“مدرسة الإغواء”.. ترويج بضاعة المرأة الكاسدة في روسيا البوتينية

قيس قاسم
خلال سبع سنوات رافقت المخرجة الروسية “ألينا رودنيسكابا” ثلاث نساء من مدينة سانت بطرسبرغ دخلن مدرسة خاصة تُقدّم دروسا في تعليم طرق الحصول على أزواج أثرياء، وقد أرادت بمرافقتها الطويلة لهن نقل تجاربهن على الشاشة، وإحاطتها بالظرف الخاص الذي عاشته كل واحدة منهن، ودَفعها للذهاب إلى “مدرسة الإغواء”، كما أسمتها المخرجة، وعنونت وثائقيها به.
وقد قادتها المرافقة الطويلة لهن إلى الربط بين أحوالهن الشخصية وواقع المرأة الروسية اليوم في ظلّ سلطة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، التي تدّعي تحقيقها مبدأ “تساوي الفرص” في المجتمع، وحصول المرأة الروسية على كل حقوقها، وضمان عيشها بكرامة واستقلالية، بينما يشي وجود المدارس الخاصة بحاجة التخلص من أعباء عيش بوسائل مُلتوية وأكاذيب وإغواء جسدي تتعلمه المرأة داخلها، أملا في التخلص من مشاكلها الاقتصادية حتى وإن جاءت على حساب كرامتها، وصون جسدها.
روسيا البوتينية.. مضامين تنسف الدعايات
لا يذهب الوثائقي لمناقشة أوضاع المرأة الروسية من زاوية سياسية مباشرة، بل يترك قصصهن تُسرب بنفسها المضامين والدلالات التي تنسف الدعاية التي صدقها الكثيرون من أبناء الشعب الروسي، بينما تقول حكايات الشابات الثلاث “ليدا” و”فيكا” و”دينا” كلاما مختلفا، وتكشف عن تمزقات وبؤس عيش المجتمع الروسي في عهد “بوتين”.
في بعض الترجمات غير الإنجليزية لعنوان الفيلم أُضيفت إلى الاسم عبارة “ثلاث قصص من روسيا”، وتتأتى الإضافة من أسلوبية سرده الذي هو أقرب إلى الروائي، مما يُولد إحساسا لدى متلقيه بأنه يتابع فيلما روائيا مكونا من ثلاث قصص منفصلة يجمعها خط درامي واحد.
“روسيا البوتينية اليوم” هو ذلك الخط الدرامي الرابط بين القصص الثلاث، وعبر التدقيق فيه يمكن للمُشاهِد تكوين فكرة جيدة عن واقع البلد، وبشكل خاص واقع المرأة فيه.

بين الخارج والداخل.. بؤس واحد
تسبق كاميرا الوثائقي كل قصة بجولة تقوم بها في أحياء المدينة، تعرض من خلالها حالها وأحوال سكانها، وباقتراب عدساتها من واجهات عماراتها السكنية المُهترئة وأزقتها الوسخة؛ يمكن التقاط بعض المشاهد الدالة على العلاقة السائدة بين الرجل والمرأة وشدة العنف السائد فيها.
هذا التمهيد سبق دخول الكاميرا إلى عالم الشابة “ليدا” المقيمة مع والدتها في الشقة الضيقة، لا يتوقف الجدل والصراخ بين المرأتين. فـ”ليدا” على علاقة مع رجل متزوج يكبرها في السن ويعمل في وزارة الدفاع، تنصحها الأم بالزواج من غيره وتكوين عائلة، بينما تدافع الشابة عن موقفها بذريعة استحالة تحقيق ذلك بوجود نقص في عدد الرجال، وحسب كلامها فإن مقابل كل رجل في روسيا توجد امرأتان، مع أن النسبة التي تذكرها ليست متطابقة تماما مع الإحصائيات الرسمية للسكان، لكنها قريبة منها. فعدد الرجال منذ الحرب العالمية الثانية التي قتل الكثير منهم فيها أصبح أقل من عدد الإناث، مما أخل بتوازن التركيبة السكانية.
معلومات تتسرب عبر التلفاز.. نبرة ذكية ساخرة
مثل تلك المعلومات والمعطيات الواردة في أغلب مشاهد الوثائقي وغيرها، كانت تُسربها صانعة الفيلم من خلال التلفاز، فقد حرصت طيلة زمن الفيلم على إرفاق المَشاهد التي تظهر فيها الشابات جالسات في بيوتهن مع أصوات تنبعث من التلفاز لمشاركين في ندوات تلفزيونية أو برامج حوارية تدور في الغالب حول أوضاع عيش المرأة الروسية.
بهذا الأسلوب الذكي غير المباشر تضفي على وثائقها نبرة ساخرة، فالحوارات والمعلومات تكاد تكون في أكثر الأوقات متناقضة مع ما يدور من حديث بين الأشخاص في الواقع، ذلك الشيء نجده في مشهد يجمع “ليدا” مع والدتها، فبينما هي تدافع عن استحالة العثور على رجل مناسب وتكوين عائلة في ظل الظروف الاقتصادية السيئة وبسبب فقرها وعدم حصولها على عمل، نسمع الرئيس الروسي بوتين وهو يتحدث في مقابلة تلفزيونية، عن ضرورة زيادة عدد سكان روسيا، وأن على كل عائلة إنجاب ثلاثة أطفال على الأقل.

