“أرض العسل”.. قصة امرأة أحبت النحل وأحبها

تبدو القصة السينمائية لفيلم “أرض العسل” للمُخرجَين المقدونييَن “تامارا كوتيفسكا” و”ليوبومير ستيفانوف” سهلة ويسيرة، وكأنها تتدفق من نبعٍ غزير المياه. إنها قصة حميمة وشائقة من السهل مُسايرتها، ومن الصعب تقليدها، لأنها تحمل بصمة إبداعية خاصة من نسيج وحدها. بصمة خلقها التأمل الطويل الذي استغرق ثلاث سنوات في مادة مُصوّرة بلغت نحو 400 ساعة، ثم تقلصت تدريجيا على يد المونتير “أتاناس جيورجييف” لتُصبح 90 دقيقة لا غير.

حقّقت قصة “أرض العسل” رؤية المُخرجَين ورشّحت فيلمهما لجائزة أفضل فيلم روائي عالمي من مقدونيا الشمالية، ولأفضل فيلم وثائقي في مسابقة الأوسكار في دورتها الـ92، وهو الترشيح الثاني للبلاد بعد فيلم “قبل المطر” عام 1994، آخذين بعين الاعتبار أنها المرة الأولى التي يترشح فيها فيلم لفئتين وثائقية وروائية في آن واحد.

لا يقتصر نجاح هذا الفيلم على السيناريو والتصوير والمونتاج والإخراج فقط، وإنما يعود للأداء الهادئ والمُعبِّر للشخصية الرئيسية خديجة موراتوفا، من دون أن نقلّل من أهمية الأداء الطبيعي المقنع لعائلة “حسين سام” وزوجته “لُطفيّة” وأبنائه السبعة الذين ملؤوا القرية المستوحشة جَلَبة وضجيجا وحياة نابضة حطّمت سكونها الرتيب.

شخصيات القصة السينمائية.. مسار الفيلم الثلاثي

يتمحور الفيلم على ثلاثة خطوط أساسية وهي: علاقة خديجة بأمها الطاعنة في السن والراقدة على فراش المرض منذ أربع سنوات، وعلاقة خديجة بعائلة رُعاة البقر المتنقلين، وخاصة حسين وزوجته لُطفية، إضافة إلى أبنائهما السبعة الذين منحوا القرية المهجورة إيقاعا مُختلفا غيّر مزاج خديجة، وأخرجها من عزلتها الفردية، أما العلاقة الثالثة والأخيرة لخديجة فهي مع البيئة التي تُحيط بها من كل حدب وصوب.

خديجة صائدة العسل تقطع لولدها قطعة من شمع العسل الطازج ليتذوقه

يمكن اعتبار “أرض العسل” فيلم شخصيات على الرغم من وجود الأحداث التي ستغيّر من روحية خديجة ونظرتها إلى الحياة، مثل قدوم عائلة حسين، أو موت الأم “نظيفة”، أو إصراررها على مواصلة الحياة بنفس الزخم الذي كانت تمتلكه سابقا. ولكي نُعطي القصة السينمائية حقها؛ لا بدّ من تتبّع أربع شخصيات رئيسية فيه، وهي خديجة والأم نظيفة وحسين وزوجته لُطفية.

ترويض النحل بالغناء.. علاقة حميمية

خديجة مربيّة نحل مقدونيّة عمرها 55 سنة من أصل تركي، تعيش في قرية بيركيليا التابعة لبلدية لوزفو في مقدونيا الشمالية، وتفتقر هذه القرية إلى خدمات الماء والكهرباء والطرق الحديثة، كما أنها تقع في مكان جبلي منعزل وناءٍ جدا، وإذا أرادت خديجة النزول إلى العاصمة سكوبي؛ فعليها أن تمشي أربع ساعات على الأقدام قبل أن يحملها القطار إلى العاصمة كي تبيع ما تجنيه من عسل صافٍ من مناحلها البريّة في البيت، أو المناطق المجاورة للقرية المهجورة.

