أفلام الطفولة في السينما الإيرانية.. مسلك التقية في مواجهة الرقيب

أحمد القاسمي
تحتاج السينما لعاملين كي تزدهر، فلكونها صناعة هامة تعتمد على الأجهزة الغالية والديكورات الضخمة وتوظف العديد من التقنيين والممثلين فتحتاج للتمويلات، ولأنها مضاعفة أيقونية للواقع يحتاج مبدعوها إلى هامش واسع من الحرية.
ولكن شأن السينما الإيرانية أمر عجب، فهي تزدهر في غياب هذين العاملين، فلا هي تلقى الدعم الذي تجده سينماءات أخرى قريبة منها جغرافيا، ولا هي تنعم بهامش الحرية الذي تتمتع به نظيراتها، لذا تبدو كزهرة برية تنمو بمعجزة بين الصخور.
ولأن أمر تميزها هذا عجب جعل الكثير من النقاد يطرحون سؤال سره، وما ورقتنا هذه إلا انخراط في طرح هذا السؤال من زاوية أفلام الطفولة، أكثر مما هي بحث عن إجابته العصية.
سينما تنهض من رمادها.. بداية لحياة ثانية
لم تكن السينما الإيرانية قبل الثورة في أحسن حالاتها، فقد كانت سينما تجارية استهلاكية بعيدة عن العمق من جهة المقاربات والمضامين، وتغلب عليها أفلام المغامرات والإثارة والأفلام البوليسية، وكانت قد أخذت في التراجع بعد سنوات من الازدهار من جهة وفرة الإنتاج، فبدأ المشاهد الإيراني يهجرها إلى السينما الأمريكية أو السينما الهندية.
بدأ عدد الأفلام يتقهقر إلى 78 فيلما عام 1977، وإلى 38 فيلما فقط سنة قيام الثورة 1979، كما أُحرقت قاعات العرض واعتبرت مصدرا لنشر الفساد والرذيلة، ولكن ما لبثت أن نهضت من رمادها بعد ذلك، فكتبت لنفسها حياة ثانية وأخذت تنهل من عمق البلاد الحضاري ومن جذورها الثقافية.
فرضت السينما مقاربات واقعية تتناول أشد قضايا المواطن الإيراني تعقيدا دون ميزانيات كبيرة أو ديكورات ضخمة، ودون الاستعانة بنجوم شباك التذاكر أو بممثلين محترفين، وكانت تميل إلى سيناريوهات بعيدة عن تعقيدات السرد، ولغة سينمائية بسيطة مدهشة موحية في الآن نفسه.
كما استلهمت روح السينما الإيطالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، فمزجت بكثير من العفوية والتميز بين التوثيق والتخييل، ولكن المسيرة لم تكن يسيرة، لأن مقص الرقيب كان يعلن نفسه حارسَ الثورة الأمين، وكان عرض الواقع بأمانة يزعجه، فيعمل على تحويل وجهته بعيدا عن الشاشة الفضية، لذا ففي إيران الثورة لك أن تصوّر ما شئت من الأفلام، ولكن دعك من السياسة، ولا تقترب من رجال الدين، أما قضايا المرأة فخط أحمر.
ماذا بقي أمام عدسة الكاميرا إذن؟
أفلام الطفولة.. ملاذ السينما الإيرانية الآمن
لم يتأخر السينمائيون كثيرا ليجعلوا من عالم الطفولة ملاذهم، فقد سقط أمره من قائمة المحظورات، ومن خلاله بدأت السينما تستدعي أشد قضايا الواقع تعقيدا، فتحقق النجاحات المعتبرة، كفيلم “كاكلي” أول أفلام المخرجة فريال بهزاد و”سارق الدمى” لمحمد رضا هنرمند و”الرحلة السحرية” لأبي الحسن داودي، وفيلم “مدرسة العجائز” لعلي سجادي حسيني، وغير ذلك كثير.
