“كيف تسرق بلدا؟”.. الأخطبوط الهندي الذي اختطف جنوب أفريقيا

جنوب أفريقيا من أغنى دول القارة الأفريقية، لكن بعد عشرين سنة من تخلصها من حكم “الأبارتيد” البغيض تبخرت ثرواتها ودُمر اقتصادها، فزاد فقر سكانها وانهارت بنيتها التحتية، ويحيل محللون وخبراء سياسيون وكثير من الصحفيين الاستقصائيين السبب إلى فساد النُخب الحاكمة الجديدة، وتغليب مصالحهم الشخصية على مصالح الشعب. لا يكتفي المخرج الجنوب أفريقي “ريهاد ديساي” بذلك التشخيص فيذهب بنفسه للتحقق من صحته.
يطرح المخرج على نفسه سؤالا محوريا: أين ذهبت ثروات جنوب أفريقيا؟
ثم يشرع في البحث عن جواب له، عبر مراجعة تحليلية واستقصاء للمرحلة الأخيرة من حكم الرئيس السابق “جاكوب زوما”، وهي الفترة التي توصف بأنها الأسوأ في تاريخ البلد، حيث انتشر الفساد واختطفت الدولة على يديه وأضحت رهينة عند عائلة “غوبتا” الهندية المهاجرة التي سيطرت على أهم المراكز الاقتصادية وساهمت في إشاعة ثقافة الرشوة وشراء الذمم.
إمبراطورية آل “غوبتا”.. قصة من السينما الهندية
يفتتح الوثائقي الجنوب أفريقي “كيف تسرق بلدا؟” بنبذة عن عائلة “غوبتا” وقربها من الرئيس “زوما”، فقد جاءت العائلة الهندية المهاجرة إلى جنوب أفريقيا من منطقة فقيرة، وكان الأب “غوبتا” يصلح الأحذية ويبيعها.
حين قدم الأب إلى جنوب أفريقيا البلد الغني وضع لنفسه هدفا محددا هو بناء ثروة من خلال التقرب من مواقع القرار السياسي ليديرها أولاده الثلاثة بدلا منه، وقد بدأ أبناؤه بنسج علاقات مع قادة الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني الأفريقي) بإشراف والدتهم.
استطاع آل “غوبتا” خلال مدة قصيرة امتلاك أكبر المناجم والسيطرة على قطاعات تكنولوجية مهمة، وبعد مرور وقت قصير على اتساع إمبراطوريتهم بدأت علامات الثروة تظهر على الرئيس “زوما”، وشاع كلام عن علاقته بالعائلة وحصوله على نسب كبيرة من أرباح مشاريعها التي راح يمنحها لهم دون مراعاة لمصالح البلد العامة.
طائرة في القاعدة العسكرية.. فضيحة العرس
لاحق صحفيون استقصائيون لسنوات نشاط العائلة وكشفوا جوانب من أساليبهم الملتوية للحصول على مشاريع حكومية كبيرة مستغلين علاقتهم بالرئيس وزعيم الحزب الحاكم، لكنها ظلت في حدود ضيقة ولم تنجح في إثارة الرأي العام، غير أن حفل زواج لواحد من أفراد العائلة أثار فضيحة سياسية مهدت للكشف عن فساد مالي وإداري كبيرين.

