“لمزروع”.. رحلة على ضفاف الماضي تنسجها الجدات

المصطفى الصوفي

شمس الظهيرة ليست حارقة كفاية كما تعوّد أهالي الدوار في هذه القبيلة النائية أن يستشعروها في أواخر فصل الصيف وبداية الخريف، فأشعتها تميل خفيفة حينا على الهضاب المقابلة للبيوت الطينية كجناح حمامة، وأحيانا تنفرج من بين أغصان شجرة شامخة بجوار منزل يوجد في أعلى تلك الهضبة.

اجتمع الكثير من القوم في الساحة المحاذية لبيدر الحاج الجيلالي، وأخرجوا خيمة منسوجة من شعر الماعز من إسطبل البهائم، فنشروها وبسطوها طولا وعرضا، بينما كانت رائحة الرطوبة منها تملأ المكان.

في مثل هذا اليوم من خميسنيات القرن الماضي اجتمع هؤلاء النفر ومنهم خياطون بارعون حضروا لخياطة هذه الخيمة الكبيرة استعدادا لاحتفال نهاية موسم الحصاد، حيث أهالي القبائل يركبون الخيول المطهمة مبتهجين في أشهر كرنفال يستحضرون فيه مجد القبيلة وقيم الشهامة والفروسية والصيد وحماسة العشق والوجدان.

كان الخياطون في ذلك الزمان يأتون بطلب من الأهالي ليخيطوا لهم أزياءهم، وكان هذا اليوم حافلا بالعمل والحكايات والبسط والمأثورات، والشعر العامي والفنون الشعبية، ليتوج بفرحة اللابسين ومأدبة غداء يطهى فيها أكثر من أربع دجاجات.

 

الإبرة والخيط.. طقوس موسم الفروسية

الخيط والإبرة وما بينهما، حكايات وثقها المخرج المغربي محمد عنق في فيلمه الأخير “لمزورع”، حيث ترك والدته (الجدة) تحاكي زمنا ولى وهي تقص على الحفيد رحلة إبرة وخيوط حاكت محبة أهل الدواوير القبائل بفخامة الأزياء والخيام والقمصان، وتذكارات من ثياب تصنعها الحبيبات للعشاق ومعها يطير الحمام.

يتحدد المشهد العام لفيلم محمد عنق من خلال تصويره في فضاء قروي جذاب، حيث تجلس الوالدة ربما في نفس المكان الذي شهد تلك القصص والصور في اجتماع القوم لخياطة خيام موسم الفروسية في موسمي الصيف والربيع والقمصان والسراويل البسيطة والكثير من آلات الزينة التي تحتاجها النساء والرجال في حياتهما اليومية.

ينكشف الغطاء في حكي المرأة العجوز عن الكثير من الأزياء التي كان يصنعها أهل البيت، وتسمى فراجية وتشامير” وبدعية وجلابة وسلهامة، وهذه الأزياء ما يزال الكثير من الناس يحافظون على لبسها كزي تقليدي، خاصة في المناسبات الدينية كأعياد الأضحى والفطر والمولد النبوي الشريف وغير ذلك من المناسبات الخاصة الأخرى.

تضيف الجدة في حكيها أن الكل كان يخيط، وكان للخياط شأن عظيم، لكن مع مجيء الحماية الفرنسية في العشرينيات من القرن الماضي تغيرت الأمور، وبدأت مظاهر الموضة تظهر شيئا فشيئا.

إذا كان فيلم “لمزروع” وهو من مونتاج منير علوان يوثق للحظة تاريخية من خلال أهمية حضور عنصر الخياطة بدل الألبسة الجاهزة التي لم تكن متوفرة في ذلك الوقت، فإنه من جانب آخر يوثق لكثير من البساطة التي يعيشها سكان القرى والأرياف الذين ما زالوا يستعينون بالإبرة والخيط كلما دعت الظروف.

الجدة والدة المخرج محمد عنق تُخيّط ثوبها وخلفها تبدو طبيعية قرية آيت عمار

 

أصالة الجدة وكرمها.. جمالية الهوية والتوثيق

رغم التطور الذي حصل على مستوى الأزياء والألبسة، فإن الجدة تحاول أن تعيش وجدانيا ذلك الزمن الذي ولى دون رجعة، وهي تحاول تلقين طقوسه للحفيد، سواء أثناء الخياطة والحكي أو خلال القبض على الديك، من أجل أن تهيئ وليمة المجتمعين لخياطة الخيام.

اعتمد المخرج على الكثير من المكونات الفيلمية القوية من حيث المبنى العام في فيلم “لمزروع” الذي حصل خلال بداية الشهر الماضي على الجائزة الكبرى للدورة الرابعة لمهرجان سينما المجتمع ببئر مزوي إقليم خريبكة، وتحددت تلك المكونات الأساسية من خلال موضوع الهوية ممثلا في عنصر الجدة بلباسها الأصيل ووشاحها وكرمها ومحاولة ترسيخها لهذه القيم الجميلة في نفس الحفيد وذاكرته.