ولكن فيلمين تميزا بشكل خاص، الأول منهما فيلم “البالون الأبيض” الذي أﺧﺮجه جعفر بناهي (1995) وكتب له القصة والسيناريو والحوار أيضا برفقة عباس كيارستمي، وتدور أحداث الفيلم عشية الاحتفال بالعام الجديد، حين تُضيع الطفلة راضية ورقة نقدية أخذتها من أمها لتشتري السمكة الجميلة ذات الزعانف التي رأتها في محل بائع الأسماك، وتظل على مدار الفيلم تحاول استعادتها لتتجنب عقاب الأم، وقد حاز الفيلم على العديد من الجوائز، منها جائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان كان السينمائي، والجائزة الذهبية لمهرجان طوكيو الدولي، وجائزة لجنة التحكيم من مهرجان ساوباولو الدولي.
أما الفيلم الثاني فهو فيلم “أطفال السماء” الذي أخرجه مجيد مجيدي (1997)، وقد حاز هذا الفيلم على جوائز معتبرة أيضا، ويعدّ هذان المخرجان من أهم السينمائيين الإيرانيين وأكثرهم تميزا في الساحة الدولية، ولأهميتهما ننطلق منهما لنبحث في خصائص السينما الإيرانية الفنية والمضمونية كالحبكة البسيطة ذات الصلة بالعمق الإنساني، ونخوض في بعض أسباب تألقها على المستوى العالمي رغم الحصار وافتقاد الحريات والتمويل الضروري، فنقلب النظر في صورة الطفل ومميزات عوالمه، ولم نجمع بينهما إلا لتشابه كبير في جماليتهما نورده في أوانه.

خمسمئة دومان في البالوعة.. بساطة الحبكة والحكاية
يتشابه فيلما “البالون الأبيض” و”أطفال السماء” في أكثر من مستوى، أهمها صياغة الحبكات البسيطة وخلق التشويق، ففي “البالون الأبيض” تواجه الشخصية جملة من العقبات، فتنشأ عُقد جزئية سريعا ما يقع حلها، ولكن كلما تجاوزت عقبة اعترضتها أخرى.
يبدأ الفيلم برغبة الطفلة راضية في شراء السمكة البيضاء ذات الزعانف الكبيرة هدية لرأس السنة، وتمانع الأم لعدم امتلاكها قدرا كافيا من المال ولكن هيهات، فالبنت لا تقنع بالأسماك الهزيلة التي تربي في الحوض في فناء المنزل. تستسلم الأم وتناولها المال، وفي الطريق تقع منها ورقة الخمسمئة دومان وتعلق بالبالوعة، وكلما حاولت استعادتها لشراء السمكة ازدادت بُعدا عن متناول اليد، ويلحق بها شقيقها علي فيحاول أن يجد آلة يصطنعها لسحب الورقة.
بعد محاولات تنتهي جميعها بالفشل يمد له الأفغاني بائع البالونات يد العون، فيشتري علكة ليلوكها الأطفال، ثم يلصقها في العصا لتعلق بها، هكذا تحصل راضية على مبتغاها وتعود مسرعة إلى المنزل، وينصرف الجميع للاحتفال وتخلو الشوارع، فلا يبقى غير الأفغاني وحيدا مذهولا رافعا البالون الأبيض بعد أن تفرق الجميع من حوله.

“أطفال السماء”.. حين ضاع حذاء الزهراء
لا تقل الحبكة بساطة في فيلم “أطفال السماء”، ومنشؤها المبدأ نفسه، حيث يضيع شقيقان شيئا نفيسا فيواجهان معضلة كبرى، فيتضامنان ويعملان على تجاوز محنتهما بعيدا عن عيون الأهل، فقد أضاع علي حذاء زهراء، وليس لها حذاء بديل لتلبسه عند الذهاب إلى المدرسة، ويضبطان خطة لمواجهة الأمر الطارئ، فلا حل لهما إلا لباس حذاء الطفل بالتداول، فتعود زهراء التي تدرس صباحا راكضة ويعترضها شقيقها في منتصف الطريق، فيأخذه منها ويتجه بدوره إلى المدرسة راكضا مسابقا الزمن.
