السينما الإيرانية.. 90 عاما من الإشعاع في العالم رغم مقص الرقيب
بلال المازني
احتلت أربعة أفلام إيرانية مكانا في قائمة أفضل مئة فيلم بعد استطلاع قام به موقع “بي بي سي كالتشر” في العام 2018 لاختيار أعظم الأفلام الناطقة بلغات أجنبية، وهذه الأفلام الإيرانية هي “عن قرب” و”أين دار الصديق؟” و”طعم الكرز”، للمخرج عباس كيارستمي، وفيلم “انفصال” للمخرج أصغر فرهادي، وبالتالي فقد تحققت نبوءة المخرج الألماني “فيرنر هرتسوغ” الذي قال قبل أكثر من عقدين من الزمن: إن أعظم أفلام العالم اليوم تجري في إيران.
كان فيلم “طعم الكرز” للمخرج عباس كياروستمي من أبرز الأفلام الإيرانية، ويروي بجرأة كبيرة فكرة الانتحار، وقد نال جائزة السعفة الذهبية في مهرجان “كان السينمائي”، وهو النافذة التي أطل منها النقاد في الغرب على السينما الإيرانية المعاصرة وبدأوا باكتشاف سينما هذا العالم البعيد والمختلف.
إن ما يميّز السينما الإيرانية هو أنها تشبه طائر الفينيق الذي يحترق في كل مرة ليرجع في شكل بديع، فقد عرفت إيران صناعة السينما مبكرا حين جلب الشاه مظفر الدين شاه معه آلة تصوير في العام 1900، لتفتتح بعد ذلك بأربع سنوات أول قاعة سينما في البلاد، وليثمر الاطلاع على التجارب الغربية أول فيلم إيراني بعنوان “آبي ورابي” في العام 1930، للمخرج أفانيس أوهانيان، فيما أُنتج فيلم “فتاة لور” سنة 1932، وهو أول فيلم إيراني ناطق.
“جاهلي”.. ابنة الشاه التي شغلته الحرب عنها
لقد اختبرت السينما الإيرانية محنتين، الأولى خلال فترة الحرب العالمية الثانية، والأخرى بعد الثورة الإسلامية للعام 1979، وكانت ثمارهما أفلاما بلغت قمة الإبداع.
أثقلت الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة والتي تلتها كاهل السينما الإيرانية التي حرمت من اهتمام الشاه محمد رضا بهلوي، بعد أن توجه نحو دعم بنية تحتية عسكرية عصرية، فكان لا بد للسينمائيين أن يرسموا طريقا موازيا حتى يستطيعوا إنتاج أفلام رغم ضعف الإمكانيات المادية، وكان ذلك الطريق شبيها بالذي سلكه السينمائيون في إيطاليا إبان الحرب العالمية الثانية وهو “سينما الواقعية”.
كانت السينما الإيرانية في تلك الفترة واجهة لمواطنين عاديين لسرد قصصهم، وقد كان المجال فسيحا وهو ما أتاح لهم ابتداع أنواع سينمائية مختلفة وذات طابع متفرّد تجسدت خاصة في سلسلة أفلام “جاهلي” التي تروي قصص رجال أقوياء يرتدون قبعات ويشهرون سكاكينهم في وجه كل من يدنّس الشرف، ويرافقون مغنيات الملاهي الليلية ويتولون مهمة تخليصهن من حياة المجون.
“البقرة”.. سينما الواقعية العابرة للحدود
أصبح الوضع في إيران مناسبا لتأسيس سينما متفردة وفاعلة، وكان المجال متاحا للتغيير، وقد قام مخرجو ومنتجو السينما بمحاولات لتغيير الوضع في تلك الفترة، وكان أبرزهم: مسعود كيميايي وساموئيل خاشيكيان وهوشنك كاووسي وفرخ غفاري وإبراهيم كلستان وسهراب شهيد ثالث وداريوش مهرجوئي وفريدون رهنما.
