“الطريق إلى الجنة”.. مفاهيم جديدة في سينما الإرهاب

د. الحبيب ناصري
يمكن القول إن أفلاما روائية ووثائقية عديدة قد أُنتجت في بلداننا المغاربية، وكانت ذات صلة بموضوع الإرهاب والعنف واعتناق الأفكار التكفيرية المتطرفة والبعيدة كل البعد عن إسلام عاشق للوسطية والاعتدال ونشر قيم الحب والجمال، أفلام أخرجت لتبين بلغة الصورة كيف أن هذا الفضاء المغاربي كجزء من هذا العالم العربي والأفريقي والإنساني بشكل عام؛ عانى ولا يزال يعاني من أشكال تطرفية متعددة غريبة برمتها عن طبيعة تفكير وسلوك وشخصية هذا الإنسان المغاربي.
يكفي النبش في ذاكرة أسرته سواء تلك التي سافرت مبكرا إلى المهجر خلال فترة الستينيات أو تلك التي تعيش في هذه البلدان المغاربية في المدينة أو القرية، خلال حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، لنعرف كيف كان الجميع يعيش خارج كل هذه الأشكال التكفيرية والتعبدية المتزمتة وغير المدركة لحقيقة الرحمة الإلهية وعمق السيرة النبوية الشريفة التي بنيت على التسامح والتعايش والتساكن بين الجميع.
فماذا حصل حتى أصبحت بعض هذه الأسر المغاربية المهاجرة على وجه الخصوص، مصدرا للعديد من أشكال الإرهاب، وهو ما ساهم في إنعاش الفكر العنصري لدى الغرب، على الرغم من رفضه لدى العديد من الأصوات السياسية والحقوقية والإنسانية الغربية؟
تصحيح تمثلات خاطئة.. عصر الصورة
يمكن الرهان على فنون عديدة في هذا الزمن الإعلامي الغربي المسوّق في مجمله لصورة نمطية سلبية عن الأسرة العربية بشكل عام والمغاربية بشكل خاص، وفي مقدمة تلك الفنون السينما كلغة منحوتة من الصورة في زمن يسمى بعصر الصورة بامتياز.
لم يعد من الممكن ترك الآخر يصنع عنا صورة يرغب فيها هو، بل لا بد لمن ينتسب إلينا أن يبادر ويكتب ويخرج وينتج ويوزع عينات فيلمية روائية ووثائقية تتناول موضوع الإرهاب، والانخراط في تصحيح التمثلات الخاطئة عن إسلام لا يدعو إلى مصادرة الحق في الحياة لمن يختلفون عنا في المعتقد والثقافة.
من السهل جدا أن نعثر على آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة، تدعو إلى التعايش والتعارف والتعاون على الرغم من اختلاف الهويات الدينية واللغوية والثقافية، مثل الآية الكريمة على سبيل التمثيل لا الحصر: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” سورة الحجرات/الآية 13.
من المؤكد أن موضوع السينما والإرهاب، موضوع قيل فيه الشيء الكثير من زاوية فيلمية روائية ووثائقية، لكن ما العناصر الجديدة التي من الممكن العثور عليها في فيلم “الطريق إلى الجنة” لمخرجه وحيد السنوجي؟

براثن الإرهاب.. تحديات المغاربة في بلاد المهجر
ينبش فيلم “الطريق إلى الجنة” في علاقات اجتماعية لأسرة مغربية ببلاد المهجر وتحديدا هولندا، كعينة تمثيلية للأسرة المغاربية بشكل عام نظرا للتشابه الموجود بين هذه الأسر المغاربية، حيث إن سؤال التنشئة الاجتماعية هو السبب الذي قاد نجيب الذي كان حلمه الوحيد أن يصبح محاميا، وقد تأتى له ذلك.
لكن في نفس اليوم الذي سيتخرج فيه ويتسلم دبلوم التخرج، ليخرج منتشيا صحبة صديقته الهولندية، وبمجرد وصوله لبيته سيجد الأمن يبحث عن أخيه لاعتقاله بحكم مشاركته في أنشطة إجرامية، وستقود هذه الأجواء العائلية نجيب إلى أن تتلقفه أيادي الإرهاب، حيث ستظهر شخصية إبراهيم لتقنعه بضرورة اختيار “الطريق إلى الجنة”، كيف؟
لنتبع هذه الخطوات قصد معرفة بعض مضامين الفيلم وكيفية قول المخرج لهذه المضامين.

