“براكاج بالمغربية”.. كوميديا واقع يسخر منا ونسخر منه

المصطفى الصوفي

يفضل كثير من المخرجين المغاربة في أفلامهم الروائية الطويلة الجديدة الاعتماد على الكوميديا، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، أملا في اجتذاب أكبر عدد من المشاهدين، في ظل عزوف الجمهور عن ارتياد صالات العرض، وبحثهم الدائم عن أفلام خفيفة الظل، بدل أفلام صعبة الفهم لا يطيقون متابعتها لأزيد من ساعة ونصف.

من بين تلك الأفلام التي شهدت متابعة مهمة من قبل الجمهور، وإن اختلفت فنيا في تناولها ومعالجتها للموضوع، فيلم “كمبوديا” لمحمد طه بن سلمان، وفيلم” من أجل القضية” لحسن بنجلون، و”لحاجات” لمحمد أشور، و”30 مليون” لربيع سجيد، وفيلم “مسعود وسعيدة وسعدان” لإبراهيم شكيري، وغير ذلك من الأفلام التي ركزت على عنصر الإضحاك في السينما بحثا عن المال والتميز.

ويعتبر فيلم “براكاج بالمغربية” لمخرجه أحمد الطاهري الإدريسي واحدا من الأفلام التي راهنت على الكوميديا أو السخرية من الواقع، بحثا عن إيجاد معادل فني موضوعي، وجعل الفيلم في متناول الجميع يقدم نوعا مغايرا من الفرجة والمتعة البصرية التي يبحث عنها المتلقي في السينما.

 

أزمة سكن خانقة.. حلم امتلاك مأوى آمن

تُطرح هنا الكثير من الأسئلة من قبيل هل استطاع الفيلم، -ومدته ساعة وأربعون دقيقة- التأثير في المتلقي، بالرغم من الوجوه السينمائية المعروفة التي مثلت فيه كفاطمة الزهراء بناصر والفنان المقتدر نور الدين بكر وغيثة الحمامصي وفاطمة الزهراء لحرش وكريم السعيدي وبديعة الصنهاجي ونبيل عاطف وغسان بوحيدو وعبد الفتاح السايل والمهدي فولان ومحمد موريد؟

قبل الإجابة على هذا السؤال وطرح بعض الإشكاليات التي تهم هذا الجانب، لا بد من الإشارة إلى أن الفيلم هو فيلم اجتماعي يحكي قصة عائلة فقيرة تعيش في أحد الأحياء الشعبية والهامشية، وتتطلع إلى تحسين وضعها الاجتماعي والأسري من خلال شرائها لشقة، والابتعاد عن عالم الفاقة والإجرام، والاحتكاكات اليومية العنيفة التي تطبع الدروب الشعبية ببيوتها الوضيعة والمتسخة.

تتكون الأسرة الفقيرة من أختين وأخوين، أما الأخت الكبرى (الممثلة فاطمة بناصر) فهي متزوجة من شيخ (الممثل نور الدين بكر) ويعيشان في بيت صغير يشبه القفص، بينما تعمل الأخت الصغرى في صالون للحلاقة، وأما الأخوان فأحدهما حارس للسيارات، والآخر يبيع بعض الأغراض أمام المساجد.

تختلف حياة الأخت الكبرى عن باقي أفراد العائلة، لكن يجمعهم هم واحد وهو البحث عن بديل يخرجهم من الوضع الاجتماعي المتردي والحقير الذي يعيشونه، فيكون إيجاد سكن اقتصادي ملائم هو الحل.

إن طرح المخرج لأزمة السكن في الفيلم تكون من حسنات الموضوع، للنقر على قضية اجتماعية تؤرق بال الكثير من الأسر الفقيرة والمعوزة، خاصة في مدن كبرى كالدار البيضاء، لكن طريقة تناول الموضوع وطرحها ضمن الرؤية العامة للفيلم لم تكن في مستوى تطلعات الجمهور.

