“مارتن إيدن”.. قوة فردية في خضم واقع مزدوج

خالد عبد العزيز
“العالم أقوى مني، ولا شيء لدي ضد قوته غير نفسي، وطالما لم أدعها تنهزم، فأنا أيضا قوة”.
بهذه الكلمات التي يُرددها “مارتن إيدن” في الفيلم الإيطالي “مارتن إيدن” (Martin Eden) الذي أنتج عام 2019، وعرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي في دورته الـ72 عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأمريكي “جاك لندن” وسيناريو وإخراج “بيترو مارسيللو”؛ يُعبر عن ضلع أساسي في مضمون الفيلم، ألا وهو أن الإنسان بقوته الداخلية ومثابرته يستطيع فعل المستحيل، ومن خلالهما يُمكن أن يتبدل المصير الإنساني للفرد، وتتغير حياته بشكل كامل.
تدور أحداث الفيلم حول “مارتن إيدن” البحار الإيطالي الذي ينتمي للطبقة الفقيرة، ويلتقي بالفتاة الثرية “إلينا”، لتنشأ بينهما قصة حب عنيفة يُقرر على إثرها تغيير حياته وترك مهنته ليتحول إلى الكتابة الأدبية، في ظل تحولات مجتمعية يشهدها المجتمع الإيطالي، أفرزت عن صعود الاشتراكية كقوة مناوئة للبرجوازية، لتتجلى زاوية أخرى لمضمون الفيلم، وهي الصراع الإيديولوجي والفكري بين البرجوازية والاشتراكية، وأيهما أنسب للشعوب، أم أن كلا منهما يسعى لمصلحته الخاصة، والجماهير هي من تدفع الثمن في النهاية؟
ما بين الثرى والثريا.. عوالم الفقر والثراء
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه “مارتن إيدن” (الممثل لوكا مارينيلي) في الزمن الحاضر للفيلم، وهو مُمسك بجهاز التسجيل يسجل فيه مذكراته، ثم ننتقل للمشهد التالي ونرى فيه “مارتن” شابا وهو على متن إحدى السفن في عرض البحر، لينتقل السرد نحو الماضي، فقد عَمد السيناريو إلى جعل الزمن مجهولا، فلا يدري المتفرج في أي زمن تجري الأحداث، هل قُبيل الحرب العالمية الثانية أم بعدها؟ فالأفكار التي يطرحها الفيلم تبدو أهم وأعمق من حصرها في إطار زمني محدد.
يتعرف “مارتن” على أسرة الشاب “أرتورو” الذي يُنقذه من براثن حارس الميناء بعد أن أوسعه ضربا، ليصل “مارتن” برفقة “أرتورو” إلى قصر عائلته، ثم تنتقل الكاميرا إلى وجه “مارتن” وهو يتأمل حديقة القصر وعيناه مشدوهتان، ليصبح هذا المشهد هو حجر الأساس، في المقارنة التي يُجريها السيناريو بين العالمين الذين تدور الأحداث بين رحاهما.
حيث جعل السيناريو الأحداث تتناوب بين عالم الأثرياء وعالم الفقراء، لكل منهما ملامحه وطبيعته، ليتقاطعا معا مع وصول الأحداث للذروة، فالعالم الأول عالم الأثرياء: قصر عائلة “إلينا” (الممثلة جيسيكا كريسي) شقيقة “أرتورو”، وأجواء حياة البذخ البرجوازي التي تحياها العائلة تطل بجلاء واضح، خاصة بعدما تعلق قلب “مارتن” بحب “إلينا” ابنة الأسرة الثرية، ليكتشف الهوة بين حياته وحياتها، فكل منهما ينتمي لعالم ما يختلف كلية عن الآخر.
تتسم حياة “إلينا” بالرفاهية والنعومة، فالأب فاحش الثراء وعلى صلة بكبار رجال الدولة، وبالتالي حينما تقترح “إلينا” على “مارتن” طلب مساعدة والدها تتعقد الأحداث وتتضح أكثر معالم العالم الثاني، وهو عالم الفقراء، حيث حياة “مارتن إيدن” لا تكاد تكفي متطلبات معيشته، ثم تنقلب حياته بالكامل بعد ارتباطه بقصة حب مع إلينا، ليقرر على إثرها أن يصبح أديبا، وتصبح حياته على حافة الفقر أكثر وأكثر.