ومن هنا يكون مأتى مجمل العقبات الفرعية التي تحلّ سريعا، فتنزل أمطار غزيرة ليلا وتوشك أن تبلل الحذاء، وتنتبه الزهراء فتوقظ علي ليدخله من الفناء الخارجي، ويكون واسعا أكبر من قدميْها فيقع في قناة المياه المستعملة ويعلق في البالوعة ويساعده أحدهم على استعادته، ويتكرر وصول علي إلى المدرسة متأخرا فيغضب المدير ويقرر طرده، ولكن المعلم يشفع له ويشارك في سباق مدرسي جائزة الحائز على مرتبته الثالثة حذاء رياضي، فيخسر الرهان ويحصل على المرتبة الأولى ويتلف الحذاء الذي يتقاسمه مع شقيقته.
سينما التشويق وعطف القلوب.. تلقائية السهل الممتنع
من معهود الحبكات الدرامية في عامة الأفلام الإيرانية البساطة البعيدة عن كل تكلف شكلي، وفيلما “البالون الأبيض” و”أطفال السماء” نموذج جيد لها، ومن تلقائية معالجاتها الفنية أنها تصل بيسر إلى العمق الإنساني الكامن فيها فتحاوره وتُسائله، وتعطينا الانطباع بأن السينما فن سهل، وهي كذلك عند السينمائيين الأفذاذ، ولكنها فنّ ممتنع جدا على من تعوزه الموهبة الفطرية.
من وجوه البساطة في الفيلمين بناء الشخصيات وتشكيل الفضاء والزمن وخلق الأحداث المستمدة من الواقع اليومي المبتذل، لقد جاءت العقد الجزئية في الفيلمين مُتقنة تتلاحق بوتيرة مدروسة، فكان الأطفال أشبه بعدائي الحواجز، وكان المخرج من وراء ذلك يلاعب المتفرّج، فيجعله يتشنج كلما اشتدت حدة العُقد الفرعية ويتوتر، ثم ينبسط لحلها ثم يتشنج من جديد وهكذا.

براءة الأطفال.. عالم يفرض التعاطف
كانت الحبكة المتقنة تمنح المشاهد قدرا من الإثارة يفتقدها في الحياة الروتينية الرتيبة، وكان اعتماد الأطفال يمنح هذه الإثارة قيمتها المضاعفة، على المستوى النفسي خاصة، فعند المتفرّج لا يتعلّق الأمر بشخصيات تواجه عقبات كما في سائر القصص، بقدر ما يتعلق بفظاظة تئد أحلاما غضة وتكسر قلوبا صغيرة لا قبل لها بتقبل الصدمات، وتعصف بالعبث البريء.
تدفع الحبكة عبر خلق التشويق بتفاعلنا مع الأطفال إلى الارتباك والخوف، ولا يتعلق الأمر عندنا بمبلغ زهيد أو بسمكة زينة أو بحذاء قديم يضيع في محل بقالة، بل ينشأ ارتباكنا من خوفنا من أن تموت فرحة طفلة ليلة العيد، ومن كسر خاطر أخرى توشك أن تذهب إلى المدرسة حافية القدمين.
ومنشؤه الأكبر خوفنا من موت الحلم في أنفسنا نحن، فعالم الطفل يوقظ فينا نزعتنا الفطرية للخير، ويجعلنا أمام الإنسان خارج السياق الحضاري، وخارج الانتماء العرقي والديني والثقافي، وتعاطفنا معه هو في النهاية تعاطف مع الصورة المثالية للإنسانية التي تمثل عالما من الطهارة والبراءة والتلقائية.

“البالون الأبيض” و”أطفال السماء”.. هموم متفرقة ومعالجة واحدة
لقد وجدنا بين الفيلمين من نقاط التقاطع في رسم الحبكة ما يتجاوز التأثر والتأثير إلى جعل “أطفال السماء” إعادة صياغة “للبالون الأبيض”، فكلاهما يجعل شخصياته الرئيسية من عالم الأطفال، وكلاهما يحاول أن يعالج قضاياهم من منظور الأطفال أيضا، وكلاهما يجعلنا نكتشف نحن الكهول صورة للإنسان الذي افتقدناه فينا قبل أن تشوهه الحضارة وتحرّفه، ذلك الشفاف الخيّر بالفطرة النازع دوما إلى الإيثار والعطاء.