لم تتوقف السينما الإيرانية عن العطاء ولم تحد عن الطريق الذي رسمته، وقد جادت فترة ستينيات القرن الماضي بعمليين سينمائيين في منتهى التميّز، الأول للشاعرة فروغ فرخزاد بعنوان “البيت الأسود”، وهو فيلم وثائقي قصير أنتجته في العام 1962، فكان هذا الفيلم من أول الأعمال السينمائية التي مهدت الطريق نحو سطوع نجم السينما الإيرانية، حيث تميّز بمزيج فريد من الواقع والخيال.
ثم جاء المخرج “داريوش مهرجوئي” ليضيء سماء السينما في بلاده بشعلة الإبداع في العام 1969، وذلك بإخراجه فيلم “البقرة” الذي يروي قصة بسيطة جدا عن تعلق فلاح ببقرته وخشية أهل قريته من إخباره بنفوقها بعد أن سافر إلى المدينة، وقد أعجب به الشاه محمد رضا بهلوي، لكنه منع فيما بعد بحجة أنه يروج صورة سيئة عن إيران العصرية، ورغم ذلك فقد هُرّب الفيلم وعرض في مهرجان البندقية سنة 1971، ونال جائزة النقاد، ليصبح أيقونة سينمائية ولتتخطى شهرته حدود إيران.
سينما الدفاع المقدس.. حيل إبداعية تتجاوز مقص الرقيب
“علينا أن نحاول ربط الأكاذيب للوصول إلى حقيقة أعظم لعالم يبدو حقيقيا، الأكاذيب التي ليست حقيقية، لكنها صادقة بطريقة أو بأخرى، هي حيلتنا الوحيدة”.
تلخّص تلك الجملة للمخرج الإيراني الكبير عباس كياروستمي، وضع السينما الإيرانية في ظل رقابة الدولة بعد الثورة الإسلامية، فرغم لائحة الممنوعات التي فرضت على الإنتاج السينمائي، فقد تمكن مخرجو الأفلام السينمائية من إيجاد حيل لا للتعايش مع الوضع المفروض على تلك الصناعة فحسب، بل لخلق مساحات شاسعة للتحليق والإبداع خارج إطار ما يسمى بأفلام “الدفاع المقدس”، وهي أفلام تدور في فلك الثورة الإسلامية والقضية الفلسطينية، وتقيم لها إيران مهرجان “سينما الدفاع المقدس” مرة كل سنتين في إيران.
بدأ الإنذار الأول بدخول السينما الإيرانية في محنتها الثانية، بعد فترة وجيزة من سقوط حكم الشاه في إيران، حين نشرت الصحف المحلية مذكرة استدعاء لسينمائيين من أجل المثول أمام محكمة الثورة، وكانت إشارة سيئة بانتهاء المسيرة المهنية لعدد من الممثلين والمخرجين.
كان الطريق ملتحفا بالسواد خلال السنوات التي أعقبت الثورة في إيران، ولم يكن مستقبل السينما واضحا، لكن خطاب الخميني حسم الأمر بالقول “إن السينما يجب أن تستخدم في تثقيف الشعب، لكن دون أن يساء استعمالها”، وأعطت هذه الكلمات ملمحا عاما عن توجه الدولة لاستعمال السينما نافذة لفك العزلة عنها بعد إسقاط نظام الشاه صديق الغرب، لكن بشروطها وقواعدها التي سطرتها.
لقد كان تحديا كبيرا بالنسبة للسينمائيين الإيرانيين الذين اختبروا قائمة من المحاذير الأخلاقية والدينية، ونجحوا في ذلك التحدي باستعمال حيل اللغة والمجازات التي تخفيها زوايا التصوير والضوء وكل تقنيات الإخراج، وفاجأت موجة الأفلام وليدة الرقابة كل نقاد السينما في العالم بسبب شاعريتها وبساطة مواضيعها.
“قصص”.. جرأة الغوص في الممنوع
استفادت إيران في فترة ما بعد الثورة من الإشعاع الذي حققته أفلام نجت من مقص الرقابة، وأنتجت وعرضت في الخارج، لكن استطاع أيضا مخرجون اختاروا البقاء في إيران إنتاج أفلام متميزة تحدوا فيها بجرأة بالغة بطش الرقيب، وغاصوا في موضوعات حساسة عرت ممنوعات كثيرة، وكانت من ضمنهم المخرجة رخشان بني اعتماد، ففي فيلمها “قصص” الذي أنتج في العام 2014، دخلت كاميرا بني اعتماد إلى الأحياء الشعبية في إيران، لتصور مشاهد ألفها الإيرانيون، ولكن في المقابل يُمنع عرضها.