“أثرياء مثل الخنازير”.. عقيدة اشتراكية
يبدأ “مارتن” محاولاته في الكتابة الأدبية بكتابات بدائية تفتقر للخيال الخصب، كما تحتوي على جرعة لا بأس بها من اليأس والفقر، فيسعى لنشر هذه الكتابات في المجلات الثقافية، وفي كل مرة تُقابل قصته بالرفض، ففي ظل الصراع المحتدم بين القوى الاشتراكية من جانب والبرجوازية من جانب آخر، يصعب نشر مثل هذه الكتابات التي لا تدعو إلا لليأس والفقر.
فقد صور السيناريو بدايات الحركات الاحتجاجية العمالية في المدن الإيطالية، تلك الحركات التي بدأت من القرن الماضي وتبلورت مع بزوغ الحزب الشيوعي الإيطالي، وعند هذه النقطة الهامة التي يتناولها الفيلم يكتسب الفيلم بصمة سياسية، وإن كانت هذه البصمة ليست زاعقة أو عالية النبرة.
تتعدد قراءات “مارتن” وتتسع معارفه، لكنه يقف من الاشتراكية موقفا محايدا، وإن كان هذا الموقف مع تعقد الأحداث سيشوبه التغيير، وهذه عادة الأفكار لا تستقر على وتيرة واحدة، يتقاطع مسار حياة “مارتن” مع “روس بريسندن” (الممثل كارلو كيشي) المفكر والكاتب الاشتراكي الذي يقابله صدفة في إحدى الحفلات، لتكتسب حياة “مارتن” طابعا جديدا وعمقا واتساعا يتناسب مع اتساع رؤيته للمجتمع بصفة عامة، والظلم الواقع على الفرد، في مقابل تصاعد قوى البرجوازية، ففي أحد المشاهد، نرى “مارتن” وهو يتناول العشاء مع أسرة “إلينا”، ثم يشتد الحوار بينهم ويصيح قائلا “أنتم ترقون التجار وأصحاب المتاجر، لأنكم تريدون بأن تصبحوا أثرياء مثل الخنازير”، ليبلور السيناريو معالم رؤية الاشتراكية للبرجوازية، فكل منهما يرى الآخر شرا ينبغي التخلص منه حفاظا على مصالح العامة، لكن الحقيقة تكمن في أن الجميع يعمل من أجل الوصول للسلطة، بعيدا عن المصلحة العامة، فالشعب ليس سوى قطيع يساق نحو الهدف.

ظلال العاطفة والفكر.. صراع متعدد الأوجه
قسّم السيناريو الصراع الدرامي في الفيلم إلى شقين، كل منهما يسير في مسار مختلف عن الآخر، لكنهما يتلامسان عند نقطة مُحددة.
الصراع الأول داخلي نفسي، أما الصراع الآخر فهو خارجي فكري، ويتمحور الصراع الأول حول النفس الإنسانية، وما تحتويه من قدرة على التغيير. “مارتن” الذي لا يُجيد القراءة أو الكتابة، يعمل على تطوير ذاته، وتحقيق أقصى درجة من الرقي والتعلم، يسعى لتغيير حياته بشتى السبل فينكب على القراءة ويقرأ كل ما يقع تحت يديه، فنجده في أحد المشاهد يقول لإلينا: “أنا أقرأ، أقرأ مثل الصياد الذي لا يشبع”، فهو يرى القراءة وكأنها سلم، عليه اجتيازه حتى يتمكن من تحقيق ذاته، والوصول لقلب حبيبته.
كما أنه يكتب القصص باستمرار دون أن يفقد الأمل، يكتب وترفض المجلات الأدبية نشر نصوصه كثيرا قبل أن تنشر واحدا منها بعد عناء طويل، فسعي “مارتن” نحو حلمه بأن يُصبح كاتبا -رغم العقبات التي تواجهه يبدو مشفوعا بقوة داخلية- قد لا يُقدر هو مدى قوتها، حتى يصل مع الفصل الثالث من الفيلم، إلى تحقيق حلمه ويُصبح كاتبا مشهورا، لنجد أن نفسه لا تزال تُعاني، وهنا يطرأ سؤال هام، ألا وهو هل يُحقق الثراء والوصول للغاية السعادة للإنسان، أم أنه سيظل حبيسا وأسيرا لأهواء نفسه التي تنازعه الراحة؟
وبالنظر إلى شخصية “مارتن”، فقد رسمها السيناريو مثابرة وتتحلى بالصبر إلى أقصى درجة، لا يعتد بما يُقال عنه، ما يعنيه هو تطوير نفسه والعمل على الارتقاء بها بشتى السبل، حيث نجده في بدايات الفيلم سعيدا رغم معاناته الفقر، ومع وصوله للثراء والشهرة، نجد أن شخصيته تحولت، وأخذت منعطفا مُغايرا يبعث على الأسى فيتجه للإدمان، وتحاوط التعاسة حياته بشكل مزرٍ، وفي أعماق نفسه يتمنى أن يعود إلى الماضي كما كان منطلقا يتمتع بالسعادة، ليظهر في المشاهد الأخيرة وهو ينظر من نافذة قصره، ليرى نفسه في نسخته القديمة، وهو يسير فرِحا في شوارع نابولي وبيده كتبه التي يُحبها، بعد لقاءه الأول بمحبوبته.
أما الصراع الآخر، ففكري إيديولوجي، يتمثل في الصراع بين البرجوازية المتجذرة في المجتمع الإيطالي في مقابل الاشتراكية كقوى صاعدة حينها، في البدء يهاجم “مارتن” الاشتراكية كفكرة، فهو يرى أنها لا تختلف عن البرجوازية في شيء، فكلاهما يجعل من الفرد عبدا، فنجده في أحد المشاهد يقول لإحدى التجمعات الاشتراكية: المرء دوما لديه سيده، وهذا السيد رجل آخر، هذا ما أراه فيكم جميعا، “عبيد”.
هذا الموقف الذي يتخذه “مارتن” سينقلب عليه فيما بعد، ليصبح أحد الداعمين ماديا للاشتراكية رغم عدم قناعاته الفكرية، خاصة مع تصاعد نبرة غضبه مما يحدث في المجتمع من ظلم على الطبقة الفقيرة والعمال، في خضم هذا الصراع، يقف “مارتن إيدن” بينهما، فما يعنيه هو الوصول لهدفه، بعيدا عن أي صراع، فرؤيته نحو المنهجين الفكريين متساوية، إذ لا فرق بينهما.