تقع أحداث الفيلمين في الحارة الشعبية حيث السكن الجماعي، فتحيط المنازل العتيقة بالصحن الدائري حيث حوض تربية الأسماك، أما في الخارج فتمتد الأزقة الضيقة التي تفيض أنابيبها بالمياه المستعملة وتنتشر البالوعات حيث يسقط عنصر ثمين بالنسبة إلى الطفلتين، فيشكل حدث الوقوع عقدة يتابعها المتفرّج بصبر نافد، ففيها تقع الورقة النقدية من راضية ويقع الحذاء من زهراء، ولا يحدد الزمن في الفيلمين، ولكن العلامات الكثيرة تؤكد أن الأحداث تجري في الزمن الراهن.
وإجمالا ففي الفيلمين يضيع الأطفال شيئا نفيسا بالنسبة إليهم هم على الأقل، ويظلون يعملون على استعادته، فيواجهون العقبات الكثيرة ويتحول الفيلم إلى ما يشبه سباق الحواجز التي يتجاوزونها بفضل التآزر بينهم، فلا يخلو كلاهما من هموم اجتماعية ظاهرة كانتشار الفاقة بين سكان أحياء طهران الشعبية وعجزهم عن مواجهة متطلبات الحياة وتوفير حاجيات الأطفال، فلا يفتأ منظور الطفل في الفيلمين ينتزعنا من حيادنا، ويفتح أعيننا على ما يسمى عالم الكبار من التشنج والغفلة عن محن أبنائنا ومعاناتهم بسبب الانشغال بحماقاتنا التي لا تنتهي، ويدفعنا إلى إدانته دفعا.
ولا يتطابق الفيلمان تطابقا تاما بالطبع، فيبدو صاحب “البالون الأبيض” أكثر تفاؤلا، فيجعل الشقيقين يحققان مراديهما، فيستعيدان الورقة النقدية وتحصل راضية على السمكة الجميلة لتحتفل بالسنة الجديدة. أما “طفلا السماء” فينتهيان إلى خيبة أمل صادمة، فيدخل علي وقد أُتلف الحذاء الوحيد في السباق الرابح/ الخاسر، وتطأطئ زهراء رأسها وتنصرف محبطة.

وجه الكبار المخادع.. حاجز الصد المنيع
قد يبدو اللجوء إلى عالم الطفولة هروبا من عالم الكبار وخضوعا لمقص الرقيب، وقد يبدو المخرج متواطئا ضد الحقيقة، ففي “البالون الأبيض” يبدو العالم جميلا، ويبدو الكل متضامنا مع الشقيقين في محنتهما مساعدا لهما، فترافق السيدة العجوز راضية وهي تبحث عن الخمسمئة دومان.
كما يبدو بائع السمك لطيفا يعدها بعدم بيع السمكة لغيرها، ويحاول الجندي أن يؤنسها وهي تنتظر حلا لمعضلتها، والخياط يطمئنها بأن لا خوف على مالها العالق في البالوعة، وأن صاحب المحلّ سيعود بعد أسبوع، وأنها ستستعيد مالها بكل تأكيد.
ولكن مجريات القص تكشف لنا أنّ ما نراه ليس سوى الوجه المخادع، أما القفا فشأنه مختلف، فالأب لا يحضر غير صوت آمر ناهٍ متذمر، فلا يفتقد أبناءه الذين تأخروا، ويظل على مدار الفيلم يغتسل استعدادا لاستقبال العام الجديد.
أما السيدة العجوز التي ترافق الفتاة في رحلة البحث عن مالها الضائع فسريعا ما تنصرف لحالها لالتزاماتها بالإعداد للاحتفال تاركة الصغيرة لشأنها، والجندي كان وحيدا ولم يكن يبادل راضية أطراف الحديث إلا لقتل ضجره، فلا يأخذ محنتها مأخذ الجد، ويُعلمها عابثا أنّ صاحب المحل الذي علقت الورقة النقدية ببالوعته مسافر عند شقيقته، أما الخياط فهو منشغل بعراكه المستمر مع زبائنه لا يستمع إلى استغاثتها به، وليتخلص من إزعاجها يقول إن صاحب المحل سافر بعيدا ولن يعود قبل أسبوع.
