظ زملاءه في الغرفة، إنه جندي شاب وسيم يواجه معضلة أخلاقية يحاول حلها ليلا، بينما رفاقه بعد الثورة عليه والغضب منه يبدؤون في إيجاد حلّ له، إنه مطلوب منه تنفيذ حكم الإعدام في أحد الأشخاص، لكنه غير قادر على فعل القتل رغم محاولات زميل له بإقناعه بأنه سيكون غير مُذنب، ولا إثم عليه لأن المحكوم عليه مؤكد بأنه مجرم يستحق الإعدام مثلما يردد دوما قادتهم.
جوهر المعضلة التي يواجهها هذا الشاب أنه إن لم يفعل، وإن لم يُنفّذ فعل القتل سيخرب حياته ولن يكون من حقه الحصول على عمل بشكل رسمي، أو استخراج أيّ أوراق رسمية، ولن يتمكن من السفر، لأنه لن يحصل على جواز سفر.
لكن هذا الشاب سيساومه زميل آخر معه في الجندية، ليوافق على تنفيذ حكم الإعدام عوضا عنه مقابل خمسة آلاف من العملة الإيرانية، لأنه يواجه مشاكل أسرية وأمه مريضة تحتاج إلى جراحة عاجلة، لكن المبلغ كبير ويصعب توفيره بسرعة، هنا يضع الشاب خطة بديلة لا نعرف تفاصيلها إلا متأخرا، إذ يُعطيه أحدهم ورقة مُدوّن بها تفاصيل لمساعدته في حالة الضرورة، فنتوهم أن الشاب قد خضع وقرر أن يقوم بعملية الإعدام بنفسه.
أثناء اقتياد الشخص المحكوم عليه بالإعدام نرى تفاصيل الخوف على ملامح البطل وهو يراقب الضحية، حيث كان يرافقهما حارس آخر، لكن فجأة يتحوّل الشاب المذعور إلى مُهاجم يستحوذ على سلاح الجندي ويُقيّده، وكذلك يفعل مع المتهم، يسأله لماذا حكموا عليك بالإعدام؟ لا يجيبه الرجل، فيواصل تقييده في الأساور الحديدية للسجناء، ثم يواصل الهرب وتقييد بقية الحراس على البوابة الخارجية، فيقول له أحدهم: “أنت ميّت، هل تعتقد أنك ستنجو؟”. تلك الجملة الدلالية ستكون لها معانٍ أكثر عمقا في الفصلين اللاحقين، فالموت هنا لا يتوقف عند حدود الموت الفيزيائي العاجل، لكن المغزى الأعمق أن يعيش كالميت.
هروب على وقع الحب والموسيقى
بعد هروبه من السجن يجد المُجنّد الشاب خطيبته بانتظاره في سيارتها، وعلى وقع الموسيقى وكلمات أغنية عن القدر تساعده الحبيبة على الفرار بين الجبال قائلة له “ألم أقل لك إنك قادر على أن تفعلها؟”. هذا الفصل تحديدا يطرح تساؤلات ضمنية، ماذا سيكون مصير ذلك الشاب بعد الهروب؟ وماذا سيكون مصيره لو كان قد وافق على تنفيذ حكم الإعدام؟
الإجابة على التساؤل الأخير تحتمل أمرين ضمن شريط الفيلم، إما أن يعيش الجندي مثل بطل الفصل الأول مع أسرته ويحميها ويضمن لها استقرارها، لكنه سيحمل آلامه النفسية وإحساسه بالذنب في أعماقه، وإما أن يقبل بتنفيذ حكم القتل برضا، ثم يكتشف لاحقا أنه قتل إنسانا بريئا، وربما يكون هذا البريء قريبا منه جدا أو من عائلته.
عيد ميلاد وعزاء.. خيط مصاهرة بين الضحية والجاني
يحمل الفصل الثالث عنوان “عيد ميلاد”، فهنا جندي شاب آخر نجح في الحصول على إجازة لمدة ثلاثة أيام ليخطب حبيبته في عيد ميلادها، وأمام البيت يكتشف الاستعداد لمراسم العزاء في أحد الأقارب الذي أعدم في السجن، وأثناء الاحتفال يضعون صورة له بجوار الورود، وعندما يراها الشاب المُجنّد يهرب إلى الغابة، فيظلّ يجري ويجري، وعند شاطئ النهر يدفن رأسه في المياه مرات عدة، كأنه يريد أن يقتل نفسه.
نستوعب الأمر تماما كمشاهدين، وهو أن الشاب هو من نفّذ حكم الإعدام، المشكلة أن الضحية في تلك الحالة كان إنسانا بريئا، وكل ذنبه أنه كان ينتمي للمعارضة، لكن المُجنّد يعرف ذلك متأخرا، يعرفه من الحبيبة التي يثق فيها، إذ أخذت تحكي عنه وعن أخلاقه أثناء تلك الزيارة.
