“في منصورة فرقتنا”.. صفحة من صفحات التاريخ الاستعماري الأسود لفرنسا

يُحيل الفيلم الوثائقي “في منصورة فرقتنا” (2019) للمخرجة والصحفية الفرنسية ذات الأصول الجزائرية “دورثيه مريم قلّو” إلى لحظة تاريخية مهمة من محطات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي تفنّن خلال وجوده لمدة قرن و32 سنة في ابتكار صنوف كثيرة من العذاب وتجربتها على الأهالي.
ومن بين ما خلقه الاستعمار لوأد الثورة الجزائرية (1954-1962) وحصارها مشروع المحتشدات، تأثُرا بفكرة “الغيتوات” التي خلقها النظام النازي أول مرة سنة 1941 على الأراضي البولندية، وهي الفترة التاريخية التي كان فيها النظام الفرنسي بلدا محتلا من طرف ألمانيا، لكن بعد استقلالها وتحرُرها تجاوزت النظام النازي في فكرة المحتشد، وكانت أكثر منه إبداعا وقسوة، حيث حاصرت أكثر من ثلاثة ملايين جزائري قامت بتوزيعهم على 2300 محتشد موزعة على جميع ولايات الوطن، عاشوا فيها وسط ظروف مأساوية جدا من ناحية السكن والصحة والأكل والشرب، وهذا ما جعل مؤشر الوفيات متزايدا.
وقد سبق عمل “دورثيه مريم قيلو” فيلم وثائقي آخر بعنوان “على آثار المحتشدات” (2018) للمخرج الجزائري سعيد عولمي، تتبع من خلاله آثار هذه الجريمة النكراء التي ترتقي إلى جريمة حرب، لأن هذه المحتشدات هي بمثابة معسكرات اعتقال حسب تصنيف الخبراء والمؤرخين، والفرق بين فيلمي “دورثيه” وعولمي، هو أن الأول ذاتي حميمي ينظر لقضية المحتشد من زاوية شخصية، أما الثاني فنظرته شاملة واسعة تُعالج هذا الموضوع من العديد من الزوايا.
حب السينما الوراثي.. يصنع الأبناء أحلام الآباء
وُلدت المخرجة والصحفية المستقلة “دورثيه مريم قيلو” في فرنسا لأب جزائري وأم فرنسية، ولا تربطها بالجزائر سوى الذكريات المؤلمة التي شحنها والدها في ذاكرتها، هذا الوالد الذي كان السبب الرئيسي في حُبها للسينما، خاصة وأنه مخرج مُحبّ للسينما وصانع لها.
وتفسّر مريم هذه العلاقة من خلال الموضوع الرئيسي في الفيلم، أو تدعمها في المقابلات التي تجريها، حيث قالت في إحداها: عندما كنتُ طفلة أخذني والدي إلى السينما، وبعدها جلسنا في أحد المطاعم بالمنطقة، ليتحدّث معي وقتها عن مهنته كسينمائي، وعن الأفلام التي شاهدها وتركت فيه أثرا ما، وهذا ما ولّد فيه الخيال، وأصبح هو الآخر من صنّاع السينما، حيث يتخيل العديد من الأفلام في ذهنه قبل أن ينجزها أو يكتب السيناريوهات، كانت لديه دائما الكثير من الأفكار والمشاريع التي تنتظر التنفيذ، من بينها فيلم “رسالة إلى بناتي”، والعديد من الأعمال الأخرى التي لم تصور.