وعموما لا يجد الطفلان المساعدة إلا عند طفل مثلهما، وهو ذلك الأفغاني الشريد بائع البالونات، فرغم الصدام وسوء التفاهم في البداية يتفاعل مع الطفلين ويشتري علكة يلصقها بعصاه لتعلق بها الورقة النقدية. عندها يصل صاحب المحل، فنكتشف أنه لم يكن مسافرا، كما نكتشف أن حل عقدة الفيلم كان قريبا من الطفلين، على بعد أمتار ولكن الحاجز الذي يبنيه دونهم الكبارُ المنصرفون إلى همومهم كان منيعا جدا، وكان لمناعته يجعل التواصل معهم معدوما.

نبش في عوالم خفية.. ملامح الطفولة المغدورة
لمأساة الطفولة في فيلم “البالون الأبيض” وجه آخر، فالطفل الأفغاني الغريب الذي يبيع الهدايا ليسعد الأطفال والذي يبذل الجهد لمساعدة الطفلين يبقى وحيدا مذهولا ممسكا بالبالون الأبيض منسيا، بعد أن يغادر الجميع ليحتفل كرافع لراية الاستسلام في معركة لا تتكافأ فيها القوى، وهذا ما يسرّب هاجسا إنسانيا يميز طرح جعفر بناهي وعباس كيارستمي.
ويخّص “أطفال السماء” الكثير من واقع الطبقية الموروثة من عهد الشاه في إيران، فالأطفال هم الأكثر تضرّرا من غياب التوزيع العادل للثروة بين الإيرانيين، صحيح أنه ينتهي بإحراز الطفل علي على المركز الأول، ولكن ما قيمة الجائزة وهو يريد الجائزة الثالثة؟ فمكافأتها حذاء رياضي يريد إهداءه إلى زهراء ليعوض لها حذاءها المفقود.
يأخذ المسؤولون في الاحتفال بالنصر، فهذا أستاذ الرياضة يرفع الكأس وهذا المدير وذاك الوزير، وجميعهم يريدون أن يلتقط صورة مع الطفل الموهبة لتكون عنوانا لتفانيه في خدمة الطفولة، أما دموعه فلا أحد يأبه بها أو ينتبه إليها، وأما خاطره فلا أحد يجبر كسره إثر خيبة الفوز، ولا أحد يمتلك الوقت ليعيش مأساته، فماذا سيصنع بهذه الكأس الذهبية وشقيقته بلا حذاء، خاصة أنّ الحذاء الوحيد الذي يقتسمه معها قد أصابه التلف بعد السباق الشرس.

حياد الأرض والسماء.. غطس في مياه الظلم الراكد
لا تتدخل السماء لإنقاذ أطفالها، فهي تبقى محايدة في سمائها، والمهدي المنتظَر يظل ينتظِر، فلا يظهر ولا يسعف بالحل، لقد كانت كاميرا مجيد مجيدي تعلم ذلك، ومن ثم كانت تركز باستمرار على الأرض في لقطات غطس لتلتقط صور أحذية الأطفال التي كانت تبدو لزهراء كنزا بعيد المنال، أو لتلتقط صور الأنابيب الوسخة التي تحمل مياهها حذاء علي وحلمه.
فلا ترتفع إلى السماء في لقطات غطس مضاد إلا حين يرافق علي أباه إلى الأحياء الراقية، فتعكس ذهوله وهو يرى المباني المتطاولة الشاهدة على غياب العدل، ثم تعود في نهاية الفيلم لتلتقط صورة الحذاء المهترئ ورجليه الداميتين وسط الحوض وقد تجمعت الأسماك الحمراء حولهما لتصيب من جراحهما طعاما.
