“حين ينجلي الغبار”.. مدن مكلومة تروي حكايات دمارها

محمد موسى
وَقَفت الدليلة السياحية السورية أمام مجموعة السيّاح الغربيين، ثم توجهت لهم بلغة فرنسية رصينة بالقول “هذا هو أحد أبواب سوق حلب القديم، ومن هنا يُمكن الدخول إلى السوق الأثري الأكبر في الشرق الأوسط”. لكن قبل أن تواصل شرحها اجتاحتها مشاعر فيّاضة أفقدتها القدرة على إتمام كلامها، ثم قالت “أعتذر، هذا يوم عملي الأول منذ الحرب في عام 2012”.
اختنقت الدليلة المُتمرسة من ثقل اللحظة التاريخية والشخصية، بيدَ أنها لم ترغب في البكاء أمام جمع السيّاح، فأدارت رأسها إلى الجهة الأخرى وغالبت دموعها لثوان بدت طويلة، فهي تريد أن تكمل جولتها مع السيّاح الأجانب الذين -على الأرجح- هم أول من يصل المدينة السورية منذ الحرب المدمرة التي خربت الكثير في سوريا، وفي مدينة حلب نفسها.
صَوَّرَ المخرج الهولندي “جون أبيل” هذا “الحدث التاريخي” من أجل فيلمه التسجيلي “حين ينجلي الغبار” (Once The Dust Settles)، وفيه تنقّل بين مدن ثلاث في العالم تعرضت لكوارث بعضها طبيعي، والبعض الآخر بفعل يد الإنسان. وفي هذه المدن المدمرة احتفل المخرج بالأفعال الإنسانية التي عثر عليها في مواجهة الخراب. حيث اجتهد المخرج كثيرا بأن يبتعد عن ضجيج الحاضر والأخبار التي لا تنقطع، وأحاط شخصياته بهدوء لافت مكّنهم من استعادة الماضي واستشراف المستقبل، والحفر كثيرا في ذواتهم للوصول إلى عواطف صافية.
من أماتريتشي إلى تشيرنوبل فحلب.. كوارث مُدمرة
من مدينة أماتريتشي الإيطالية التي دمرها زلزال عنيف في عام 2016، ينتقل المخرج إلى مدينة تشيرنوبل الروسية التي تحولت منذ انفجار المفاعل النووي القريب منها إلى مدينة أشباح، كما يفرد الفيلم مساحة زمنية -كانت الأطول فيه- لمدينة حلب السورية التي دَمرَّت الحرب قلبها التاريخي المُهم.
يهتم المخرج في فيلمه -الذي يعرض حاليا في الصالات السينمائية الهولندية- بما تتركه الكوارث الكبرى من آثار مدمرة، والجهود الإنسانية بعد ذلك للتعايش مع هذا الدمار، وفهم الأسباب التي قادت إليه، والتمعن في المسؤوليات الجماعية لما حصل.
يختار المخرج أدِلاَّء سياحيين في المدن المدمرة، ومن خلالهم يسترجع ماضي هذه المدن، كما يكشف هؤلاء الأدلاء كنوز المدن التي أحبوها كثيرا، لدرجة أنهم اختاروا مهنا تقوم على الترويج لما تحتويه هذه الأمكنة من نفائس تاريخية وطبيعية.

حلب.. معاناة البقاء في قلب الحرب
في حلب التي وصلها فريق الفيلم بصعوبة، يعثر المخرج على دليلة سياحية مُثقفة جدا تُجيد اللغة الفرنسية التي ستختارها كلغة للتحاور مع فريق الفيلم. حيث عملت المرأة السورية لأكثر من عشرين عاما كدليلة سياحية في مدينة حلب، وتوقف عملها مع الثورة السورية التي تحولت سريعا إلى حرب قاسية.
لم تترك الدليلة السورية حلب أثناء الحرب، وذلك من أجل والدتها المّسنة التي لم تشأ أن تترك المدينة التي تُحب. حيث تقول “حاول أصدقاء لي مساعدتي على ترك سوريا، لكن لم يكن ممكناً ترك أُمّي وحدها، لم يكن قرار البقاء صعباً”. تكشف السيدة السورية التي تصف بشغف كبير مدينتها بأنها قلب الحرب، وبالخصوص قلب المدينة التاريخي.
صَوَّرَ الفيلم مشاهد عديدة من قلب مدينة حلب، رغم صعوبة ذلك ومضايقات الحكومة السورية –وكما صرّح المخرج في مقابلة مع الإذاعة الهولندية الحكومية– وضيق الوقت الذي قضاه فريق العمل في سوريا، حيث ما زال الدمار يُغلّف المشهد العام للمدينة القديمة، هذا رغم أن هناك من يعمل على استعادة روح المدينة القديمة، كما بيَّنت المشاهد التي أظهرت عمّال بناء من أبناء المدينة وهم يُعمّرون بنايات قديمة في الجزء القديم من المدينة.