أفلام الواقعية الإيطالية.. فلسفة إخراجية
قدم المخرج الإيطالي “بيترو مارتشيلو” -في ثاني تجاربه الروائية الطويلة، وبعد حوالي عشرة أفلام تسجيلية متنوعة بين القصير والطويل- فيلما فريدا ليس فقط في مسيرته الفنية، بل على مستوى العام السينمائي 2019.
يمزج “مارتشيلو” في فيلمه بين الروائي والتسجيلي بشكل متلاحم فيما بينهما وفي تناسق واضح، فبناء الفيلم روائي، لكن هذا البناء الأشبه بمصفوفة تحوي فيما بينها مشاهد تسجيلية مُقتطعة تعود للماضي، تُبرز معاناة المجتمع قُبيل وبعد الحرب العالمية الثانية، وتُذكرنا بأفلام مخرجي الواقعية الإيطالية مثل “روسيني” و”دي سيكا” وغيرهما.
تأتي البداية مع مشاهد قديمة لقطار يسير والركاب يلوحون لرفقائهم، وتتخلل الفيلم مشاهد عدة على هذا النمط، تتكرر بصفة مستمرة على مدار الأحداث دون إقحام، وبشكل يجعل إيقاع الفيلم يسير بشكل متدفق تلقائي، مما أضاف حيوية للسرد وجعله يتسم بالطزاجة الفنية، كما جاءت الإضاءة والألوان بصفة عامة متماهية مع الفترة الزمنية التي تتناولها الأحداث، بشكل يتفاوت بين بهجة الماضي وقسوته في نفس الوقت.

نموذج الرقي والحب.. بناء درامي
على مستوى البناء الدرامي، نسج السيناريو علاقة الحب بين “مارتن” و”إلينا” بشكل جذاب يتسم برومانسيته الهادئة التي تنساب إلى المتفرج برقة، كما ساهمت حركة الكاميرا المحمولة في التعبير عن المشاعر المتدفقة بين “مارتن” و”إلينا”، حيث تقترب الكاميرا من الوجه بشكل مكثف، وتتحرك تلقائيا يمينا ويسارا أو تصعد لأعلى، مما يجعل تفاصيل الوجه وتعبيراته تظهر بوضوح وتُعبر عن حالتهما معا، ومع تعقد العلاقة بينهما تتضح أكثر سمات الحب بينهما.
يرى”مارتن” في “إلينا” نموذجا للرقي أكثر منها نموذجا للحب، لذا عندما يختلفان سويا ثم تعود إليه بعد وصوله للثراء يتركها، فهو وصل إلى ما ترنو إليه نفسه، وبالتالي يتخذ من تركها له حينما كان فقيرا حجة واهية أو حيلة داخلية لمواساة نفسه المعذبة.

تجسيد على قدر الشخصية.. أداء مُعبر
استحق الممثل الإيطالي “لوكا مارينيلي” جائزة أفضل ممثل في مهرجان البندقية السينمائي، فأحداث الفيلم تدور حول شخصية “مارتن إيدن” كشخصية محورية تنطلق منها وحولها خيوط الدراما، وبالتالي جاء الأداء على قدر الشخصية وحجمها ورمزيتها أيضا، حيث أجاد التعبير عن حالة العذاب النفسي التي تنتابه، خاصة بعد وصوله للثراء، لتبدو قدراته التمثيلية جلية في هذا الدور، وبشكل يتضح من خلاله مدى تحكم وإدارة المخرج للمثليين ككل، و”مارتن” بشكل خاص.
يتلقى “مارتن” دعوة لزيارة الولايات المتحدة، ويقبلها بعد فترة من الرفض، رغبة منه في تلقين الفكر الإمبريالي درسا، لينقلنا الفيلم لصراع جديد وإن كان خافتا، صراع بين الاشتراكية والغرب، وكأنه يتنبأ بالحرب الباردة، ليبدو الفيلم يحوي جعبة لا يستهان بها من الأفكار أجاد التعبير عنها بحرفية، وليبقى السؤال الشائك يتردد مع مشاهد النهاية و”مارتن” يسبح في البحر وحيدا، هل الوصول للثراء وتحقيق الأحلام التي ترنو إليها النفس يجعل الإنسان سعيدا حقا، أم أن السعادة تكمن بالداخل؟