نبش في سر مؤلم.. حين تنقل المخرجة أوجاع أبيها
في فيلم “في منصورة فرقتنا” من إنتاج جزائري فرنسي دانماركي مشترك، تنقل المخرجة “دورثيه مريم قلو” أوجاع والدها الذي عاش طفولته في محتشد بمنطقة اسمها “المنصورة” (تتبع محافظة برج بوعريريج، وتبعد عن العاصمة 234 كلم)، بعد أن جمّعهم الجيش الفرنسي وقتها من العديد من المناطق الريفية والقرى، ثم رماهم في شاحناته العسكرية دون أن يُكلّف نفسه عناء إخبارهم عن وجهتهم، ليضعهم في منطقة المنصورة، ويحيط بهم سياجا حديديا يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة أمتار، إضافة إلى أنه مزود بأسلاك شائكة مكهربة.
وقد بني عن طريق مساجين جزائريين حسب ما ورد على لسان أحد شهود المرحلة في الفيلم، لمنع أي فرد من الدخول أو الخروج دون تصريح مسبق من الإدارة الفرنسية التي اقتلعتهم من جذورهم وصادرت رزقهم، بعد أن تركوا خلفهم ماشيتهم بدون أكل، وأراضيهم دون زرع، وحِرفهم دون ممارسة، ووجدانهم وارتباطهم بأرضهم وأرض أجدادهم، وجلبتهم إلى فضاء ضيق ومحدود يجمع العديد من العائلات في غرفة واحدة، دون أن توفر لهم أدنى شروط الحياة العادية حتى لا أقول الكريمة.
عاد مالك قلو والد المخرجة مريم إلى المنصورة، بعد أن فارقها لأكثر من نصف قرن، وهناك بدأ يسترجع الماضي الأليم الذي لم يشأ أن ينقله لأبنائه طوال سنوات خوفا عليهم من قساوته وحماية لهم من التاريخ، وقد وقف هناك على البيت الذي كان فيه، والتقى بأصدقاء الطفولة والجيران ومن عاشوا وعايشوا تلك المرحلة، وهناك بدأوا في استعادة الماضي وما فيه من ألم.

جبال المنصورة.. إنعاش ذاكرة الحاضر بخرائط الماضي
جاء فيلم “في منصورة فرقتنا” مشحونا بالعواطف والأحاسيس التي فرضها موضوع الفيلم، خاصة وأنها عملية استرجاعية لماض سحيق كان الأب مالك قلو والد المخرجة طرفا فيه، وكان أيضا الراوي في العمل، حيث يسترجع الأب هذه الذكريات بصوت أجشّ حزين، وفي الكثير من المرات يتوقف خيط الراوي هذا بعد أن تغلبه الدموع، إذ يلتحم بشكل كلي في الماضي الذي لطالما هرب منه، لأنه سبّب له الكثير من الألم.
هذه العواطف التي تختزن في كل ثنايا الفيلم وزواياه؛ لم تعوّل عليها المخرجة وتقدمها خالية من الوثيقة التاريخية، لهذا نجد بأنها تُنقّب في الخرائط القديمة عن موضع المحتشدات. وأكثر من هذا حتى تشحن بشكل أوسع ذاكرة السكان القدامى للمنصورة؛ قامت ببث فيديو تاريخي يعود للحقبة الاستعمارية لمنطقتهم، حيث يعكس محتشد المنصورة وصورهم عندما كانوا أطفالا يتبعون آباءهم وأجدادهم، وقد قامت بهذا العرض في الهواء الطلق حتى تُسهّل من عملية هذه العودة.
من هنا أنعشت ذاكرة أصدقاء الوالد وبدأوا يسردون قصصهم التي عاشوها في المحتشد، كما استطاعت أن تكسب ثقتهم وودهم، خاصة من إحدى المجاهدات التي كانت صديقة لجدّة المخرجة من الأب، حيث أخرجت لها أرشيفا مهما عبارة عن صور فوتوغرافية لأشخاص رحلوا، من بينهم صورة للعقيد الشهيد عميروش، وهو أحد القادة المهمين إبان الثورة الجزائرية، وقد استشهد سنة 1959 بمنطقة بوسعادة.
كما حكت لها عن دورها ودور المنصورة في الثورة، إذ كانت تؤوي داخل بيتها العديد من الثوار الذين يقومون باختراق الجدار الحديدي المكهرب ويبيتون عندها، حتى كادت أن تكتشف في إحدى المرات بعد أن جاء إلى بيتها مجموعة من العساكر الفرنسيين، وفي الوقت نفسه كان الثوّار مختبئين في بيتها، لكنها استطاعت أن تصرفهم بذكاء وتنقذ المجاهدين من الأسر أو القتل. كما نقلت أيضا شهادات بعض الثوار الذين رافقتهم إلى جبال المنصورة، وهناك استمعت إلى حكاياتهم في نفس المناطق التي كانوا يخوضون فيها الحروب.