سنوات الحرب.. بكاء على أطلال حلب
إلى جانب السيدة السورية يرافق الفيلم مدرسا سوريا جذبته مهنة الدليل السياحي، فأصبح يمارسها بين الحين والآخر، ويكشف أنه عندما عاد إلى حلب بعد أن شرّده القتال منها بكى لساعتين متواصلتين، وكان البكاء مزيجا من الحزن على المدينة المدمرة، والفرحة بالعودة إليها. ويصرح المدرس الأربعيني الذي تعود أصوله إلى مدينة عفرين الكردية قائلا: شاهدتُ غرباء في المدينة فتوجهت إليهم وعرضت المساعدة فيما يخص التعريف بأمكنة حلب القديمة.
كل سوري يحمل قصته الخاصة عن الحرب والسنوات الصعبة التي مرَّت. تأخذ الدليلة السياحية فريق الفيلم إلى بيتها حيث تعيش مع أُمّها المسّنة، لتستعيد السيدتان سنوات القتال في المدينة، وتستذكر الابنة تلك الأيام بالقول: عندما بدأ القتال كنّا نبقى أياما طويلة دون أن نغادر البيت، لكن بعد ذلك تعوّدنا على الحال، وبدأنا نخرج ونكتشف ما يحصل في المدينة.
أما الأم فلم يكن قرار بقائها عسيرا على الإطلاق، حيث تقول وهي تتحدث باللغة الفرنسية: هذه مدينتي التي وُلدت وعشت فيها وأحبها كثيرا.

هل يعرف الذين اقتلعوا أشجار الزيتون ماذا اقترفت أيدهم؟
لم يتمالك المُدرّس السوري الكردي نفسه كثيرا أمام الكاميرا، وبكى عندما تذكر كيف اقتلعت الجماعات المسلحة كل أشجار الزيتون التي زرعها بنفسه في قريته في عفرين، من أجل استخدام خشبها للتدفئة. يتساءل السوري بحزن لافت: “هل يعرفون كم من الوقت تحتاج شجرة الزيتون حتى تنمو؟ لم أزر قريتي منذ سنوات بعد سيطرة تنظيمات مسلحة عليها. أحيانا يسألني ابني لماذا لا أذهب وأطرد هؤلاء الغرباء؟”. هكذا يواصل السوري والدموع تملأ عينيه، حتى أنه طلب في النهاية من المخرج أن يوقف التصوير.
وعلى الرغم من المشهد العام القاتم في حلب، فإن هناك إشارات على أن المدينة تستعيد ببطء بعضها من عهدها السابق، يتبدّى ذلك من مشاهد السوريين الذين عادوا للتنزه في المدينة القديمة، ومن إصرار بعض من أهل المدينة على العودة لحياتهم.
ومن المشاهد اللافتة في الفيلم تلك التي تصور دورة تدريبية لأَدِلاَّء سياحيين في المدينة، يقودهم شخص مثقف جدا، ويدربهم على الطرق الأمثل لجذب انتباه السياح أثناء الجولات السياحية.

“أماتريتشي”.. زلزال يقتل آمال إيطالية عاشقة
لا أمل أن تعود الحياة إلى مدينة أماتريتشي الإيطالية بعد الزلزال المُدمر الذي قضى على معظم بنيتها العمرانية. يخبرنا بهذا قسّ المدينة الذي هو في الوقت نفسه أحد أَدِلاَّء المدينة السياحيين. لم يكن زلزال عام 2016 الأول في المدينة الجبلية الصغيرة، إذ أنها دُمرت عدة مرات في قرون مختلفة، وعاد أهلها وبنوا مدينتهم كل مرة. بيدَ أن الزلزال الأخير وما خلّفه من خسائر؛ دفع الحكومة والناس إلى التفكير بأن من الأجدى عدم بناء المدينة في ذات الموقع الجغرافي الذي يقع فوق خط للزلازل.
“انقطع الكهرباء، ولم يعد من الممكن لي إيجاد الطريق للخروج من بيتي في الظلام الدامس”. هكذا يروي القسّ السبعيني الساعات الأولى بعد الزلزال الأخير الذي دهم المدينة في منتصف الليل، ويُعدد القسّ الذي وُلد وعاش في المدينة الحاجات الرمزية العزيزة عليه التي ضاعت في الزلزال، فيما يستعيد الفيلم عبر مشاهد أرشيفية كيف كانت فرق الإنقاذ تخرج بعضاً من نفائس الكنيسة التي دمر الزلزال قسما كبيرا منها.
في هدوء الجبال التي تنتشر عليها بنايات مدينة أماتريتشي الإيطالية ألقى القسّ قصيدة نظمها في تذكر ناس المدينة، حيث يقول إنه لم يستطع النوم لأسابيع عديدة، لذلك بدأ بنظم الشعر. يبتسم القسّ رغم الأوجاع التي بدت على وجهه، ويقول: وجوه الناس التي أعرفها جيدا وماتت في الزلزال، لا تفارقني أبدا.
في احتفال نُظّم لتذكر ضحايا الزلزال، يكشف القسّ في كلمة مؤثرة عن دفتر يوميات لفتاة في الـ14 من عمرها ماتت في الزلزال. ففي اليوم الذي سبق الكارثة الطبيعية، كتبت الفتاة أنها تخطط أن تتكلم مع زميل لها في المدرسة مُعجبة به، وأنها قلقة من ردة فعله، بينما كان القسّ يروي هذه القصة وغيرها من القصص الشخصية لناس عرفهم، كان الكثير من الحضور يُجفّف دموعه بهدوء.