يقدم فيلم “قصص” للمشاهد طبقا دسما من الحياة اليومية التي تختفي خلف عمامة المرشد رمز الدولة الإسلامية، ويروي جوانب من حياة مخفية لشبان إيرانيين، الأول سكير، والثاني يدخن الحشيش، وأخرى تواجه ظروفا قاسية أجبرتها على امتهان الدعارة، وشاب آخر يحلم بالهجرة خارج إيران، وامرأة تعاني من مرض الإيدز. ويُعتبر هذا الفيلم من أكثر الأفلام الإيرانية الممنوعة جرأة.
جعفر بناهي.. كاميرا تتحدى الإقامة الجبرية
لم تكن ضريبة الحلم الذي تجرأ سينمائيون على تجسيده في أفلامهم هينة، بل وصلت إلى حد حرمان بعضهم من ممارسة مهنتهم، وهو ما حصل مع المخرج جعفر بناهي في العام 2009، حين قامت السلطات الإيرانية باعتقاله، بعد مشاركته في التظاهرات الداعمة للمرشح “مير حسين الموسوي” بعد ترشحه للانتخابات الرئاسية.
حُكم على بناهي بالسجن لمدة ست سنوات، ثم بالإقامة الجبرية، وذلك بالتوازي مع منعه من ممارسة مهنته لمدة عشرين سنة، لكن بناهي تحدى ذلك الحكم وأخرج أثناء إقامته الجبرية ثلاثة أفلام هرّبت إلى الخارج وعرضت خلال مهرجانات سينمائية كثيرة.
كان فيلمه الوثائقي “هذا ليس فيلما” (2011) تصويرا لحياته خلال حكم الإقامة الجبرية، كما عرض في فيلم آخر حياة روائي تلاحقه السلطات الإيرانية، وهو فيلم بعنوان “الستارة المغلقة” (2013)، وقد فاز بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في مهرجان “برلين السينمائي”، وتواصلت الإبداعات العالمية لجعفر بناهي في فيلم “تاكسي طهران” الذي صور عبر كاميرا خفية يوميات سائق سيارة أجرة ونال جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي.
قبل ذلك نال فيلمه “الدائرة” (2000) جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، وتميزت أفلام بناهي بالخوض في موضوعات سياسية واجتماعية لم تعهدها السينما الإيرانية قبلا.
سار “بناهي” على خطى معلمه المخرج المتميز عباس كياروستمي، وأخرج أفلاما نالت استحسان النقاد قبل محاولات مقص الرقيب قص جناحيه.
أصغر فرهادي.. أوسكاران في ظل التضييق
لقد صارع المخرج جعفر بناهي وصنع أفقا رحبا بين أسوار إقامته الجبرية، فأنتج أفلاما عدة متحديا الرقابة التي عانى منها مخرجون إيرانيون آخرون مثل عباس كياروستمي وكمال تبريزي ومحسن مخملباف، وصعد نجم المخرج أصغر فرهادي في ظل التضييق الخانق الذي مارسته السلطة في إيران، واستحق جائزتيْ الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عبر فيلمه الأيقونة “انفصال” (2012)، وفيلمه “البائع” (2017).
لكن الضوء الذي سطع من نجوم السينما وتجاوز حدود إيران، يخفي أفلاما لمبدعين يصارعون بدورهم الرقابة أيضا مثل المخرج فرخ غفاري وإبراهيم كلستان وبهمن فرمان آرا ومرضية مشكيني وشيرين نشاط صاحبة فيلم “نساء بلا رجال”، وغيرهم ممن لم تصل أفلامهم إلى القمة رغم تميزها ورغم أنهم يجرون السينما الإيرانية نحو زوايا لم تعهدها في السابق.