جمالية الصورة.. ماضٍ يُخلق من جديد
أعطت عمليات ضبط الصورة وتنوعها في الفيلم جماليات كبيرة، حيث اقتنص لحظات مهمة ووظفها في العمل بذكاء، ودعما لهذا الطرح سأعود إلى أحد المشاهد المهمة، وذلك حين قام المصور بضبط إطار غاية في الجمال، رَبَط من خلاله الصورة بمضمون الفيلم، وهذا من خلال إظهار شخصين يجلسان في خلفية شاحنة مغطاة، حيث جعل ظهر الأب وشخص آخر في آخرها عبارة عن ظل أسود فقط دونها تظهر ملامحهما، في حين نرى ما دونها في الخلف، وفي الوقت نفسه تقوم السيارة بقطع الطرقات وتعرجاتها.
وقد ساعد أكثر في خلق هذه الجمالية؛ الطقس الذي كان ضبابيا، وكل هذا يُصاحبه صوت الأب الراوي الذي ينقل شهادته حين كان في شاحنة المستعمر ولا يدري إلى أن يأخذهم، وكأن المخرجة بالتعاون مع المُصوّر يقومان بتجسيد هذا الترحيل القسري، ويُعيدان خلق الماضي من جديد.
وقد أثارتني الصورة شخصيا، لهذا أردت استبيان اسم المصور، وعندما قرأت اسمه سرعان ما زال هذا العجب، لأنه ببساطة كان المخرج المتألق حسان فرحاني الذي سبق وأن أخرج فيلما وثائقيا غاية في الجمال، وهو “في راسي رنبوان”، والثاني الذي جاء بعد تصوير فيلم دورثيه وهو “143 طريق الصحراء”.

رحلة افتراضية نصف قرن إلى الوراء
فيلم “في منصورة فرقتنا” يخاطب القلب والعقل، ويُعيد فتح صفحة من صفحات التاريخ الاستعماري الأسود لفرنسا، وفي الوقت نفسه تقدم من خلاله المخرجة “دورثيه مريم قلو” خدمة لوالدها وتحقق حلمه، بعد أن قادته في رحلة افتراضية إلى الماضي، وعادت به نصف قرن إلى الوراء.
كما أظهر هذا الفيلم مدى ارتباط المخرجة بأرض أجدادها، سواء من خلال هذا الفيلم، أو سعيها الحثيث إلى تعلم اللغة العربية والتنقيب عن ماضيها، حيث كانت مُزودة بدافع مهم وهو معرفتها بواقع الشعوب العربية التي عانت من ويلات الاستعمار.
وقد وقفت على هذا عن قرب من خلال مكوثها عامين في فلسطين في إطار ممارسة عملها كصحفية، أو دراستها للتاريخ في الولايات المتحدة الأمريكية، وعبّرت المخرجة عن مسارها وعن تجربتها السينمائية الأولى بصدق من خلال هذه الفقرة التي قالت فيها: فكرت بالسينما للوصول إلى هذه الذاكرة، لأنها اللغة التي عرف والدي كيف ينقلها إلي. لم تكن لدي أي خبرة في كتابة السيناريو أو الإخراج، وكان هذا الفيلم ضرورة بالنسبة لي، حيث فضلت عدم تسجيله كجزء من الاحتفال الرسمي بالذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر، أردت أن ينتج بشكل مشترك بين فرنسا والجزائر، ويمول من قبل العديد من الصناديق في جميع أنحاء العالم لأكون حُرّة في صنعه، وللهروب من التاريخ الرسمي أصبح هذا المشروع الفيلم هاجسا بالنسبة لي، أرى وقائعه في أحلامي، كدت أن أفشل العديد من المرات، لكنني رفضت الاستسلام، شعرت بمسؤولية لإنتاج هذا الفيلم وإخراجه. لتسليط الضوء على هذه الذاكرة التي جمعتها في القرية أطلقت حملة تمويل جماعي، وتلقت الدعم من كل مكان حتى من قرية المنصورة نفسها.