هنا يزداد وقع الإحساس بالذنب، رغم أن المجند لم يكن يعرف الضحية، لقد نفّذ الشاب الحكم بالإعدام مُصدقاً وبضمير مستريح أنه مجرم، فلم يخبروه بأنه مجرد معارض. تُنصت الحبيبة إليه غير مُصدّقة، فنرى يدها بجوار الحجر كأنها تستعد لرفعها وضربه بها كأنها تريد أن تقتله، لكن تتراجع أصابعها بهدوء وتحكي عن حبها له، ثم تقول: “لا أريد أن يعرف أحد من أهلي بالأمر”. مع ذلك وبعد إجراءات الترحم على المقتول غدرا تقع الخطبة، فهل ستنجح تلك الحياة وتستمر بينهما؟
“الأسرة أهمّ من كل ذلك”.. احتضار الأب البيولوجي
تأتي الحكاية الرابعة المعنونة بـ”اقتلني” ردّا على تساؤلنا: ماذا سيكون مصير ذلك الشاب بعد الهروب وبعد رفضه تنفيذ حكم الإعدام؟
هنا سنرى رجلا يحتضر، نراه ينتظر فتاة في المطار عائدة من دراستها في ألمانيا. إنه يعيش في الصحراء بعيدا عن المدينة، حيث يقوم بالزراعة، ولا يمتلك رخصة قيادة ولا أوراق هوية، ولا يمكنه السفر، ولم يتمكن من ممارسة مهنة الطب التي درسها. كل هذا لأنه رفض تنفيذ فعل القتل، ورفض تنفيذ حكم الإعدام أثناء فترة الجندية، من أجل ذلك عندما رُزق بطفلته ووجد العالم قد صار مُغلقا عليه صار في زنزانة كُبرى. هنا كان عليه حماية ابنته ومستقبلها من دون أن يُخالف ضميره، لذلك قرّر أن يتنازل عن أبوّة ابنته، فتُكتب باسم صديق له قرر أن يتبناها، وبذلك خرجت الفتاة للتعليم في ألمانيا، وعاشت على أنها ابنة لرجل آخر.
الآن يحتضر الوالد البيولوجي، لذلك قام باستدعاء الابنة للزيارة، وأراد أن يخبرها بالحقيقة، وأراد أن يعيش لحظات الأبوة، لكن زوجته تمنعه خوفا من أن يدمر حياة الفتاة الشابة، لكنه في النهاية يخبرها فيكون ردّ فعل الابنة عنيفا قائلة: أنت لست والدي، بل أنت والد بيولوجي، وهذا لا يعني لي شيئا، فأبي الحقيقي هو من قام بتربيتي، إنني أريد أن أعود إليه، لماذا تخبرني الآن؟ لماذا تخبرني بأنك أبي وأنت تحتضر؟ هذا ليس عدلا، الواجب تجاه الأسرة ورعايتها أهم من خوفك وإحساسك بالإثم تجاه قتل إنسان تخشى أن يكون بريئا. الأسرة أهم من كل ذلك.
حين يدفع الأبطال ثمن مواقفهم
يبدو الفيلم كأنه دراسة لحالة الإحساس بالذنب وتبعاتها، فقضية الفيلم ليست الإعدام في حد ذاته، لكنها فرض فعل القتل على المجندين، إنه تنويعة على احتمالات الموافقة والرفض لهذا القرار. فالأول وافق وضمن حياة مستقرة لأسرته ابنته وزوجته وأمه، أما الثاني فهرب، لكن لا بد له أن يواصل الهروب خارج البلاد، وإلا ستكون حياته نسخة من الفصل الرابع بالفيلم، أما إذا وافق ونفذ حكم الإعدام سيكون مصيره كما حدث بالفصل الثالث.
الأبطال هنا يعيشون تبعات رغباتهم وأحلامهم في حياة أفضل، إنهم يدفعون ثمن قراراتهم ومواقفهم، إنهم مخيّرون بين المقاومة والبقاء على قيد الحياة، قد يكون بعضهم يرفض الاستسلام، لكنه لا يملك القدرة على المقاومة في الوقت ذاته، فقط سيعيش كأنه لا وجود له.
جائزة الدب الذهبي.. مكافأة نهاية الخدمة
منذ اللحظة التي أُعلن فيها عن عدم حضور محمد رسولوف عروض فيلمه في البرليناله السبعين، وذلك بسبب قرار منعه من السفر ومنعه من العمل أيضا، ومنذ تُرك كرسيه شاغرا في المؤتمر الصحفي عقب العرض العالمي الأول للفيلم في ختام أيام البرليناله، كان متوقعا أن يتكرر سيناريو جعفر بناهي وفيلمه “تاكسي” في البرليناله عام 2015، وكان متوقعا أن يحصد فيلم رسولوف “لا يوجد إثم” أعلى وأهم جوائز البرليناله “الدبّ الذهبي”، فرغم قرار الحبس والمنع من العمل السينمائي؛ ما زال رسولوف قادرا على التعبير عن رأيه بالفن الذي يُجيده.