على هذا النحو يشكل الفيلم وجهة نظر عميقة، ويكشف الهاجس السياسي الذي يميز طرح مجيدي. ويخرجه من دائرة محاكاة فيلم جعفر بناهي إلى دائرة تصحيح ما بدا فيه من السذاجة والنوايا الحسنة، فالطفولة في إيران مغدورة، لا لانصراف الكبار إلى مشاغلهم كما في “البالون الأبيض” وإنما لانصراف الساسة إلى غيهم، ولغياب العدالة ولتوظيف الدين لتكريس الظلم والاستبداد.
وافتعال النهايات السعيدة كما في الفيلم الأول تشجيع لمواصلة التواطؤ ضدها، ومع ذلك فإن مجيد مجيدي يكره أن يمعن في القسوة على الطفلين بعد أن فضح المنظومة المتحكمة في المجتمع الإيراني، وبعد أن غفلت السماء عن محنتهما، فيسعفهما بهدية جزاء تفانيهما وصبرهما، ويجعل الأب يشتري زوجين جديدين لكل منهما.

منهج التقية العتيق.. مخادعة الرقيب
يمكن أن نقول إن فيلم “أطفال السماء” إذن إدانة لعالم الكبار وكشف لريائه وفضح لمدعي الطهر الروحاني، فخلف الشعارات الكبيرة والدموع التي تُذرف حزنا على موت الزهراء (بنت الرسول) تنطمس إنسانية الإنسان المنشغل عن زهراء اليوم بهمومه المادية الكثيفة، إنه إدانة للحياة الدينية والاجتماعية والسياسية وموقف ناقد لمنظومة الحكم بطريقة مبتكرة إيحائية لا تمارس أستاذية بائسة على المتفرج ولا تظهر علويتها عليه، ولا مباشرة فيها رغم واقعية الفيلم الشديدة.
وهذا ما جعله يحمل طبقات من الدلالة، فعلى السطح منها نجد عبث الطفولة ومغامراتها البسيطة التي ستكون طرفة يتذكرها الصبية بسخرية عند الكبر، ولكن كلما حفرنا وجدنا طبقة جديدة أكثر عمقا وارتباطا بعالم الكبار، تُغافل الرقيب دون مواجهته بطريقة صدامية مدمرة، وتقول للمتفرّج اليقظ ما لا يقوله الطرح السياسي المباشر الفج، فتسلك مسلك التقية، ذلك المنهج المتأصل في التراث الفارسي منذ الاحتكاك بالعرب إبان قيام الدولة العباسية، الممتد إلى ملاعبة إيران اليوم للغرب دون حصول تماس وانفجارات تدمر البلاد وتعصف بوحدتها كما نرى هنا أو هناك.
“الأفلام لا تصنع بالمال”.. عصامية العقول الذكية
يستفيد فيلم “أطفال السماء” من جمالية “البالون الأبيض” ويحاوره حوارا لطيفا في الآن نفسه، ولعل هذا ما جعل “ووبي غولدبرغ” (Whoopi Goldberg) تقدمه في حفل الأوسكار حين اختير لجائزة أفضل فيلم أجنبي 1999 بقولها: إن الأفلام لا تصنع بالمال فقط، ولكن بالعقول الذكية المبدعة.
فيحقق للأفلام الإيرانية تراكم التجارب والخبرات الذي تحتاجه السينما لتشكيل مدرسة قائمة الذات، ويسهم في نجاحها نجاحا كبيرا رغم الظروف القاهرة التي تحف بها، ويصل بها إلى أرقى الجوائز، ولعل تتويج فيلم “لا يوجد إثم” للمخرج محمد رسولوف قبل فترة بجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين خير دليل على ذلك، فالرجل صوّر فيلمه وهو قيد الإقامة الجبرية لاتهامه ببث الدعاية المناهضة للنظام في أفلامه.
وهو الأمر ذاته الذي قام به جعفر بناهي الممنوع من الإخراج السينمائي، لما صور نفسه وهو يقرأ سيناريو لفيلم بطريقة مبتدعة، مصرحا بأنه لم يخالف قرار المحكمة، وألاّ شيء يمنعه من قراءة سيناريو أمام الكاميرا، وجعل لأثره عنوان: “هذا ليس فيلما”.