وحيد السنوجي.. سفير التسامح في الديار الهولندية
وحيد السنوجي ممثل ومخرج ومنتج، تخرج من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط بالمملكة المغربية، وقد شارك في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزية والمسرحية المغربية والهولندية، ومن أعماله السينمائية القصيرة التي أخرجها فيلم “القافلة رقم 112” حول التمييز العنصري بهولندا، وفيلم “القرار” الذي شارك به في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية.
استقر وحيد السنوجي بهولندا منذ أكثر من 15 سنة، وهو ما ساعده على كتابة وإخراج بعض الأعمال الفنية باللغة الهولندية المتمحورة حول موضوع التسامح بين الشعوب، مما ساهم في اختياره سفيرا للتسامح في الديار الهولندية، ومما أغنى رؤيته الفنية وجعلها تميل إلى ما هو إنساني بامتياز أنه جمع بين التمثيل والإخراج المسرحي والسينمائي والتلفزي داخل المغرب وهولندا.
يمكن القول من ناحية التركيب إن لفظة الطريق لفظة معرفة، وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه، وإلى الجنة جار ومجرور، وتخلق لنا هذه العنونة أفقا من الأسئلة نلخصها في السؤال المركزي، هل هناك فعلا معايير معينة لنتمسك بها معا من أجل السير في هذا الطريق المؤدي إلى الجنة، ثم إن وجود لفظة الطريق تولد لدينا نقطة بداية ونقطة نهاية، بمعنى إن أردت الدخول إلى الجنة فما عليك إلا السير في هذا الطريق، فهل هذا ما نجده في الفيلم؟

نقل الجثمان إلى الوطن.. صمت ينخر في جسد العائلة
سنعيش على مدار كافة مشاهد الفيلم قصة اجتماعية وتربوية ودينية ونفسية لشخصية نجيب، كشخصية تستمد قوتها مما تملكه من قدرات ذهنية نوعية (لنلاحظ اسمه الدال على الذكاء)، وهو اسم نُحت واختير له لكونه تميز في مسار دراسته، وأراد فعلا أن ينزع العديد من أحلامه، وهو المغربي الذي يدرس في مؤسسات الآخر، والمحب لصديقته الهولندية.
تبخر كل شيء ببساطة لكونه عاش في أسرة سقطت في الفردانية، فالأب المقعد الذي نخرت جسده آلة الشغل كان طيلة حياته شبه غائب عن أسرته، والأم بدورها غلبتها ظروف الهجرة ولم تحقق تلك المناعة الوجدانية لأبنائها، مما جعل الأسرة بمثابة تلك العينة الأسرية المغاربية والعربية عموما التي أرهقتها الهجرة ووزعت بين أسئلة الوطن وأسئلة بلد الهجرة، فلا هي مستقرة في وطنها ولا هي منتعشة ببلد الهجرة، حيث تنامي العنصرية.
تختزل كلمتا التمزق العائلي طبيعة الوضع الاجتماعي داخل هذه الأسرة المفككة وغير المستمتعة بزمنها العائلي، فيكفي أن الأب المعاق الجالس فوق عربة مدفوعة قد أوصى أحد أصدقائه كي يوصي أسرته بنقل جثمانه حينما يموت إلى وطنه، وتحيلنا عدم قدرته على المشي هنا إلى رسالة ضمنية مفادها فقدانه لتلك القيادة العائلية لأسرته، أما جسمه المنخور الذابل فيؤكد ضمنيا كيف أن بلد الهجرة امتص منه حيويته وعطاءاته، وأصبح جسما عليلا مريضا ينتظر زمن وفاته، وعلى أمل أن لا يدفن في بلد الهجرة.
ما يميز هذه الأسرة وحده الصمت المخيف، مما جعل الاكتئاب يتسرب إلى نجيب الذي ظل منعزلا في بيته لا سيما بعد ما تم اعتقال أخيه.
تمزيق صورة الفريق الوطني.. سقوط بين مخالب التطرف
مرر المخرج بلغة الصمت إشارات عديدة مبطنة، لا سيما حين مزق نجيب صورة الفريق الوطني المغربي لكرة القدم كانت معلقة في جدران بيته، في إشارة قوية ودالة على الرغبة في التخلص من بعده الوطني الذي كان يعتز به سابقا، وهو اليوم معتز بصلاته ورغبته في الجهاد، لا سيما وأنه سقط فريسة في أيدي الجهاديين من خلال اطلاعه الليلي على أشرطة الدعاة المغررين بالشباب لكي يقوموا بالعديد من العمليات الاستشهادية.
سيتضح هذا بصورة واضحة حينما يقنعه صديقه المغربي إبراهيم -ولنلاحظ البعد الديني لهذا الاسم- بالتخطيط لعملية استشهادية لقتل الكفار في إحدى الأسواق التجارية التي يتردد عليها الناس لقضاء حاجياتهم الاجتماعية.
ظروف نجيب العائلية الرهيبة التي يعيشها جعلته يسقط بسهولة في كماشة هذا التطرف والعنف، فصديقه إبراهيم قد أقنعه بأن طريقه إلى الجنة يمر عبر قتله للكفار، أي الاستشهاد، وسيتفقان فعلا على قتل هؤلاء الكفار ضمن خطة اتفق عليها، لكن أثناء إعطاء الأمر من لدن صديقه إبراهيم للبدء في القتل، خُيلت له أمه وهي موجودة في هذه السوق مما جعله فعلا يمتنع، وكانت النتيجة تبادل إطلاق النار بينهما دون قتل أي كافر.