كما أن حضور عنصر الحكاية والقصة في الفيلم يعد نسقا آخر لجمالية التوثيق الفيلمي كمعالجة خلاقة للواقع ونمط عيش وحياة أهل البوادي والقرى في تلك المنطقة، بعيدا عن كل مظاهر الحضارة والتمدن والموضة، ويمكن أن نشير إلى أن المخرج على مستوى الصورة خطف لُب الملتقي من خلال اعتماده على المشاهد الخارجية بأصواتها الطبيعية الصافية.

كان المتلقي من خلال تلك المشاهد الطبيعية العذراء مشدودا بقوة بين متابعة حكاية الجدة وطريقة خياطتها لثوبها، وبين الصور الطبيعية التي كانت تحيط بالمكان، وهي صور تلقائية وبسيطة لكنها عميقة عمق تلك الربوع الآسرة بظلالها وأفقها المنفتح على الأحلام.

يسرح أفق تلك الصور الطبيعية بالمتلقي إلى فضاءات أكثر إثارة وخصوبة في قرية آيت عمار بمنطقة بني خيران المحاذية لمنطقة زعير و”كريفلة”، حيث الجبال وأشجار السرو والعرعار، وطنين النحل والحجل البري، وبيض السمان ومكر الثعالب والذئاب، وحكايات الرعاة مع الصيادين وأسطورة الأرانب التي لا تقهر.

الجدة تنتهي من تطريز عقد الأزهار الذي ستهديه لحفيدتها كتعبير عن المحبة وصيانة للعادات والتقاليد

 

عقد الأزهار التشاركية.. طقوس فصل الربيع

قدم محمد عنق في جانب آخر من عمق الصورة شاعريتها التي تناسلت بفيض من المشاهد تراءت في الخلف عبر هضاب وجبال بعيدة، أو عبر تلك الأراضي المنبسطة وقت الغداء، بينما كان الأطفال يمرحون، والجدة تخيط حبات الأزهار والأقحوان واحدة واحدة لصنع عقد ليس له مثيل.

إن الاحتفاء بطقوس فصل الربيع من خلال عقد الأزهار يعيد إلى الجدة مرة أخرى احتفال القبائل بعيد العرش وبمواسم الأولياء والأضرحة، حيث كانت تُبنى فيها الخيام التي يخيطها الفنانون المحترفون، واشتهرت مناطق عديدة بتلك الطقوس في فصل الربيع، ومنها وادي زم ومولاي بوعزة واثنين بني خيران وأولاد إبراهيم، وغيرها من القبائل المشهود لها بالخيل والبارود والفروسية والفنون الشعبية الباذخة.

يشكل عقد الأزهار الذي تتشارك في إبداعه الجدة التي تخيط والأحفاد الذين يلتقطون الأزهار رابطا مقدسا ولحمة محبة تشاركية لصيانة العادات والتقاليد والحفاظ على مكونات الهوية والتاريخ بالقبيلة التي تفيض بالكثير من القيم الجمالية ذات الصلة بالأرض والوجدان والإنسان. إن صورة تعليق عقد الأزهار (لمزروع) في السيارة هو شكل آخر من أشكال العناية الكبيرة والاهتمام بما تتركه الأمهات والجدات.

كما يعد العقد الذي تتعدد أسماؤه رمزا من رموز الحفاظ على الموروث الطبيعي والتراث المادي وغير المادي الذي تتعدد مكوناته وتعابيره، سواء في الموسيقى أو الأعمال اليدوية البسيطة والحكاية، أو الأشكال الاحتفالية الفردية والجماعية وغيرها.

مخرج فيلم “لمزروع” محمد عنق مع والدته، حيث كانت والدته مَن ألهمته لصناعة فيلمه

 

“هواجس ظلت تختزنها ذاكرتي”.. إحياء ما اندثر من الماضي

قال محمد عنق في تصريح خاص للجزيرة الوثائقية عن فكرة الفيلم: هي عبارة عن هواجس ظلت تختزنها ذاكرتي ووجداني بالرجوع إلى طفولتي الحالمة والسابحة في الماضي الجميل، حيث كنت أعايش ما كانت تصنعه والدتي بأيديها من أدوات الزينة من عقيق بما يثيره من دقة وتنظيم وجمال.

وأضاف أن تلك العملية الإبداعية كانت تُشكَل بطريقة رائعة من خلال توظيف الإبرة والخيط بما يشبه تشكيلات الزربية بعدة أشكال تنطبق حتى على الأحزمة النسائية بنقوش تتخذ عدة أسامي منها “كرش لحنش” و”الكمرة المنقوشة” و”المنشار” و”بول الثور” و”عمو”، وهو عبارة عن مربع بداخله مثلث ونجمة خماسية وثلاثية.

وأوضح المخرج أن الفكرة قادته إلى تصوير الفيلم بحيث لا يزال يحتفظ بسوار والدته الذي كانت تضعه في حزامها، إضافة إلى احتفاظه بحزامها المنقوش بألوان زاهية، مبرزا أنه اعتمد على تحويل هذه النوستالجيا إلى وظيفة الإبرة والخياطة كما كانت تمارسها القبيلة.

