“رزق السينما”.. تمثال وثائقي تخليدا لرمسيس الفن السابع

عبد الكريم قادري

قليلون هم من كانوا يعرفون بأنه تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سنة 1966، ثم التحق بعدها بصفوف الجامعة حين احتل المركز الخامس على مستوى الجمهورية في شهادة الثانوية العامة، حتى أن العمل الصحفي الذي مارسه كان بعيدا عن ما عرف به في الساحة الثقافية، إذ كان محررا للأخبار في ماسبيرو، وعاش متواضعا يقدم العون للآخرين ويأخذ بيدهم ولا ينتظر الشكر من أحد، ورغم خبرته الكبيرة وتجربته الرائدة في مجاله فإنه كان يصغي إلى من هم أقل منه سنا وتجربة بأُذن من يبحث عن الإفادة رغم تقدم العمر.

بحث دائما عن التجارب الجديدة وقدمها مطلعا على آخر ما يكتب وينشر وينتج، وواكب كل جديد واحتفى به، وكان عشاق السينما من المصريين والعرب يرون بعدسته ويقرؤون بقلمه وقائع وأحداث المهرجانات السينمائية الكبرى لأكثر من ثلاثة عقود كاملة، يحاور ويناقش ويستضيف أهم نجوم السينما وصنّاعها.

من هنا تحول إلى مرجع مهم وخزانة مليئة بمعلومات غير محدودة عن السينما العالمية حديثها وقديمها، لدرجة أنه بات يعرف تفاصيل كل فيلم تقريبا، ويحيط بجميع تفاصيل المدرسة التي ينتمي إليها وما حققته من جماليات، لهذا اعتبر فقدانه خسارة كبيرة وحسرة مرة تجرعها صناع السينما بصعوبة. توفي عن عمر ناهز 77 عاما، أنفق أكثر من ثلثيه في عشق الفن السابع وتفاصيله، إنه الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله.

 

رزق الله.. حارس معبد السينما الذي هام في تفاصيلها

تناول الفيلم الوثائقي “رزق السينما” (2019) للمخرج عبد الرحمن نصر، المنتج من قبل إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ41؛ مسيرة الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله (1942-2019)، ويتطرق لأهم المحطات التي مر عليها الناقد الراحل بداية من مولده ونشأته، مرورا بتجاربه المهنية والحياتية وإظهار علاقته وارتباطه بالسينما، وانتهاء بمحطته الأخيرة أثناء عمله كمدير فني للمهرجان المذكور.

تستحق هذه التجربة الرائدة على العديد من المستويات أن توثق في فيلم وثائقي نظرا للأهمية والأثر الكبير الذي خلف الناقد شريف رزق الله، خاصة أنه قدم الكثير للسينما ويستحق أن يكون قدوة للكثيرين، فتظهر كيفية ارتباط الناقد بالفن السابع وشغفه به، وقد جاءت مواد الفيلم منوعة، وهذا ما خلق قوته التوثيقية وجماليته الفنية.

 

شهود على العصر.. ولا ينبئك مثل خبير

نجد بأن المخرج عبد الرحمن نصر قد استعان بالكثير من الشخصيات السينمائية التي كانت قريبة جدا من الناقد رزق الله ورافقته كل سنوات حياته تقريبا، وكانت هذه الشخصيات مقسمة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول ممن شاركوه الشغف السينمائي من صنّاع ونقاد هذا الفن، والثاني من المهنيين الذين عرفوا وعاصروا تجربته المهنية من خلال عمله في هيئة الإذاعة والتليفزيون، أما القسم الثالث فتعكسه الأسرة والعائلة، وقد تجلى الخيط الرفيع الذي كان يربطها ويحفظ انسجامها من خلال الجانب الإنساني الذي كان عليه الناقد يوسف شريف رزق الله في عمله وممارسة شغفه والتعايش مع أسرته، وهذا ما ولد التكامل المنشود وأبان عن العناصر المهمة التي ينطلق منها الفيلم الوثائقي، ويرتبط بها المشاهد العادي الذي لا يعرفه، وكأن المخرج استشرف ما يود المتلقي معرفته، لهذا قدم له المواد الضرورية لتشكيل إحاطة شاملة.

وقد أعطى حضور هذه الشخصيات الوازنة في العمل مصداقية كبيرة، خاصة وأنها شخصيات كانت ولا تزال تساهم في صناعة السينما المصرية عبر حقب زمانية مختلفة، مثل الكاتب وحيد حامد، والفنانين يسرا وحسين فهمي، والمخرجين يسري نصر الله وهالة خليل وخالد الحجر وخيري بشارة ومروان حامد، والنقاد كمال رمزي وطارق الشناوي ومحمود عبد الشكور وخالد محمود ورامي عبد الرازق ورامي المتولي، بالإضافة إلى الإعلامية درية شرف الدين وزيرة الإعلام السابقة، والمهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون السابق، والإعلامي شريف نور الدين، والناقدة ماجدة واصف رئيسة مهرجان القاهرة السابقة، ومدير التصوير سعيد شيمي، والسيناريست سيد فؤاد رئيس مهرجان الأقصر.

مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته الـ41 يحتفي بمديره الفني الراحل يوسف شريف رزق الله بتسمية الدورة على اسمه

 

رثاء توثيقي.. بين المعلومة والفيض الروحي

استطاع ضيوف الفيلم جميعا أن يفككوا العلاقة التي كانت تجمعهم بشريف رزق الله، وقدموا معلومات وشهادات مهمة عنه، ولم تكن هذه المداخلات جافة عبارة عن رثاء شفهي أو فيوضات روحية، بل جاءت مقرونة بتقديم معلومات مهمة ستكون مرجعا توثيقيا لهذه الشخصية، وكمثال على هذا ما تحدث به الناقد السينمائي كمال رمزي عن المساعدة التي قدمها له ولغيره من الصحفيين والنقاد من خلال زيارتهم الأولى لمهرجان كان السينمائي.

كما قدم محمد حفظي المنتج ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي شهادة مهمة عن الراحل، حيث قال إنه هو من اقترحه على وزارة الثقافة ليكون على رأس المهرجان، ومن جانب آخر قدم الناقد رامي المتولي شهادة تعكس ما كان يقوم به شريف رزق الله من خلال اكتشاف الأسماء النقدية الشابة، حيث اتصل به بعد أن قرأ مراجعاته النقدية، واقترح عليه أن ينضم إلى لجنة المشاهدة بمهرجان القاهرة بوصفه مديرا فنيا، وهذا ما فعله مع الناقد أندرو محسن وآخرين، وهو ما يدل على حرصه على أن يستعين بالأسماء الجديدة التي تحمل رؤى وأفكارا مختلفة عن الجيل القديم بحكم تغير المعطيات.

 

غراس 60 عاما.. مشتلة الوعي السينمائي

ساهم الناقد يوسف شريف رزق الله في نشر الوعي السينمائي في مصر على مدار 60 عاما كاملة، وكانت بداية هذه الرحلة من خلال انضمامه إلى جمعية الفيلم وهو ابن 17 عاما، ليستمر عطاؤه طوال المدة المذكورة، حيث أسس العديد من الحصص التلفزيونية التي تهتم بالسينما وتخدمها مثل برنامج “نجوم وأفلام” (1980-1981) و”تيلي سينما” (1981-1995) و”ستار” التي يجري فيها بعض اللقاءات مع نجوم السينما العالمية (1986 إلى غاية 1994) و”سينما في سينما” (1994-2004)، و”الفانوس السحري” (2008-2004)، و”سينما رزق الله” (2008-2010)، وغيرها من المبادرات الإعلامية الأخرى التي كان فيها مقدما أو معدا ومقترحا.

كما عمل رئيسا لتحرير النشرات الإخبارية باتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، ثم أصبح رئيسا لقناة النيل الدولية (1997-2002)، ثم شغل منصب رئيس قطاع التعاون الدولى بمدينة الإنتاج الإعلامي، ورئيس لجهاز السينما بالمدينة، كما شغل منصب السكرتير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي منذ عام 1987 ثم أصبح مديرا فنيا للمهرجان منذ عام 2000، وتولى رئاسة جمعية الفيلم المصرية (1978-1994)، وشارك في لجان التحكيم في مهرجانات عديدة في فرنسا وإيطاليا وهولندا.

صورة تجمع الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله مع محمد خان وهاشم النحاس وأحمد زكي وعلي الوباشي

 

“رزق السينما”.. حفظ الذاكرة السينمائية الجمعوية

فيلم “رزق السينما” عمل وثائقي يحتفي بالسينما وصناعها، وقد استطاع المخرج عبد الرحمن نصر أن يحول هذا العمل إلى وثيقة مهمة ستساهم بشكل كبير في حفظ الذاكرة الجمعية للسينما المصرية، كما أن المخرج لم يغفل الجانب الجمالي الذي انعكس بشكل كبير في عمليات ضبط الكادرات التي خرجت من الأساليب التقليدية التي تعمد إلى إبراز الضيف في إطار مثبت ومحدود.

أما في هذا العمل فإنه يتحرك بكل أريحية، كما كانت الكادرات متنوعة وملتقطة من زوايا متعددة وبعدسات مختلفة، وكأنها عملية موازنة بين هذه الحركات وموضوع الفيلم الذي يخاطب المشاعر والعواطف ولا يعترف بالمقاييس والجمود، كما كانت المواد التي استند إليها العمل منوعة، مما ساهم في قوة هذا الفيلم الذي كتب له السيناريو وأعده مصطفى حمدي، بمشاركة شريف بديع النور ونيفين الزهيري ومنة محمود ورحاب بدر، ومدير التصوير عمرو عادل، ومونتاج هالة محيي الدين.