“الرجال لا يحبون المرأة الذكية”.. قواعد الإغواء
يصاحب الوثائقي الدنماركي الروسي المشترك “ليدا” في رحلتها إلى المدرسة، وهناك يوثق ما يجري داخلها، حيث يقدم الأستاذ لطالباته دروسا عملية تركز على جسد المرأة وأساليب إغوائها للرجل الغني، الكلام مفتوح وسبل الإغواء ملتوية، تعتمد على التمثيل والخداع لا على المشاعر الحقيقة.
شِعار الأستاذ المعلن “الرجال لا يحبون المرأة الذكية”، وعلى ضوئه يجري تلقين الفتيات كيف يقدمن أنفسهن ككائنات بليدة ذات أجساد جميلة مغرية، وملابس مثيرة يظهرن فيها كدمى، تجلب أنظار الرجال، فالجمال والجسد هما كل ثروتهن ومصدر إغواءهن للرجل الغني، هذا هو الدرس الأهم الذي عليهن تعلمه في المدارس الخاصة التي بدأت بالانتشار في كبريات المدن الروسية.
“حياتي ستنتهي”.. مشهد الذروة في مسرحية الزواج
ينصح المعلم “ليدا” بتمثيل دور العاشقة البريئة أمام صديقها العسكري المتزوج، عليها الادعاء أمامه بأن حياتها ستنتهي إذا لم يتزوج بها، وتحقق المسرحية التي يوثق الفيلم جانبا منها غايتها، فيقبل العسكري بالزواج بها شرط بقائها في البيت ومن دون عمل.
بعد ست سنوات تدخل كاميرا الوثائقي إلى شقتها لتجدها كئيبة تتذمر من عيشها، ففي حديث لصديقتها تبوح لها عن شكّها بخيانة زوجها لها، فهو يسافر لأيام ويخرج كل ليلة ولا يعود إلا مع الفجر، لكنها تقنع نفسها بأن مفاتحته أو تركه سيضر بها وبابنتها الصغيرة، وستخسر كل ما حصلت عليه بالكذب.
تعترف أن لا حب يجمع بينهما ولا وجود لعلاقة أسرية سليمة، بل المصالح هي التي تبقيها مع هذا الرجل الذي يتعامل معها كسلعة قد دَفع ثمنها، وهي بدورها لا تريد المغامرة بخسارة بما حصلت عليه حتى لو جاء على حساب كرامتها.
أثناء حديثها مع صديقتها يَسمع المُشاهد صوت “بوتين” وهو يتحدث في ندوة تلفزيونية عن المساواة وتكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة والقيم النبيلة التي تقدمها الأسرة الروسية كمثال لبقية المجتمعات.

كآبة فيكا.. غربة بين الشريكين
حالة الشابة “فيكا” المواظبة على مراجعة طبيب نفسي، يتناولها الوثائقي من خلال معلومة وردت في مقابلة تلفزيونية كانت تُبَث وقت التصوير في شقتها تقول؛ إن نسبة الطلاق في روسيا هي الأعلى في العالم. مشكلتها الأكبر أنها تشعر بالغربة في بيتها وأنها لم تعد تحب زوجها لقلة اهتمامه بها وتجاهل وجودها.
تعمل “فيكا” مع زوجها في متجر خاص بهما، وأثناء فتح فرع جديد له ظهر الزوجان كغرباء عن بعضهما، ففي البيت لا يتبادلان الحديث إلا نادرا ولا يربط بينهما أي رابط حميمي، أما في العمل فهي مجرد عاملة لا رأي لها ولا دور حقيقي في إدارة المتجر، فالرجل لا يثق بقدراتها ولا بإمكانية إنجازها أي عمل من دونه، وذلك ما دعاها للتفكير في الذهاب إلى “مدرسة الإغواء”، وقد استمعت إلى نصيحة الأستاذ المختص بعدم التفكير بالطلاق وتجنب إزعاج زوجها “فالرجال لا يحبون المرأة التي تثير المشاكل والمُتطلبة”، لكن تعليماته لها بكيفية إثارة مشاعره لم تفلح.
بعد فترة يعود الوثائقي ليجدها مطلقة ولكنها ظلت تعمل عند زوجها، السبب الذي تفسر به أمر بقائها قريبة منه في العمل رغم طلاقها منه هو أنها أرادت إسكات الآخرين، تشرح الضغوطات التي تعرضت لها بعد إعلان طلاقها من قبل الأهل والأصدقاء، وكيف وقف الجميع ضدها، وتعاملوا معها باعتبارها امرأة متهورة تُعَرض نفسها لخسارة كبيرة لا يمكن تعويضها.
أوروبا الشرقية.. ثقافة ذكورية متجذرة
ينقل الوثائقي حوارات ومناقشات جرت في برامج تلفزيونية بين أطراف متباينة الموقف من توصيف “ذكورية” المجتمع الروسي، فالبعض يعتبره أوروبيا متحضرا متخلصا من تلك الصفة وأنه يحسن معاملة المرأة، بينما يرى آخرون أن سلوك الرجل الروسي يعبر عن ثقافة ذكورية مترسخة، وأن الممارسات الفعلية تعمق من تفوقه.
من بين ما يرد من معلومات؛ أن فرق الأجور بين النساء والرجال في العمل يزيد على 30٪ لصالح الرجل، وأن فرص حصول الرجل على عمل هي أكبر بكثير من فرص المرأة، مما يدفعها للقبول بشروطه، وإذا رفضت فعليها أن تتحمل أعباء موقفها، مثل “فيكا” التي ظلت تواظب على مراجعة الطبيبة النفسية، وتحاول صديقاتها إقناعها بالعودة إلى “مدرسة الإغواء” ثانية.