انطلقت الفضيحة مع هبوط طائرة مدنية قادمة من الهند تقل على متنها أكثر من مئتي ضيف نزل ركابها في قاعدة “ووتركلوف” العسكرية، ودخلوا البلد من دون تأشيرات دخول، كما أنهم لم يخضعوا لأي تفتيش روتيني، وكانت تنتظرهم سيارات خاصة خارج القاعة، وقد أثارت صورة موكبهم الخاص ضجة إعلامية، وشاعت أخبار عن إصدار الرئيس “زوما” أوامر إلى قيادة القاعدة للسماح لركاب الطائرة بالدخول.
سيشكل هبوط الطائرة في القاعدة العسكرية، لحظة مفصلية من تاريخ العلاقة بين العائلة والرئيس، وستفتح الخطوة الاستفزازية الباب على مزيد من البحث عن مصادره المالية.
“دودوزاني” الصغير المدلل.. أحلام الحياة المترفة
يعود الوثائقي إلى 2009، عام تنصيب “زوما” رئيسا لجنوب أفريقيا، حين أعلن في أول خطاب له أنه سيقوم باتخاذ إجراءات لتقوية اقتصاد البلد وتوسيع بنيته التحتية، وقد قام بتغييرات خلال عشر سنوات من فترة حكمه (2009- 2018)، لكنها لم تكن تصب في المصلحة العامة، بل صبت كلها في مصلحته الشخصية.
يتابع الوثائقي سلوكه وتصرفاته بعد عودته من المنفى عام 1990، ويكشف ظهور ميل لديه نحو الترف ورغبة في عيش حياة مرفهة، مختلفة عن حياة المناضل الوطني، فقد أراد “زوما” إشباع رغبته في الثروة عبر تعيين مقربين له في المؤسسات الاقتصادية المهمة، ولم يجد أفضل من ولده “دودوزاني” ليحقق له أحلامه عبر إعداده ليكون رجل أعمال يتدرب على يد عائلة “غوبتا”، وقد تمكن بهذه الطريقة من تمرير عقود ضخمة أُبرمت باسم الحكومة مع شركات بعينها، وكان ابنه والعائلة الهندية أطرافا رئيسية فيه.

يبحث الوثائقي خلف تلك القضايا ليكشف أن العقود التي أبرمتها الحكومة لتحديث قاطرات أكبر مؤسسة للنقل الحكومي “ترانسينت” بقيمة خمس مليارات دولار أمريكي، قد دخل قسم كبير منها في جيب “زوما”، وأن أفرادا من عائلة “غوبتا” -كانوا وراءها- طلبوا منه إبعاد النزهاء من الوزراء وقادة المؤسسات، فبهذه الطريقة يمكن لهم تمرير كل صفقاتهم.
عملوا على خصخصة كبريات المشاريع الاقتصادية، ومع الوقت تحولت تلك الهياكل العامة إلى شركات خاصة بفضل تشابك مصالحهم مع الرئيس، وعبر التخريب المتعمد للمصالح العامة تمكنت العائلة من التحكم بقرارات الحكومة، وعمليا صارت الدولة رهينة عندهم.
مناجم اليورانيوم.. حصة الأسد من صفقة المفاعل النووي
ليس هناك كشف مثير يدل على سيطرة عائلة “غوبتا” على مقاليد البلاد مثل العقد الخاص الذي أبرمته حكومة “زوما” مع موسكو عام 2014، لبناء مفاعلات ذرية لأغراض سلمية، وللاطلاع على تفاصيله وخفاياه استعان الوثائقي بمجموعة صحفيين محليين.
يكشف البحث أن “زوما” قرر فجأة بناء مفاعلات ذرية وإبرام عقد مع الروس لتنفيذها بتكلفة خيالية تفوق قدرة ميزانية الحكومة على تحملها، وبعد اعتراض وزير المالية على قيمة العقد طرده الرئيس، وعين أحد المقربين إليه بدلا منه، وقد وافق الوزير الأخير على العقد مقابل رشوة قدمها له أبناء “غوبتا”.

تبدو العائلة على الورق بعيدة عن الصفقة، لكن التقصي أوصل الصحفيين والوثائقي إلى الخطوة الاستباقية التي اتخذوها لتكون لهم حصة وافرة فيها، تمثلت بشرائهم مناجم اليورانيوم من الحكومة. بهذا ضمنوا حصتهم الأكبر، فالمفاعلات بحاجة لليورانيوم كي تعمل، وهم الوحيدون من يملكه.
بروباغندا الإعلام والجماهير.. منصات تلميع المفسدين
بعد استقالة وزير المالية أثيرت ضجة إعلامية وحامت شكوك حول الصفقة الروسية قادها صحفيون استقصائيون تعرضوا على إثرها لتهديدات بالتصفية واختلاق فضائح أخلاقية ضدهم.
يكشف الوثائقي الجنوب أفريقي المذهل في اشتغاله السينمائي أساليب دعائية اعتمدها “زوما” وعائلة “غوبتا” لتحسين صورتهم من خلال امتلاكهم منصات إعلامية خاصة بهم، فقد أنشأوا قناة “أي أن أن ٧” (ANN7) وأصدروا صحيفة “نيو أيج” (New Age)، وكانت مهمة تلك الوسائل الإعلامية تلميع صورة الرئيس، وإبعاد أي شكوك تؤشر إلى تورط العائلة الهندية في صفقات مشبوهة، أو تكشف دفعهم رشاوي لمسؤولين كبار ومدراء شركات.