ثمة علاقة حميمة بينها وبين النحل البريّ الذي لا يلسعها، رغم أنها لا ترتدي حتى قناع الوقاية في بعض الأحيان، وكأنّ مستعمرة النحل برمتها تعرفها جيدا من الأصوات التي تُطلقها، أو من الأغاني الجميلة التي تغنّيها حينما تجمع أقراص العسل من الكهوف أو الشقوق الكائنة في الحافات الجبلية الخطرة.

خديجة المُحبّة للنحل تغني وترقص على أنغام الموسيقى المقدونية

تعتقد خديجة أنّ عملها كمربية نحل هو وسيلة لاستعادة التوازن في النظام البيئي، وهي تُدرك ذلك بحدسها الإنساني المتواضع، وعندما تغنّي للنحل تقول: “نصف العسل لي، والنصف الآخر لكَ”، وقد تعلّمت هذه القيم والمبادئ الإنسانية الأصيلة من جدّها الراحل الذي كان يؤكد على حق النحل في التغذية خلال أشهر الشتاء التي تزوّده بالطاقة للطيران، وتمنحه القدرة على التزاوج.

لم يبقَ من أسرة خديجة سوى أمها البالغة من العمر 85 عاما، وهي مشلولة لا تغادر سريرها أبدا، فلا غرابة أن تعتني بها خديجة كما تعتني عاملات النحل بملكتها، ولا تدري ماذا ستفعل إذا ما فارقت هذه الأمُ الحياة وذهبت إلى رقدتها الأبديّة؟

“نظيفة” الأم.. ثمانينية شغوفة بالحياة

تبلغ “نظيفة” عامها الـ85، وهي نصف عمياء فقدت بصر عينها اليمنى، ومشلولة تماما لا تستطيع أن تجلس أو تمدِّد ساقيها على الفراش، وكما تقول هي فقد “تحوّلت إلى شجرة” ثابتة في مكانها، ولا تستطيع أن تجلس على كرسي منفرد في مواجهة خيوط الشمس الدافئة.

خديجة رفقة أمها الثمانينية المريضة الشغوفة بالحياة، حيث كرست خديجة حياتها لرعايتها

ورغم تجاوزها للعقد الثامن بخمس سنوات فهي تؤكد قائلة: “ليس لدي أي رغبة في الموت”، وكأنّ “هادم اللذات، ومفرّق الجماعات” ينتظر رغبة “نظيفة” قبل أن يخطفها إلى العالم الآخر الذي لا نعرف كنهه.

وعلى الرغم من بعض المشاجرات الخفيفة التي تنشب بين الأم وابنتها، فإنها تحبّها وتتمنى أن تبقى على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة، فهي الوحيدة التي تُطمئنها بأن الله سوف يعاقب حسين سام الذي ألحق بها ضررا كبيرا، وتسبب بموت المئات من نحلها، لأنه باع أقراص العسل كلها ولم يدخر شيئا منها لأشهر الشتاء القاسية.

“خديجة” صانعة العسل.. ضحية الجشع البشري

يمكن وضع شخصية حسين سام في مواجهة خديجة، فهو نقيضها تماما، وإذا كانت هي مُحافظة على التوازن البيئي فهو مدمِّر للحياة البيئية، فقد تسبب حسين بموت النحل ونفوق أكثر من 50 عجلا وبقرة لقلّة الرعاية وسوء التدبير، كما قطع العديد من الأشجار لكي يحصل على أقراص العسل ويبيعها لصديقه “سافيت”، الذي يبعيها بدوره إلى أناس آخرين ويربح منها بعض المال، حتى ولو كان على حساب التدمير البيئي.

على الرغم من أن حسين سام يمتلك الكثير من الأبقار والعجول، فإنه يتشكّى من قلّة المال وكثرة التكاليف المنزلية، الأمر الذي يدفعه للتطفّل على خديجة وإغراقها بالأسئلة عن كيفية تربية النحل، وجني العسل وبيعه في الأسواق.