امرأة الشوارع.. كسب ود الأغنياء
طبقا لتعليمات المدرس ظهرت الشابة “ديانا” في شكلها الجديد الذي نصحها به لكسب ود الأثرياء “كامرأة شوارع” على حد وصف زميلاتها لها، مع ذلك فرحت به وقررت المضي في تنفيذ دروس الإغواء عمليا.
مرت “ديانا” بتجربة حياتية مريرة، إذ أنها تزوجت في مرحلة المراهقة من شاب فقير مثلها وانفصلت عنه بعد رفضه فكرة إنجاب طفل منه، وقد واجهت ضغوطا عائلية ومجتمعية قاسية بسبب قرارها الاحتفاظ بمولودها البكر، وعانت بسبب فقرها وبؤس عيشها مع أهلها مشاكل نفسية، فكانت مجبرة على أخذ طفلها معها في جولات طويلة مشيا على الأقدام تجنبا للذهاب إلى البيت.
منزل وفلوس.. سطوة الحلم الوردي
في مَشهد لها مع شاب بسنها تربطها به علاقة عاطفية، يسألها عما تريده منه فتقول: أريد منزلا وفلوسا. لكن الشاب لم يكن يملك إلا صدق مشاعره، فرفضته وقررت المضي في البحث عن الثراء كما نصحها المدرس الخصوصي. دخلت عالم الليل وتعرفت على محاضر إيطالي في الجامعة انتقلت معه إلى منزله الصغيرة.
بعد سنوات يعود الوثائقي إلى بيتها الفقير في سانت بطرسبورغ مع الأستاذ الجامعي وقد كبر ولدها، ووجدها تضغط على الرجل لتوفير ما لا يستطيع براتبه القليل توفيره، ففترت علاقتهما بسبب عجزه عن تلبية ما تريد.
لم تغادر رأسها فكرة دخول عالم الأثرياء، بل ظلت تبحث عن سبل تحقيقها، ومن خلال مدرسة نمساوية للجمال وتعليم الإتكيت دخلت إلى عالم مختلف تصورت أنه يحقق لها كل أحلامها. يتوصل الوثائقي من خلال مرافقتها أثناء حضور الدروس الخاصة في المدرسة النمساوية إلى حقيقة وجود مدراس “إغواء” كثيرة في المدينة، مدارس ذات طابع رأسمالي يتوافق وجودها مع توجهات الرئيس “بوتين”.

على عتبات الكازينو.. أميرة موناكو
تظهر في الفيلم مقاطع مصورة مأخوذة من حوارات تلفزيونية يشدد طرف فيها على حقيقة نهاية مرحلة الاشتراكية في البلاد إلى الأبد، وبروز عهد رأسمالي جديد.
تجربة “ديانا” في المدرسة النمساوية تتفق مع وجهة النظر تلك، فمسارات الاقتصاد الروسي تتجه نحو رأسمالية تغذي النزعة الاستهلاكية عند الفرد، تلك النزعة يعبر عنها سلوك الشابة الروسية الفقيرة التي أرادت دخول عالم الأثرياء، حيث السيارات الفارهة والمطاعم الراقية والملابس المُبهرة، ويوجز ذلك المشهد الأخير من الوثائقي، حيث تظهر فيه مع ابنها في رحلة على حساب المدرسة إلى جزيرة موناكو الفرنسية. لقد أقنعها المدرسون بأنها ربما ستصير يوما أميرة لها، إذا توافقت بالكامل مع حياتها الليلية.
لا يدخل الوثائقي في تفاصيل ما وصلت إليه، بل يتركها عبر مقطع صوره ابنها لها بكاميرا فيديو، وهي تضع قدمها على عتبات كازينو قمار، ويترك للمُشاهد تصور نهاية مسيرتها وكيف ستُطبق عمليا دروس الإغواء التي تعلمتها في مدارس سان بطرسبورغ.