تصفية الحسابات بين المتطرفين.. رسالة إلى الداخل والخارج
طرحت العديد من الأفلام المغاربية والعربية والأجنبية مثل هذه الموضوعات التي ولدت مما عرفته العديد من الدول الغربية والأمريكية من أحداث دموية ارتكبت باسم الإسلام، ومن توقيع مجموعة من المسلمين الذين غُرر بهم من لدن بعض الدعاة، وحُفزوا على هذا القتل لتحقيق الفوز في يوم الآخرة على اعتبار أن هذا الفعل هو جهاد واستشهاد في سبيل الله، لقتل هؤلاء الكفار أعداء الإسلام.
لكن الذي يمكن اعتباره فكرة جديدة ومفيدة وتستحق أن نقف حولها، هو كيفية تصفية الحسابات بين الجهاديين فيما بينهما، وكأننا أمام رد فعل من طرفنا جميعا ضد هذين الشخصين، وهو رد فعل أشفى غليلنا كمتفرجين ضد هذا الفعل غير الإنساني والهادف إلى قتل الناس دون مبرر، مما رسخ صورة الإسلام المتطرف لدى الغير، فوظفه سياسيا لوضع الإسلام ومسلميه في كفة واحدة كورقة انتخابية وُظفت لصالح اليمين السياسي العنصري الأوروبي والأمريكي والغربي عموما، في زمن إعلامي تصنع فيه الرؤى والتصورات وفق هذا المبتغى السياسي.
بقيت أصوات غربية حقوقية وإنسانية قليلة غير مؤمنة بالتصنيف السياسي الغربي للإسلام ومسلميه، وهي أصوات تُحرج دوما كلما نفذت عملية “استشهادية” ما في أي بلد من بلدان أوربا أو الغرب، مما جعلنا كمتفرجين نطمئن على تلك الصورة الختامية التي انتهى بها الفيلم، والتي لعب فيها مخيال نجيب دورا رئيسيا من خلال استحضار صورة أمه وهي تتبضع في هذه السوق التي قررا إراقة دماء من يتردد عليها، وبهذا الفعل سيدخلان الطريق المؤدي إلى الجنة.
حميمية العائلة.. قارب النجاة الأخير
تظهر صورة أخرى قوية ومشحونة بالعديد من الدلالات النفسية، ويتعلق الأمر بذلك المشهد الذي سيخرج فيه نجيب من بيته في اتجاه الخارج حيث إبراهيم في انتظاره، فقبل خروجه أوصى نجيب أخاه الصغير والأخير بأن يهتم بأحوال البيت، وكأنه وداع نهائي بينهما، بل وبين نجيب وأسرته جميعها.
هذه هي المضامين الرئيسية في هذا الفيلم الذي يمكن اعتباره إضافة أخرى تهدف إلى القول بأن سؤال الوضع العائلي وحميميته والتواصل الوجداني العميق بين كافة أفراد الأسرة، هو وحده الطريق المؤدي إلى انفلات الأبناء من قبضة التطرف والعنف، وتقديم فرصة للأصوات السياسية العدائية للإسلام لرسم خريطة عنف مضاد يدفع ثمنه العديد من المسلمين في أنحاء عديدة من هذا العالم الذي علينا أن نقربه بلغة الصورة إلى نبل وعمق الرسالة الروحية والإنسانية التي بُني عليها الإسلام.