يتضح على جانب آخر من خلال البحث أن الطرفين كلفا شركات بريطانية خاصة مهمتها تلميع وتنظيف سمعتهما طيلة فترة حكم “زوما”، ويعترف في مقابلة خاصة مدير إحدى الشركات للوثائقي بأنه كُلف أكثر من مرة لأداء مهمات تخص الأطراف المتنفذة في جنوب أفريقيا.
لا يكتفي الرئيس بذلك بل يلجأ إلى مؤيديه والمستفيدين منه، لتخويف معارضيه والإعلام، فقد دخل عدد منهم في مشهد فاضح على مؤتمر صحفي عُقد لكشف أسباب استقالة وزير المالية، ويشرعوا بافتعال مشاجرات هدفها إفشال المؤتمر، كما كان يستعين بهم أيضا في المظاهرات الحاشدة المؤيدة له. وقد استخدم أساليب ترهيب ضده معارضيه، وكان يوجه إلى كُل من يحاول فضح فساده تهم العمالة وبأنه يريد إعادة نظام “الأبارتيد” ثانية، وأنه ضد السود وقادتهم.
“تسريبات غوبتا”.. تباطؤ متعمد في أروقة القضاء
تردي الأوضاع الاقتصادية في البلد، وزيادة نسبة الفقر وتغليب مصالح الطبقة الحاكمة على مصالح الشعب؛ كل هذه العوامل أدت إلى إغضاب الشارع وخروج الناس احتجاجا على مسببيها.
لعبت الصحافة النزيهة دورا في كشف المخفي من أسرار حول دور “زوما” والعائلة الهندية في نهب البلاد وخصخصة المؤسسات الحكومية، وساهم تسريب المراسلات الإلكترونية الخاصة بأولاد “غوبتا” (بما فيها تسجيلات صوتية وفيديو)، وهي التسريبات التي أطلق عليها “تسريبات غوبتا” تشبيها بـ”تسريبات بنما” في كشف فساد هيكيلي منظم امتد إلى الخارج، حيث أشرك الناهبون شركات أجنبية متعددة الجنسيات في عمليات سلب ثروة البلاد عبر صفقات يصعب كشف صلات أصحابها بالداخل، كل ذلك استوجب تدخل القضاء.

ومع أن المعارضة ثمنت تدخل القضاء لوضع حد للفاسدين واعتبرته تحركا إيجابيا، فإن الوثائقي يلمح إلى تلكؤ وتأخير متعمدين، ويدلل على ذلك بهروب أحد أبناء “غوبتا” إلى دولة الإمارات المتحدة التي لديه فيها إقامة رسمية، إلى جانب إقامته في جنوب أفريقيا، كما أن ابن الرئيس بدوره هرب خارج الحدود.
نهاية مفتوحة.. عندما يفرض الشارع سطوته
توسعت التحقيقات في قضية تسريبات “غوبتا” لسعة حجم المكشوف من فضائح، وطالت قادة في الحكومة والحزب الحاكم، وكإجراء ضروري لحفظ مكانة الحزب دعت قيادته إلى تشكيل لجنة تحقيق خاصة، لكن رجوع ابن الرئيس وتسليم نفسه للشرطة وإجابات الرئيس على أسئلة اللجنة الحزبية التي غلب عليها طابع الحوار لا المحاسبة، يدلان على قوة نفوذ “زوما” وعدم خوفه في ظل ما نشره من فساد وشراء ذمم، لهذا وبدلا من إحالة القضية إلى المحاكم اكتفى الحزب بتحقيقه الذي لم يخرج بنتيجة حاسمة.

بعد تلك التحقيقات التي لم تؤد إلى نتيجة ملموسة حدث المتغير الكبير في الشارع الذي أعلن رفضه للرئيس وطالب بتنحيه، فاستجاب الحزب الحاكم لضغوط الشارع وطالب “زوما” بتقديم استقالته من رئاسة جنوب أفريقيا عام 2018.
ظهور الرئيس في المشهد الأخير من الوثائقي مسترخيا يحيط به أنصاره يحيل إلى نهاية مفتوحة لا تشي بوضع حد سريع لمرحلة طويلة نهبت خلالها جنوب أفريقيا وتحولت من أغنى دول القارة، إلى واحدة من أكثرها فسادا ومشاكل مستعصية على الحل.