زوج بطلة الفيلم تلقى ضربة طائشة فسقط مغمى عليه، ومهاجر يُشهر مسدسا في وجه رئيس الوكالة بهدف سرقتها

 

فضاء وكالة بنكية.. اختلاط الحابل بالنابل

تتوالى أحداث الفيلم الذي كشف الغطاء عن عالم مظلم ومتشابك في دُور الصفيح التي يطبعها العنف والصراع والمكائد، والعلاقات المتشنجة بين الجيران، لتستقر بشكل قوي في وكالة بنكية هي الفضاء الذي شكل محور الفيلم بشكل قوي.

تدخل بطلة الفيلم إلى الوكالة رفقة زوجها للاستفسار عن ملف القرض البنكي الخاص بشراء الشقة السكنية، لكن رئيس الوكالة يعاكس أحلام الأسرة الصغيرة بقرارات تغضب الزوجة والزوج، ويتطور الأمر إلى ما هو أسوأ.

يتلقى الزوج ضربة طائشة فيسقط مغمى عليه، ليشهر مهاجر مسدسا في وجه رئيس الوكالة وكل الزبناء بهدف سرقة الوكالة، تتشابك الأمور مع ظهور السلاح الناري، ثم يدخل شرطي لاستقصاء الأمر أملا في الترقية من رئيسته في العمل، لكن يضيع منه المسدس ويختلط الحابل بالنابل وتبدأ الفرجة والكوميديا.

تستنجد الأخت الكبرى التي تورطت في حمل السلاح بأخويها وأختها لدعمها، فيحضرون ويشاركون في اللعبة الخطيرة لإنقاد أختهم من المشكلة، بينما تضع رئيسة مفوضة الشرطة (الممثلة بديعة الصنهاجي) حين علمها بما يقع في الوكالة خطة لاحتواء الموقف واعتقال المتورطين.

يزداد تهديد المهاجر داخل الوكالة لكل من رئيس الوكالة والمحتجزين، لكن يقظة إخوان الأخت الكبرى الملتحقين ينقلب على المهاجر الخطير، ليطاح به ويعتقل وتدخل الشرطة لتنهي الاحتجاز.

يمكن تصنيف فيلم “براكاج” بالمناسبة في خانة الأفلام التي ركبت موجة الفكاهة أو الكوميديا في السينما، بحثا عن مكان يناسب رؤية المخرج في هذا المنحنى، وكسب مزيد من التعاطف من قبل الجمهور، ومن خلاله تحقيق الأرباح المادية.

لقطة من فيلم “براكاج” لجميع الممثلين في فضاء مقر منح القروض

 

محاولة خلق المفاجأة.. قتل روح العفوية

يضع الكثير من المتتبعين والنقاد فيلم “براكاج” ضمن الأفلام الكوميدية العادية التي تنبني على عنصر الإبهار في الأداء ومحاولة خلق المفاجأة كما حصل في مقر منح القروض، لكن ذلك غير كافٍ لإقناع الجمهور في بعض الأحيان، إذ يتوق إلى فرجة تلقائية وعفوية تأتي لوحدها دون الحاجة إلى التصنع لخلقها.

محاولة إقناع المخرج للمتلقي بسحر السينما وبراعة الممثلين في تجسيد الأدوار لم تكن متقونة كفاية، وهو ما أسقط معظم مشاهد الفيلم في حوار مجاني، وحركات زائدة لم تعط للعمل السينمائي تلك الطراوة الفنية والإبداعية التي تجعل من السينما ذلك العمل الرائع الذي يخلق أثرا فعالا في الروح والوجدان والمشاعر.

اختار المخرج المغربي تصوير أغلب مشاهد فيلمه الجديد “براكاج بالمغربية” في فضاءات مغلقة، ويُعرض الفيلم حاليا في صالات العرض المغربية كما عُرض أيضا خارج المسابقة الرسمية للدورة الـ21 للمهرجان الوطني للفيلم، الذي اختتم في الآونة الأخيرة.