قد يبدو أفق السينما الإيرانية في ما بعد الثورة سوداويا، لكن هؤلاء المخرجين تحدوا قائمة الممنوعات ليثبّتوا جذور سينما توارثت الواقعية والبساطة والمقاومة.
شعار التقشف.. زورق نجاة السينما الإيرانية
تبدو السينما الإيرانية في ملامحها العامة شبيهة بالسينما الإيطالية في أواخر الأربعينيات وفترة الخمسينيات، حيث تحدت قلة الإمكانات المادية إلى جانب الممنوعات التي وضعتها السلطة، والتي كان من الممكن أن تتسبب في وأد إرث فني مهم ولد منذ بداية القرن الماضي.
إن أهم ما يميز السينما الإيرانية هو شعار التقشف الذي رفعته وهو تحدّ ليس بالهيّن في صناعة السينما، وشمل التقشف الحوار والموسيقى أيضا، وهو قد يكون حيلة من حيل المخرجين لتجنب الرقابة التي تضع مصطلحات معينة ضمن قائمة سوداء، كما تبرز سمات الواقعية كتيار فني في الأفلام الإيرانية من خلال الاعتماد على ممثلين هواة أو على شخصيات غير محترفة.
لقد كانت الواقعية الجديدة حيلة من حيل السينمائيين في إيران ومهربا سلكوه ليواجهوا سلطة النظام في بلادهم، وكان مركب النجاة الذي أبحر بهم هو التحرر من قواعد الإنتاج السينمائي الهوليودية والغوص في القصص الإنسانية التي غالبا ما تكون ذات ملامح متداخلة بين التسجيلي والروائي.
“سينما الإنسان”.. كابوس يقض مضجع النظام
رغم أن الواقعية فرضها ظرف سياسي معين طوعه مخرجون لإنتاج أفلام في منتهى الإبداع، فإنها في الحقيقة قد أثارت مخاوف السلطة في إيران لسببين، وهما تحرر الإنتاج السينمائي الذي أفلت من قبضتها باعتماده على إمكانات بسيطة، أما السبب الثاني فهو الغوص في الحياة اليومية وإقحام المواطن الإيراني في اللعبة السينمائية السياسية، وهو كابوس مرعب بالنسبة للنظام في إيران قبل الثورة وبعدها.
كما تميزت أفلام مثل “المبعدون” للمخرج مسعود ده نمكي الذي حقق أعلى إيرادات في السينما الإيرانية، و”انفصال” للمخرج أصغر فرهادي الذي تميّز بأسلوب قص قلده فيه مخرجون شبان، ويتمثل بالمزج بين الروائي والوثائقي، وهي إحدى سمات السينما الإيرانية، كما يظهر ذلك الأسلوب بوضوح في فيلم “أطفال الجنة” للمخرج محمد مجيدي الذي يروي حزن فتى فقير بعد إضاعته حذاء شقيقته، وهو فيلم يذكرنا بالفيلم الإيطالي الرائع “سارق الدراجة” للمخرج “فيتوريو دي سيكا”.
لقد جمعت أغلب الأفلام الإيرانية خصائص تمكننا من وصفها بأنها “سينما الإنسان” وذلك لارتباط المخرجين الإيرانيين بالشارع وبالواقع اليومي للمواطن وخاصة العمل على استلهام قصص بسيطة بعيدة عن تعقيدات السينما الأخرى، حيث تمتزج القدرة العجيبة التي يحيك بها المخرجون الإيرانيون قصص أفلامهم مع تلك القصص التي تستلهم من حياة الإيرانيين اليومية. ولعل أكثر ما يبهر في السينما الإيرانية هو أن أغلب المخرجين يؤلفون قصص أفلامهم، وهو ما يذكرنا بما يعرف بسينما المؤلف التي اشتهرت في فرنسا، وهو ما يعطي تكاملا مثاليا بين القصة والإخراج.
يبدو أن قرابة القرن من صناعة السينما في إيران جعلتها تخرج بمدرسة متفردة حقا بين مدارس السينما في العالم جعلتها تلك الجميلة والصامدة والعالمية.