خديجة رهينة العزلة الفردية والبيت في أوقات الراحة من العمل

وبما أنّ خديجة بريئة وصادقة ومُحبة لفعل الخير، فإنها تبوح له بسرّ المهنة، وتشرح له كل التفاصيل المتعلقة بتربية النحل، وطرق تغذيته في فصل الشتاء، والوقاية من لسعاته بارتداء القناع الواقي، واستعمال المضخة الدخانية، والاهتمام بالتوازن البيئي الذي يتطلب من المربّي أن يترك قسما كافيا من أقراص العسل كي لا تهلك خلايا النحل من الجوع، لكن حسين سام جشع بطبيعته ويفكر بالمردودات المادية التي دفعته لأن يبيع جميع أقراص العسل الموجودة لديه، بل إنه قطع بعض الأشجار التي تحتوي على خلايا النحل بطريقة جائرة، ليبرهن لنا أنه عدوّ للبيئة ومدمِّر لمظهر مهم من مظاهرها الحيوية المفيدة لكل الكائنات الحيّة الموجودة في كوكب الأرض.

لم تكن علاقة حسين بأسرته طيبة على الدوام، فلا غرابة أن يتمرد عليه بعض أولاده إلى الدرجة التي يصفونه فيها بـ”الكلب القذر”، لأنه يكلفهم ما ليس بوسعهم القيام به، فهم يرعون الأبقار ويجنون النحل ويلهون مثل بقية الصبيان الصغار، ومنهم منْ يسبح في بِركة الماء، ومنهم منْ يمارس هواية المصارعة التركية، ومنهم من يرافق خديجة في جني العسل، ويتعاطف معها ضد والديه، لأنه يُدرك بوعيه الفطري أنّ أبويه يعتديان على حقوقها، وأنها ضحية جشعهم اللامحدود.

جزاء الضباع.. تراجيديا في منزل حسين

تبدو لُطفية في أواسط الثلاثينيات من عمرها معافاة قوية الجسد، ودؤوبة مثل نحلة لا تكلّ من العمل والقيام بكل الأعباء المنزلية من طهي وكنس وغسل واهتمام بالأولاد السبعة، كما تحلب الأبقار وتقدّم لها الماء والكلأ ليلا، ومع ذلك فإن زوجها حسين غير راضٍ عنها، ويعّدها مُقصِّرة بحق الأسرة والأبقار معا، وكان يلومها كلما نَفَقَ عجل أو ماتت بقرة مريضة.

خديجة رفقة حسين وأبنائه وهم يحاولون تشغيل مذياعها الصامت بسبب سوء التغطية

تقوم لُطفية بأعمال شاقة لا يقوم بها حتى بعض الرجال، مثل دفع الشاحنة أو تثبيت بعض عوارضها الحديدية، أو تصفية العسل بآلة يدوية تحتاج إلى جهد رجل قوي، ومع ذلك تصطفّ إلى جانب زوجها الجشع في قضية موت نحل خديجة، لكنها تُظهر وعيا قانونيا حينما تخبر جارتها بأنها ستقاضي زوجها في المحكمة، وأن القُضاة هم الذين سيحددون منْ المُقصِّر في هذه القضية، ومنْ الذي يعبث بالبيئة.

وبما أنّ هذه العائلة مُتنقلة ولا تُقيم لمدة زمنية طويلة؛ فقد قرّر حسين أن يغادر القرية إلى مكان آخر أنسب لأسرته الكبيرة وقطيع ماشيته، ورغم أنه قد خلّف في قلب خديجة جُرحا لا يندمل فإنها امرأة متسامحة وقادرة على أن تتجاوز المحن التي تمرّ بها في رحلتها الحياتية التي أمضت منها 55 عاما، ولا تزال تنتظر الزوج الذي قد ينبثق لها من المجهول.