مشاهد المطاردة البوليسية.. لغة سينمائية جماهيرية
نجد في كافة مشاهد الفيلم أن المخرج راهن على البعد الجماهيري لفيلمه هذا، أي قول مضامينه بلغة سينمائية قريبة من العديد من الفئات العمرية، لقطات ومشاهد المطاردة البوليسية من أجل اعتقال أخيه المشارك في جريمة ما، وجعل الناس يُطلون من بيوتهم ويلتفون حول المجرم أثناء اعتقاله، ومشاهد أخرى تتعلق بهذا البعد الجماهيري الفيلمي لا سيما أثناء وصول نجيب وإبراهيم إلى السوق وكيفية اختلافهما وخصامهما داخل السيارة وهما يحملان الأسلحة، كل هذا جعلنا ندرك أن المخرج يرغب في تقريب رسالته من المتلقي في أفق المساهمة في تربيته على حقيقة أخرى غير هذه التي يؤمن بها كل من نجيب وإبراهيم.
هذ بالإضافة إلى لغة الصمت المميزة لمشاهد الأب المُقعد وللأسرة وهي ملتفة حول العشاء، التفاف لا يكتمل عادة لكونه يكشف لنا عن ذلك التباعد الحاصل بين كافة أفراد هذه الأسرة. سيتمدد الصمت نفسه داخل غرفة نجيب حيث حياته المعزولة دائما، وتأمله في سقف البيت وهو في سريره، ثم الصلاة فالتواصل عبر الإنترنت مع ما ينشر من أفكار جهادية.

تمزق من كل باب.. صرخة في وجه التفكك العائلي
ضمن نفس السياق المتعلق برؤية المخرج لكيفية تمرير رسائله الفنية والإنسانية في المشاهد الدالة على تفوق نجيب الدراسي العلمي الجامعي، سنجد أنه يقدم لنا صورة ذات بعد اندماجي في البداية بينه وبين صديقته الهولندية التي حضرت مراسيم تخرجه دون أسرته، وقد فرحا معا وهما ينتشيان بهذه اللحظة حيث امتطيا معا دراجة هوائية.
سينكسر هذا الفرح في لحظات بمجرد وصولهما إلى المنزل ليصابا معا بالدهشة أمام مشهد بوليسي يطارد فيه أخوه المشارك في أنشطة إجرامية، وهو ما شكل لحظة انفصال تام بينهما، مع رميه لشهادته التي حصل عليها كإشارة دالة على كون طموحاته تبخرت بتلك العجلات التي مرت فوق هذا الدبلوم الذي سهر الليالي من أجل الحصول عليه.
تمزقت العلاقة التي كانت تجمع بينهما وتمزقت العلاقات العائلية، ليجد نجيب نفسه وحيدا كئيبا في غرفته، باحثا عن ما يخرجه من عزلة تمزقه هذا، ليجد نفسه -في غياب أو تغييب أي مناعة ثقافية روحية- لقمة سهلة الهضم من لدن من يدفع بشبابنا نحو “الجهاد” المزعوم الذي يحفز عليه دون أن يمارسه هو.
يعتبر “الطريق إلى الجنة” صرخة فيلمية مطولة في وجه التفكك العائلي والعيش الصعب في بلاد الهجرة، مما يجعل لغة التطرف هي الطريق المؤدي إلى النسيان والبحث عن الجنة وفق رؤى دينية غير مدركة للمعنى الحقيقي للإسلام الذي قدم أجوبة كثيرة منحوتة من ضرورة جعل البعد الإنساني والوجداني مدخلا حقيقيا لكل العلاقات الأسرية والمجتمعية.