تشيرنوبل مدينة الأشباح.. مصير مُعلّق بين الحياة والموت
يبدو مصير مدينة تشيرنوبل مُعلقا حتى اليوم بين الحياة والموت، فالمدينة التي تلوثت بإشعاعات المفاعل النووي الشهير في عام 1986 ما زالت باقية على حالها، لكن بدون السكان أو الحياة السابقة. لم تشأ الحكومة الروسية أن تهدم هذه المدينة أو تُعيد لها الحياة، لتبقى كما هي منذ أن تركها سكّانها بعد الانفجار النووي مدينة للأشباح والذكريات القاسيّة.
يعثر الفيلم التسجيلي الهولندي على دليل سياحي للمدينة، وليس هذا الدليل شخصا عاديا، بل هو أحد الذين كانوا يعملون في غرف المراقبة في مفاعل تشيرنوبل، وبقاؤه على قيد الحياة يُعد بحد ذاته مُعجزة صغيرة، ذلك أن جميع من كانوا معه في ذلك اليوم ماتوا بسبب تأثيرات الإشعاعات النووية القاتلة.
يبدأ الجزء الخاص بمدينة تشيرنوبل بالدليل السياحي وهو يزور طبيبته الخاصة بسبب مشاكل في التنفس، ويبدو الهزال والتعب واضحين على ملامح الرجل الخمسيني الذي وجد أملا جديدا في الحياة بعد أن طلب منه صديقه أن يشترك معه في تنظيم رحلات سياحية إلى مفاعل تشيرنوبل، حيث يُقبل سيّاح كثر من جنسيات مختلفة على زيارة المفاعل والمدينة القريبة، رغم الخطورة التي تنطوي عليها هذه الزيارة، ذلك أن الإشعاعات التي تسربت إلى بنايات المدينة ما زالت خطرة جدا على صحة البشر.
يحمل الدليل السياحي وشريكه جهازا صغيرا يُبيّن مستوى الإشعاعات النووية في الأجسام المختلفة، الذي عندما يقترب من البنايات وأحيانا الأشجار يرتفع فيه مستوى الإشعاعات إلى حدود مُخيفة جدا. تأخذ الجولات السياحية السائحين إلى البنايات السكنية التي أصبحت مهجورة والمستشفى الوحيد في المدينة، حيث ما زالت لُعب الأطفال مُلقاة على الأرض.
يذهب الدليل السياحي إلى بيته الخاص في المدينة، ويبحث بين الركام عن الكتب القديمة، يضحك الدليل مع صديقه من ماضي الشيوعية، ومن نافذة شقة الدليل الروسي يمكن مُشاهدة بناية المفاعل، حيث يهمس الدليل لصديقه: انظر إلى شمس الغروب الجميلة وهي تغرب بجمال على المفاعل.

غصّة فقد الزملاء.. دليل سياحي حقيقة قصة
يحتفظ الدليل السياحي الروسي بأرشيف شخصي عن تلك السنوات، منها صورة نشرتها إحدى الصحف الروسية الكبرى له في غرفة مراقبة المفاعل قبل عام من الحادث. يُخبر الرجل الروسي مخرج الفيلم بنبرة صوت خافتة ومحايدة: كنت فخورا للغاية بالعمل في المفاعل.
يكشف العامل السابق في المفاعل النووي الذي أُجبر على توقيع وثيقة وقتها تقول إن الدولة الشيوعية لم تكن مسؤولة عن الانفجار، وأنه لا يجوز له الحديث لأي جهة عن عمله في المفاعل الذري، ويقول: حاولوا تشويه صورتنا نحن العاملين في المفاعل واتهمونا بالإهمال، في الوقت الذي كان سبب انفجار المفاعل هو التصميم الرديء للبناية والأجهزة المستخدمة.
يتحدث الدليل الروسي بنبرة صوت حازمة هذه المرة: أعتبر عملي كدليل سياحي في تشيرنوبل كتعويض عن سكوتي في تلك السنوات، فعبر هذا العمل أستطيع أن أروي كل يوم للسائحين القصة الحقيقة لما حدث.
بيد أن هناك حزنا لافتا كان يُخيّم على الرجل، فهو يحتفظ أيضا بصور عديدة لحفل زواجه الذي حضره العديد من زملائه في المفاعل النووي، والذين قضوا جميعا في يوم الانفجار، وبعدها في الأشهر والسنوات القليلة التي أعقبت تلك الكارثة.