وأضاف:” لقد اتخذتُ من حكي جدتي وسيلة وخيطا ناظما بين الماضي والحاضر، وذلك لاستحضار طقوس وعادات أضحت تتراجع -إن لم أقل في طور الانقراض- مثل خياطة الخيام المصنوعة من شعر الماعز والإبل بالمخيط إلى جانب خياطة “تنشاب” أكياس كبيرة منسوجة تجمع فيها الحبوب وتسمى محليا “التليس”.

وأكد أن الحكي كوثيقة غير مادية هو مستمد من خلال نقل هذه المعلومات إلى أبنائه، وما اختياره للوالدة إلا طريقة للتقرب أكثر مما كان يجري في أعراف القبيلة ويومياتها برمتها، وكشف في هذا الصدد أن الوالدة -أطال الله في عمرها- عايشت حقا كيفية اعتبار الإبرة جانبا مهما ضمن وظائف أساسية تساهم في التمسك بالتراث.

الجدة وأحفادها في الطبيعة، حيث حضرت المرأة بشكل قوي في الفيلم وذلك لما تمثله في المجتمع

 

مكون القبيلة في المجتمع المغربي.. بعد ثقافي واجتماعي

أكد المخرج أيضا على أن الفيلم حمل الكثير من الحقائق من خلال حكايات الوالدة، ومن أبرزها قدوم خياط بصفة دائمة لدى جدي بهدف خياطة جلاليبه وبرانسه، لأنها جزء من ذكورية المجتمع وأهبته وشجاعته كما يمثلها الفرسان.

حضرت المرأة بشكل قوي في الفيلم لما كانت تمثله من دور في المجتمع، وبذلك يوضح المخرج الحضور الفعلي للعنصر النسوي، وذلك لا يخفي جانبا مهما من هوية المرأة ومكانتها بما كانت تقوم به من وظائف فضلا عن حضور الطبيعة والهوية والتاريخ، وشدد على أهمية مكونات القبيلة في المجتمع المغربي التي تساهم في تمثيل ذاكرة جماعية، كما تختزل البعد الثقافي والتقليدي من الناحية الاجتماعية بما تمارسه من كرم وضيافة وتشبث بالأرض.

بالنسبة لحضور الأزهار في الفيلم قال محمد عنق: الغاية من ذلك إبراز قيمة الإبرة ووظيفتها الدائمة في الحياة اليومية للإنسان خاصة في أوقات التمتع بالطبيعة في فصل الربيع، كما أن الإبرة تُعد صورة تستحضر الجانب الترفيهي الذي كنا نقضيه ونحن أطفال بالتنزه وصناعة عقود مركبة من أزهار جميلة نتسلى بها ونحتفظ بها لأوقات معينة.

أما حضور الإبرة في الفيلم فيدخل ضمن تركيبة الحكي، بما ستقدمه الجدة لأحفادها من هدية، وذكرى الأمل والاعتراف بوظيفة السفر والحلم، كما تجسد ذلك في وضع العقد بالواجهة الأمامية للسيارة.

مزرعة الدجاج التي تمتلكها الجدة أمام منزلها، كنوع من توثيق فضاءات البادية وقضاياها المرتبطة بالأرض والإنسان

 

جمال البادية الأخاذ.. منبع القص الوثائقي

يستلزم شكل هذا المشهد كنتاج وتتويج ضرورة التعامل مع الأزهار بنوع من الاحترام والتقدير، كهدية وذكرى جميلة من يد أم، كأنما تكرم نفسها وتمتع أحفادها وولدها بطريقة غير شعورية، بما يتجاوز تنهيدة التأسف على اللحظات الحميمية التي لم يعد لها وجود كما في الماضي.

وعن أهمية الفيلم الوثائقي القصير في تحصين ذاكرة المجتمع خاصة في القرى والأرياف، أكد المخرج محمد عنق أن هذه العملية الإبداعية تصبح ضرورية أيضا في توثيق فضاءات البادية وقضاياها المتعددة المرتبطة بالأرض والإنسان والقبيلة بطريقة سلسة، لا بالكيفية المقحمة كما لو كانت إخبارا أو حكيا اعتياديا، وأضاف أن العملية تستلزم توظيف الحكي الانسيابي وتغليب الصورة بما يمتع العين والقلب، فذلك أمر ملح في مثل الأعمال السينمائية التوثيقية للبادية.

كما شدد على أن البادية تشكل عنصرا مهما في الفيلم الوثائقي، وتظل منبع الحكي والأفكار والغوص في الواقع اليومي المعيش لا كما نسمع، بل بما يمتع العين والروح بجمالية السينما الوثائقية، وبالبحث في الهامش المنسي الذي يتحول إلى قداسة وجمال أخاذ لا يجانب الذاكرة والتاريخ الجمعي.


إعلان