تعويذة الشياطين والأرواح الشريرة.. مصيبة الموت

تفاقمت حالة “نظيفة” الصحية ولم تعد تُبصر تماما بالعين اليمنى، بل إنها لم تعد تميّز ما إذا كان الظلام قد حلّ أم لا؟ هذا إضافة إلى شللها التام وعدم قدرتها على الحركة والتنقل الجزئي ضمن حدود الغرفة الواحدة. وبما أننا لم نرَ طبيبا يعالجها أو يوجّه لها النصائح والإرشادات الصحية، فإنها أصبحت قريبة من الموت، وهذا ما تخشاه خديجة، فثمة كائن حيّ يتنفس إلى جوارها ويشاركها بعض همومها رغم صعوبة السمع، ويطمئنها بأن الله سوف ينتقم من حسين الذي أساء عليها، ولم يُقدّر أفضالها عليه.

خديجة تشارك في مهرجان سراييفو كنجمة سينمائية مع المُخرجَين المقدونييَن “تامارا كوتيفسكا” و”ليوبومير ستيفانوف”

وبينما كانت خديجة تُثبِّت الصحن الهوائي لمذياعها الذي يلتقط بعض الأخبار والأغاني؛ تنادي على أمها إن كانت تسمع جيدا الموسيقى المنبعثة من مذياعها، لكنها لم تتلقَ منها ردا، وحينما كررت النداء أكثر مرة ولم تسمع ردّا؛ دخلت الغرفة فوجدتها جثة هامدة، وهذا يعني أنها سوف تصبح ضحيّة للعزلة التامة.

لا تخلو القصة السينمائية من بعض الخرافات التي ارتأى المُخرجان أن يُنهيا الفيلم بواحدة منها، فبعد أن تدفن والدتها وتقرأ على روحها الفاتحة؛ تخرج ليلا حاملة مشعلا وهي تصرخ بصوت عالٍ طاردة الشياطين والأرواح الشريرة.

“سينما الواقع”.. حين تنطق لغة الجسد

ينطوي الفيلم على رسائل متعددة، من بينها قدرة خديجة على الصمود، فبعد رحيل عائلة حسين وموت أمها؛ رأيناها تذهب رفقة كلبتها “جاكي” إلى أحد الأماكن الصخرية الحادّة لكي تجني العسل الذي تأكل بعضه، وتُطعم كلبتها البعض الآخر منه، مُذكرّة إيانا بضرورة خلق التوازن التام بين الاستغلال المفرط لثروات البيئة، وبين إدامتها والحفاظ عليها بطريقة عقلانية ترضي الضمير الإنساني قبل كل شيء.

لا يراهن المُخرِجان على السيناريو والحوار كثيرا رغم أهميتهما، وإنما يعوّلان على الصور البصرية وينتصران لها، كما يضعان ثقتهما في لغة الجسد التي بدت مفهومة ومعبِّرة جدا، فيكفي أن تتأمل وجه خديجة لتعرف ماذا يدور في خلَدها، فلا غرابة أن يتضاءل الحوار وتهيمن الصورة في هذا الفيلم الذي يجمع بين العناصر التوثيقية والروائية في آنٍ معا.

المخرجان المقدونيان “تامارا كوتيفسكا” و”ليوبومير ستيفانوف” بعد وضع اللمسات الأخيرة على فيلمهما “أرض العسل”

استعمل المُخرجان في بعض المواضع تقنية الكاميرا الخفية التي لم تشعر بوجودها الشخصيات، ولم يكن هناك أي حوار خارج موضوع الفيلم. كما استعملا تقنية “سينما الواقع” التي تلتقط الواقع مباشرة وتمثّله بصدق تام.

لا بد من الإشارة إلى أن فيلم “أرض العسل” قد فاز بـ12 جائزة حتى الآن، ورُشِّح لنيل جوائز أخرى أبرزها الأوسكار. أما مصير خديجة فقد تغيّر تماما بعد فوز المُخرجَين بثلاث جوائز في مهرجان صندانس السينمائي، حيث قررا شراء بيت حديث لخديجة التي طوت صفحة العزلة الفردية لتلتحق بالحياة الاجتماعية، علّها تصادف الزوج الذي انتظرته طويلا.


إعلان