بطلة الفيلم التي صوبت المسدس بشكل عنيف على رئيس الوكالة

 

صراع الجارتين على فرض القوة.. بؤر الانحراف والعنف

حظي فضاء الوكالة البنكية بتصوير معظم المشاهد، فضلا عن فضاءات أخرى كمركز الشرطة وصالة الحلاقة وبيت العائلة، بينما كانت الفضاءات الخارجية قليلة، ومنها ساحة حراسة السيارات ودرب الحي الشعبي الذي وقعت فيه مشاجرة الأخت الكبرى مع إحدى جاراتها لبسط هيمنتها وقوتها في الحي الشعبي.

أبرزت المبارزة الشرسة بين الأخت الكبرى وإحدى جاراتها صورة عن واقع الحال الذي تتميز به الكثير من الأحياء الشعبية، خاصة في المدن الكبرى كالدار البيضاء التي صور بها الفيلم، حيث تناسلت فيها الكثير من الممارسات غير الأخلاقية والانحرافات والصدامات وغير ذلك.

كان مخرج الفيلم ذكيا في جعل ملصق “براكاج” واجهة لاستقطاب الجمهور لمشاهدة العرض، حيث وضع بطلة الفيلم وهي تصوب المسدس في شكل عنيف، مصدرا لطرح الكثير من الأسئلة المشوقة عن ما يجري في الكواليس من عنف ودم وانتقام نسائي ومحاولة للقتل والتصفية.

المخرج المغربي أحمد الطاهري الإدريسي صانع فيلم “براكاج بالمغربية”

 

معطيات التصوير والمونتاج.. انسيابية فرجوية

على مستوى المونتاج يمكن القول إن ترتيب المشاهد وفق إيقاع سريع -خاصة المشاهد التي صُورت بالوكالة البنكية- أعطى نوعا من التناغم والانسجام الفرجوي في الرؤية العامة للفيلم، وهو ما وفى بتحقيق نوع من الاستمتاع بالقصة التي لم تكن للأسف متقنة بشكل كبير.

بينما أوحت حركات الكاميرا التي كانت في غالبيتها متحركة بدلالات قوية للمتلقي، بوجود كثير من الانفعالات وغياب الاستقرار والسكينة النفسية لدى أغلب الممثلين وما حولهم، وتجلى ذلك في حركاتهم بشكل عنيف وهم يحملون المسدس خائفين ومذعورين، بينما الآخرون يفكرون بهلع في ما قد يحصل لهم من أذى.

برز المعطى القوي في التصوير سواء عبر لقطات بعيدة أو قصيرة أيضا من خلال ملامح الشخوص وردود أفعالهم بين بعضهم، وكذا في الحوارات المتشنجة بينهم، سواء في الوكالة في مركز الشرطة أو في الحي الشعبي أو فضاء ركن السيارات والشارع العام.

 

“براكاج”.. إبداع فني تنقصه لمسات أعمق

إن كان الفيلم في الظاهر يحاول طرح موضوع اجتماعي، ومن خلاله قضايا أخرى تهم أزمة السكن وواقع الأسر الفقيرة والمحتاجة، وكيفية معالجة ملفات بعض المهاجرين والبيروقراطية وبطء المسطرة الإدارية؛ فإنه عمل إبداعي يحمل دلالات وعلامات فنية متنوعة يجب تفككيها، وكلما تعددت طريقة تحليلها ومناقشتها ظهرت الكثير من الأسئلة الأخرى، على اعتبار أنه لا توجد إجابات نهائية في السينما عموما.

يمكن اعتبار فيلم “براكاج” عموما عملا إبداعيا يحبل بالكثير من الصور الناعمة والمشوقة، من خلال أداء لافت للعديد من الممثلين سواء من الوجوه المعروفة أو الواعدة، ولا شك أنه منح للمتلقي لحظات فرجوية فيها اجتهاد على مستوى الصوت والصورة والبناء العام للفيلم ومختلف التوليفات الفيلمية الأخرى، لكنه في حاجة إلى مزيد من التركيز خاصة على مستوى السيناريو وطاقم التمثيل خلال أعمال مقبلة، حتى لا تتشتت الفرجة وتضيع معها تطلعات الجمهور لمتابعة عمل سينمائي مشوق يترك أثرا في الذاكرة والوجدان.


إعلان